تتصف العلاقة بين النموّ والتشغيل في لبنان بالضعف في حالتي الانتعاش والانكماش، وهذا ما نلمسه في الأزمة الراهنة التي تراجع خلالها التشغيل بنسب أقلّ من انخفاض حجم الاقتصاد. ومع أنّ هذه الصفة لصيقة عموماً بحالات الركود الاقتصادي أينما كان، إلا أنها أكثر حدّة في لبنان لأسباب بنيوية؛ إذ إن مرونة نموّ فرص العمل، إلى النمو الاقتصادي، هي طوال الوقت أقلّ من الواحد الصحيح. فعلى سبيل المثال حصل تحسّن محدود في الوظائف خلال فورة النموّ بين عامَي 2007- 2010 فتراجعت البطالة بنسبة 2.7٪ في مقابل نموّ اقتصادي تراكمي تجاوز 40٪ في أربع سنوات. وتكرّر الأمر نفسه في مرحلة التباطؤ والركود بين عامَي 2018-2011 التي شهدت ارتفاعاً محدوداً في معدلات البطالة (نحو 4 نقاط مئويّة) في ظل تباطؤ اقتصادي عميق سبق الانهيار.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ونشهد اليوم ظاهرة مماثلة مع تسجيل التشغيل تراجعاً بنسبة تقلّ عن نصف نسبة انكماش الناتج الذي خسر نحو 75٪ من قيمته في ثلاث سنوات. ويُعزى انخفاض مرونة التشغيل إلى طبيعة النموّ الذي يتركّز في القطاعات الريعيّة والمنتجات غير القابلة للتبادل الدولي التي لا تولّد الكثير من الوظائف في مرحلة الانتعاش، ولا تخسر الكثير منها في حالات الانكماش.

خصائص النموذج المؤثّرة على سوق العمل
نعرض في الآتي أهمّ العوامل البنيويّة المسبّبة لهشاشة سوق العمل والتي ضاعفت من تأثيرات الأزمة عليه ويُخشى أن تزيد من صعوبة التعافي. فقد حظيت القطاعات غير المولّدة لفرص العمل بالأولوية على غيرها من القطاعات في سياسات الحكومة وبرامجها واهتماماتها، فكانت مقصد المستثمرين ومحلّ عنايتهم. ففي سنوات ما قبل الأزمة بلغت حصّة قطاعات المال والتأمين والبناء والعقارات وخدمات الأعمال نحو 37٪ من الناتج، فيما شغّلت 17٪ فقط من الأيدي العاملة. وقد أدّى القطاعان المالي والعقاري دور رافعة النمو في نموذج ما بعد الطائف وظهر ذلك بوضوح خلال طفرة 2007-2010، إلّا أنّ مساهمتهما في توليد فرص العمل ساوت نصف حصتيهما في الاقتصاد.


ويعمّق الطابع الريعي للاقتصاد اللبناني من ضآلة قدرته على توليد فرص العمل. وبحسب تقديراتنا فإنّ المداخيل الريعيّة أو غير المرتبطة بالإنتاج بلغت عشيّة الأزمة نحو 40٪ من الدخل الوطني المتاح، منها نحو 10 مليارات دولار (15609 مليار ليرة) للفوائد الدائنة (للمودعين)، ونحو 15 مليار دولار (22554 مليار ليرة) للفوائد المدينة سنوياً. ولم تقلّ أرباح التفرّغ العقاري عن ثلاثة مليارات دولارات سنوياً وأكثر من ذلك في سنوات الذروة (2007-2010). وتشكّل التحويلات مصدراً أساسياً لدخل المقيمين فتجاوزت في بعض السنوات 10 مليارات دولار، ولم يقلّ متوسطها عن 8 مليارات دولار منذ عام 2006 وحتى نشوب الأزمة. وفي المقابل لم تزد الفاتورة الإجماليّة لأجور القطاعين العام والخاص 14 مليار دولار، أي أقل من مجموع الفوائد المدينة.

1- تصدر المنتجات غير القابلة للتداول الدولي
ارتفعت باطّراد مساهمة هذه المنتجات في مُخرجات الاقتصاد اللبناني، مدفوعة بسياسات مالية ونقديّة ملائمة لها، فيما كانت الرياح تهبّ لغير مصلحة القطاعات القادرة على المبادلة الدوليّة. لكن تأثير الانهيار الاقتصادي كان أشدّ وقعاً على الأنشطة الموجّهة لتلبية الطلب المحلّي (كالتعليم والصحّة والاتصالات...) مقارنة بالموجّهة نحو الخارج، إذ شهدت انكماشاً وتراجعاً في التشغيل وفي المداخيل أكثر من غيرها. وفي العموم كلما كانت المنتجات أقلّ قابلية للتبادل الدولي زاد تأثّرها بصدمات الصرف والأزمات الاقتصاديّة. لكن الأرقام لم تعبّر بصورة كاملة عن هذه الحقيقة، كما لم تظهر بعد كل الفروقات بين القطاعات بحسب تصنيفها لجهة التبادل الخارجي أو عدمه، ومردّ ذلك إلى الحماية التي يحظى بها القطاع المالي، وبقاء حجم التشغيل الظاهري على حاله في القطاع العام (مع تراجع كبير في الإنتاجية)، فضلاً عن أنّ الارتفاع الكبير في كلفة الطاقة قلّل في المدى القصير الفوارق بين القطاعات القابلة منها وغير القابلة للتبادل.

2- غلبة الأنشطة المنخفضة التعقيد والإنتاجية
تشغل الأنشطة الاقتصادية ذات الإنتاجية المنخفضة وتلك الواقعة على طرف خريطة الإنتاج (في الصناعة خصوصاً) صدارة المشهد الاقتصادي في لبنان (مثل صناعات التركيب والتجميع في المولّدات والأجهزة الكهربائيّة والتعبئة والتغليف في الدواء)، فيما تتراجع الأنشطة ذات الإنتاجية العالية والواقعة في قلب خريطة الإنتاج (كالسلع التكنولوجيّة)، وهذا يفقد لبنان، شأنه شأن دول مماثلة له، الروافع القويّة التي تمكّنه من النمو والتنمية وتوليد فرص العمل واستيعاب رأس المال البشري ومواجهة المصاعب.


ومن أهمّ المؤشرات على تصدّر الأنشطة الهامشيّة: تدنّي متوسط مؤشّر التعقيد الاقتصادي في لبنان الذي سجّل خلال السنوات السابقة للأزمة نحو 0.3، مقارنة بـ1.71 في تشيكيا و1.89 في سنغافورة. ووقوع معظم المنتجات عند أطراف فضاء المنتجات، ما يعزّز الاعتقاد بتدنّي المخزون المعرفي في الصناعة. يُضاف إلى ذلك صغر حجم المؤسّسات (90٪ منها فردية أو صغيرة) وامتصاص القطاع غير النظامي كتلة كبيرة من اليد العاملة قبل الانهيار وبعده. وتعبّر هذه الحقائق عن التبسيط الذي تتسم به العملية الإنتاجيّة في لبنان ما يؤدّي إلى تجميع الأنشطة ذات الإنتاجية المنخفضة فيها، وتضعف قدرتها على استيعاب المعرفة. وهذا ما نجده في الفروقات المحدودة في الأجور قبل الأزمة وبعدها بحسب مستوى التعليم، الذي لم يكن بحال من الأحوال عنصر حماية معتداً به من الأزمة.

3- الأولوية لرأس المال على القوى العاملة
رغم تصنيف الاقتصاد اللبناني في عداد اقتصادات البلدان المتأخرةـ فالمفارقة أنّ نشاطه الإنتاجي يتّصف بكثافة رأس المال. ومن خصائص النموذج اللبناني مبالغة المؤسّسات في ضخّ الرساميل على حساب استخدام اليد العاملة عند توسيع أعمالها، ما أدّى إلى بروز ظاهرة تعميق رأس المال المترافقة مع انخفاض في الإنتاجية. ومن أبرز المعطيات الدالة على هذه الظاهرة تقلّص حصّة الأجور من الدخل الوطني إلى نحو الربع قبل الأزمة، ثمّ إلى نحو 15٪ تقديرياً بعدها، ونمو مجموع قروض القطاع الخاص من المصارف بأسرع من نمو اليد العاملة.

بالأرقام

40.7%
هو معدّل البطالة في بعلبك الهرمل وهي المنطقة التي تعاني من أعلى نسبة بطالة، يليها الجنوب والبقاع
50.1%
هو معدّل البطالة الجزئيّة في لبنان في عام 2022 وهو يمثّل ارتفاعاً كبيراً من 16.2% في عام 2019
36.5%
هو معدّل البطالة عند المقيمين غير اللبنانيين في عام 2022 وهو يمثّل ارتفاعاً من نسبة 8.7% في عام 2019


أمّا المؤشر البارز على انخفاض إنتاجيّة رأس المال، فيتمثل في ارتفاع معامل رأس المال إلى الناتج Capital-Output ratio الذي كان يساوي 0.36 عام 1998 ثم ازداد تدريجاً ليصل إلى 2.07 عشيّة الأزمة. علماً بأن النسبة الفعليّة هي أعلى من ذلك لعدم توفر إحصاءات عن تكوين رأس المال من مصادر خاصة أو غير مصرفيّة أو في قطاعات غير منظّمة.
وفي الوقت نفسه، كانت إنتاجيّة العمل تتحسّن على نحو بطيء، فارتفعت نسبة الناتج المحلي إلى عدد العمال، من نحو 14 ألف دولار للعامل الواحد عام 1995، إلى أكثر من ذلك بقليل عام 2007، ثم إلى نحو 16500 دولار عام 2018 (وذلك بالأسعار الثابتة لعام 1995). ونلاحظ هنا أنّ إنتاجية العمل كانت تنمو بأسرع من نمو الأجور وأبطأ من نمو الناتح وأقلّ من تطوّر حصّة الفرد منه. ويؤكد الفارق بين نموّ إنتاجية العمل وتراجع إنتاجيّة رأس المال، الحقائق المتصلة بالنموذج الاقتصادي في لبنان، مثل ضعف قدرة الاقتصاد على استيعاب اليد العاملة الماهرة وذات التأهيل العالي، وتركّز الرساميل في قطاعات ضعيفة الإنتاجيّة والتعقيد الأمر الذي حال من دون تجسّد التكنولوجيا في إنتاجيّة العمّال، والمؤثرات الريعية التي تسمح بزيادة الدخل دون زيادة مقابلة في الإنتاج، والاستثمار الزائد في بعض القطاعات بما يفوق قدرتها الاستيعابيّة ويخفّض الكفاية الحدّية لرأس المال.

كيف أثرت الأزمة على العاملين بأجر؟
كانت أجور العاملين عُرضة لتأثيرات الأزمة أكثر من معدّلات التشغيل، إذ فقدت الأجور ما لا يقلّ عن 75٪ من قيمتها من بداية الأزمة حتى أول عام 2022، في حين تراجعت حصّة الفرد من الناتج لعموم المقيمين في المدة نفسها بنسبة أقلّ (60٪ تقريباً). وشمل الانخفاض كل فئات اليد العاملة بحسب مستوى التعليم من دون فروقات كبيرة بينها. وتراوحت نسب التراجع بين 72٪ للأفضل تعليماً، و75٪ و78٪ للأقل تعليماً، في حين كانت البطالة والهجرة بين الفئات الشابة والماهرة أعلى منها لدى الفئات الأخرى.


ويضاف إلى المؤشرات الدالّة على هشاشة سوق العمل تجاه الأزمة أنّ نسب البطالة الجزئية (التشغيل الناقص) تضاعفت بوتيرة أعلى من البطالة التامة، فهذه الأخيرة وصلت نسبتها إلى 29.6٪ بعد الأزمة مقارنة بـ 11.4٪ قبلها، فيما زادت البطالة الجزئيّة من 16.2٪ إلى 50.1٪. كما تركّزت البطالة في الفئات الشابة (أقل من 25 سنة) وقاربت ضعف معدلها لدى من هم أكبر سنّاً. وكان وقع المشكلة أشدّ في مناطق الأطراف مقارنة بالعاصمة وجوارها.
ويعدّ عدم التطابق بين مستوى التعليم والوظائف من السِمات المرتبطة بانخفاض إنتاجيّة الاقتصاد وعدم نضوج سوق العمل وقد تفاقم ذلك في ظلّ الأزمة، حيث زاد التأهيل العلمي الناقص مقارنة بمتطلبّات الوظيفة من 26٪ قبل الأزمة إلى 38.3٪ بعدها، فيما انخفض التأهيل الزائد من 24٪ إلى 18.3٪. كما ارتفعت نسبة من يشغلون وظائف لا تناسب مستوى تحصيلهم العلمي (بالزيادة أو النقصان) من 50٪ إلى نحو 56٪ بعدها.

طريق التعافي تزداد صعوبة
فرض النموذج الاقتصادي نفسه على توزيع تداعيات الأزمة متأثّراً بنقاط ضعفه الرئيسيّة. لذا كان وقع الانهيار في مجال التشغيل والعمل أقوى منه في مناطق الأطراف، وفي القطاعات الجاذبة للشباب المؤهّل علمياً، ولدى فئة العاملين بأجر. ونلاحظ أيضاً أنّ القطاع غير النظامي كان أكثر عرضة لموجبات الأزمة فانخفضت حصّته من مجموع العمال مقابل ازديادها في القطاع النظامي، ومردّ ذلك إلى صعوبة تكيّف هذا القطاع مع الأزمات وضعف استجابته للسياسات إن وجدت، وإلى الهامش الواسع الذي يمتلكه في التعامل مع الأيدي العاملة فيه مقارنة بالقطاع الآخر.
وفي العموم لم تكن تأثيرات الأزمة على سوق العمل متناسبة ومتّسقة بين مجال وآخر، ربطاً بخصائص الاقتصاد التي خفّضت مرونة التشغيل للنمو، فأعطت رأس المال أفضلية على العمل، وزادت من حضور الأنشطة الهامشيّة قليلة التعقيد والواقعة عند طرف خريطة الإنتاج على حساب غيرها. ومع مرور الوقت هيمن الإنتاج غير القابل للتبادل الدولي على الاقتصاد الذي بات أكثر تأثّراً بالتقلّبات الماليّة والنقديّة كالعجز المالي وانخفاض القيمتين الداخلية والخارجيّة للعملة.
القطاع غير النظامي كان أكثر عرضة للأزمة فانخفضت حصّته من مجموع العمال مقابل ازديادها في القطاع النظامي


ومع أن ارتفاع البطالة الصريحة والجزئيّة كان أقلّ من معدّل انكماش الناتج فقد تآكلت القيمة الحقيقية للأجور على نحو فقدت معه نحو عشر نقاط مئوية من الدخل الوطني، وصارت كتلة العاملين بأجر أقلّ تعليماً وشباباً مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة. ويعود تركّز الأزمة لدى فئة الشباب والأكثر تعليماً إلى أنّ النموذج بطبيعته طارد لهاتين الفئتين.
من شأن كلّ ذلك أن: يقلّل من قدرة الاقتصاد على الإقلاع مجدّداً في طريق التعافي، ويجعل ترميم الخسائر على صعيد اليد العاملة والرأسمال البشري أكثر صعوبة من ترميمه على مستوى رأس المال والإنتاج المادي.

* نشرت هذه الدراسة في دورية المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الصادرة في أيلول 2022