النزعة المتزايدة لدى الرأسمالية للتدخّل في الأسواق، تبدو مدفوعة بعوامل متعدّدة، فلا تظهر فقط على شكل كبح للتقلّبات السوقية، بل تأخذ طابعاً حمائياً، في مواجهة الدول التي تشقّ عصا الطاعة الغربية. حالياً، يظهر ذلك على نحو جليّ، من خلال الصراع في أوكرانيا. فالأزمة هناك التي لها طابع جيوسياسي بحت، بدأت تتقاطع مع نظيرتها النقدية في التأثير على اتجاهات الاقتصاد الرأسمالي، ولا سيما لجهة تدفّق السلع والخدمات والرساميل واستمرار النموّ الرأسمالي من عدمه. إذ بالإضافة إلى نظام العقوبات غير المسبوق، الموجّه ضدّ روسيا، والذي غذّى عامل التضخّم في الاقتصاد العالمي ودفع بأزمة الغذاء قُدُماً، ثمّة أيضاً المنحى المتزايد للحدّ من قدرة روسيا على تمويل اقتصادها عبر الريوع النفطية. وعندما يضع الغرب كلّ هذه القيود على دولة، تبيَّنَ من خلال تداعيات الحرب، أنها المصدر الأساسي لواردات الحبوب والنفط والغاز والفحم والمعادن والأخشاب والأسمدة، إلى الأسواق العالمية، لا سيما النامية منها، فالحصيلة الموضوعية لن تكون أقلّ من انفجار أزمة تضخّم غير مسبوقة، على خلفية شحّ المعروض من كلّ هذه السلع. المعادلة هنا تقوم، مجدّداً، على تعليق عملية العرض والطلب، عبر الأدوات الاقتصادية الزجرية، التي لا تستطيع دولة خارج الغرب، امتلاكها، حتى الصين. الكبح في هذه الحالة ينقل السوق من حالة إلى أخرى، فمع تعليق المنافسة والتوازن بين العرض والطلب لمصلحة نادي الدول الرأسمالية الغربية، تصبح هي الأداة الوحيدة في يد الدول النامية، لاستعادة التوازن والحدّ من آثار التضخّم، على تدفقّات السلع والخدمات والأفراد.
سياق تدحرُج العقوبات
هذه المرّة، تأثير العقوبات أكبر بكثير من تلك التي فُرِضت سابقاً على دول مثل صربيا والعراق وإيران وسوريا وكوبا... تداعيات القيود حينها كانت أقلّ، بسبب حجم اقتصادات تلك الدول وطبيعة مساهمتها في تدفقات السلع الأوليّة عبر العالم، حيث «العُزلة» تقتصر على الدولة المعاقَبة وحدَها، في حين أنّ الحصار المضروب على روسيا يتحوّل بسرعة، إلى حصار على موارد العالم بأكمله، من الطاقة والغذاء. والمقصود بذلك، أنّ الرقعة الجغرافية القارّية التي تمتدّ عليها روسيا، تجعل اقتصادها ذا تأثير أو امتداد عالمي، مهما كان صغيراً أو إقليمياً.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

على أنّ الرهان كان في البداية، على هذه المفارقة تحديداً. إذ إن «القدرة المحدودة» لروسيا على التحكّم بالسياسات النقدية، أغْرَت الغرب بتركيز العقوبات على القطّاعين المالي والنقدي، بهدف شلّ قدرة المصرف المركزي الروسي على «تثبيت سعر الصرف»، أو منعه من الانهيار بسرعة، كما كان مأمولاً. فَشَلُ هذا السيناريو، نتيجة وَضْعِ قيودٍ صارمة على تدفّقات رأس المال، دفع الغرب إلى الانتقال فوراً، للمرحلة الثانية أو الخطّة باء التي تمثّلت في وضع نظام متكامل لحظر توريد النفط الروسي إلى الأسواق الدولية. الانقسام بين الدول الغربية بشأن هذا الإجراء، لا سيّما في أوروبا، لم يمنع المضيّ قُدُماً به، كونه تحوّل إلى الرافعة الأساسية لمشروع تقويض قدرة الاقتصاد الروسي على البقاء. الذريعة التي اُستخدمت هنا، لإضفاء «مشروعية دولية» على هذا الإجراء أو الحظر، هي استخدام روسيا أرباحها المتزايدة من توريد النفط والغاز، لتمويل آلتها الحربية في أوكرانيا. ولكثرة ترداد هذه الحجّة المصحوبة بتحميل روسيا مسؤولية التضخّم الحاصل في العالم، بدأ السياسيون هناك باستخدامها في صراعاتهم الحزبية، أو في حملاتهم الانتخابية، وأبرزهم الرئيس الأميركي، جو بايدن. وهذا الرجل أَكثَر في الأشهر الأخيرة، من ترداد عبارة «تضخّم بوتين»، حتى حين كان يبدو ضعيف الحجّة في مواجهة معارضيه الذين يتهمونه بإبرازها لمجرّد التنصّل من مسؤولية إدارته عن أزمة ارتفاع أسعار البنزين، أو التضخّم عموماً. والحال أنّ المنطق الذي تقوم عليه هذه الحجّة، ليس بالضعف الذي يبدو عليه، حين يُستخدَم سياسياً، فهو نفسه الذي يستعمله الاقتصاديون في الغرب، ولكن في سياقٍ أكثَرَ تعقيداً، لتسويغ فكرة التدخّل في الأسواق، بغية زيادة الربحية هنا، أو الحدّ منها هناك.

المقارنة بين التدخّلين الرأسمالي والنامي
في الحالة الروسية، اقتضَت المصلحة الجيوسياسية الغربية، هزّ استقرار الأسواق العالمية، وخلق حالةٍ من عدم اليقين الاقتصادي المستدام، مقابل الحدّ من الربحية التي تحقّقت لموسكو، بفعل التقلّبات الدائمة منذ عقدٍ أو أكثر، في أسعار المواد الخام. المساهمة الروسية في الاستفادة من التقلّبات، اقتصرت على الدور الذي لعبته في إنشاء مجموعة «أوبك+»، بالشراكة مع السعودية وبقية دول «أوبك». التحكُّم بالأسعار هنا يحافظ على الربحية أيضاً، وقد يتسبّب في أضرارٍ بالغة لاقتصادات الدول التي تعتمد على استيراد النفط، ولكنه لا يذهب إلى حدّ تحويل نظام التدخّل في الأسواق، إلى أداةٍ لتعليق المنافسة على مستوى العالم، بالتالي خلق «نظام احتكار» قوامُه هذه المرّة العقوبات الشاملة، بدلاً من قوّة رأس المال وربحيته.
الذريعة الغربية تصبح واهية جداً، حينما يُوضع نظام العقوبات غير المسبوق على روسيا، في موازاة قيود مجموعة «أوبك+» على أسعار النفط. عدم التناسب لا يقتصر فقط على معدّل الربحية، بل يتعدّاه إلى المقاييس الخاصّة بالاقتصاد الكلّي لهذه الدول، حيث يتعذّر إجراء مقارنة بين الاقتصادات الرأسمالية الغربية ونظيرتها النامية، المنتمية إلى نادي الدول المنتجة للنفط. يكفي رصد حجم السيولة التي وضعتها الدول الغربية في أسواقها، على أثر أزمة كورونا، لتبيان الفارق بين حجم اقتصادات الطرفين، لجهة القدرة، ليس فقط على تأمين السيولة أثناء الأزمات، بل أيضاً، على خلق المال حتى من دون تغطية حين يتطلّب الأمر ذلك. هذا يعني أنّ حجم الاقتصاد، هو المحدِّد لمدى الربحية من التدخّل في الأسواق، فما تجنيه روسيا أو الجزائر أو نيجيريا، من قيود «أوبك+» في سوق النفط، على ضخامته، لا يُقارَن بالمعدّل الثابت من الربحية الناجم عن محافظة الدول الرأسمالية الغربية على تدفقّ رأس المال، ومعه السلع والخدمات واليد العاملة، لمصلحتها. حتى حين يقلّ معدّل الربحية الرأسمالي الثابت، عن مستواه، تاريخياً، بفعل زيادة التقلّبات في الأسواق، فإنه يبقى أعلى من الزيادة الكبيرة الحاصلة في ربحيّة الدول النامية المنتِجة للنفط والغاز، على إثر التحكّم أكثر في أسعار الطاقة. هذا المنطق يبدو غائباً تماماً، عن مقاربة الغرب الحالية للصراع مع روسيا اقتصادياً، حيث تُخلَط الذرائع مع بعضها البعض، من دون سياق، حتى قريب. بالتالي يجري تقديم سردية مقلوبة للأزمة الاقتصادية، تتحوّل فيها الدول النامية المتضرّرة من العقوبات إلى دول رأسمالية، والعكس صحيح. وهو ما يضيّع، ليس المسؤولية الفعليّة عن الأزمة فحسب، بل أيضاً، شكل التدخّل الحاصل في الأسواق، وطبيعة الاستفادة منه فعلياً.

تناقضات الموقف الغربي
ومع ذلك، فإن المقاربة الغربية في موضوع تحديد سقف أسعار النفط الروسي، ليست واحدة. فالموقف الأوروبي شبه الموحّد الداعم لوضع سقف للأسعار لا يتجاوز الـ60 دولاراً للبرميل، يشهد انقساماً تعبّر عنه ألمانيا الرافضة لمنطق التدخّل في الأسواق بهذا الشكل. الرفض هنا ينطلق من «الخصوصية الألمانية»، إذ بدأت تداعيات العقوبات بالتأثير ليس فقط على الأسعار والخدمات هناك، بل أيضاً على كلفة الإنتاج، ما أدّى إلى تضرُّر الصناعات الألمانية التي تعتمد على الطاقة الروسية الرخيصة في تعزيز إنتاجيتها، بالتالي تنافسيتها دولياً. ثمّة تمايزٌ آخر، تعبّر عنه مواقف صربيا وهنغاريا، وبدرجة أقلّ النمسا، ولكن تأثيره ليس بحجم نظيرِه الألماني، باعتبار أن الثقل هنا، هو اقتصادي أكثر منه سياسي. كلّ ذلك، يصعِّب مهمّة المفوّضية الأوروبية في رأب هذه الانقسامات، بغية توحيد الجهود الرامية إلى تقليل الاعتماد على موارد الطاقة الروسية من نفط وغاز وفحم، نهائياً. أما على الضفّة الأخرى من الأطلسي، حيث التداخل بين صرامة الموقف الجيوسياسي الأميركي من روسيا، والحاجة إلى نفطها اقتصادياً، فيأخذ النقاش أبعاداً ليست موجودة بالقدر نفسه، في أوروبا. إذ إن المشروع المدعوم إلى حدٍّ كبير، من وزارة الخزانة، يتضمّن تطمينات إلى روسيا، بالمحافظة على تنافسيتها في أسواق النفط. الرغبة الأميركية بالتمايز قليلاً، عن الموقف الأوروبي المتشدِّد، تبدو مدفوعة بحاجة اقتصادية تُمليها التقلّبات الشديدة الحاصلة في الأسواق. إذ يجري الدفع بالمشروع، في ظلّ استمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة بوتيرة متزايدة، وهو ما يجعل الإدارة هناك حذرة من أيّ مبادرة سوقية جديدة، للحدّ من معروض النفط عالمياً، بعد الخفض الكبير الذي أجرته «أوبك+» على إنتاج النفط.
السيطرة على التضخّم المصحوبة بمخاطر الركود، تبدو أولوية أميركية، لا سيّما قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، إذ يستخدم الجمهوريون الأزمة كأداة أساسية في المعركة ضدّ إدارة بايدن والديمقراطيين، عبر تحميلهم المسؤولية المباشرة عنها. هذا السياق الداخلي للأزمة، يدفع بالبراغماتية الأميركية تجاه روسيا قُدُماً، أقلّه اقتصادياً، على اعتبار أن المواجهة الجيوسياسيّة تشهد تصعيداً مستمرّاً، في ظلّ الاستمرار في تسليح أوكرانيا، ودفعِها إلى تسعير المواجهة مع روسيا عسكرياً. والحال أن ما يبدو تعارضاً بين المقاربتين، هو من سمات الاستراتيجية الأميركية في المواجهة مع موسكو، على طريقة الاحتواء المزدوج، حيث تستكمِل جزرة السماح بالمنافسة الاقتصادية المحدودة، ما أنجزته عصا المواجهة العسكرية الغليظة بالوكالة، في الميدان الأوكراني.

مواجهة بين حدّي التضخّم والركود
محدودية النتائج حتى الآن، بالنسبة إلى الغرب، لا تمنع استمرار المواجهة بالطريقة ذاتها. إذ لا يزال التعويل مستمراً على تحقيق استراتيجية «تسقيف» الأسعار، وهو ما عجز عنه الحظر المباشر للنفط، أو حتى محاولة خفض سعر صرف الروبل. الاتكال هنا يقوم على عدم توافر المناعة الروسية نفسها بالنسبة إلى الأرباح، لأن كل السياسة الروسية الخاصّة بتحصين الاقتصاد، تُبنى على وجود رصيدٍ كافٍ من العملة الصعبة المتأتية من التجارة بالنفط. وزارة الخزانة الأميركية التي تقود الحملة، تعتقد أن السماح لروسيا بتوريد النفط، بسعر لا يتجاوز الـ60 دولاراً للبرميل، سيحقّق هدفين:
الأول، هو الحدّ من الأرباح التي تجنيها موسكو من توريد النفط، لتمويل الإنفاق على عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وهي السردية التي سوّغت للغرب كلّ الإجراءات التقييدية بحقّ روسيا، حتى قبيل بداية التدخّل العسكري في أوكرانيا.
اقتضَت المصلحة الجيوسياسية الغربية هزّ استقرار الأسواق العالمية وخلق حالةٍ من عدم اليقين الاقتصادي المستدام مقابل الحدّ من الربحية التي تحقّقت لموسكو

أما الثاني، فهو إغراء روسيا «بسعر مرتفع» نسبياً، قياساً إلى متوسّط أسعار خام النفط القياسي العالمي، بحيث لا تنقطع سلسلة توريد نفطها إلى الأسواق العالمية. أي، بما يبقي على معروضٍ من النفط الخام يكفي لإبقاء الأسعار منخفضة، مقارنةً بما هي عليه الآن، مع تجاوزها حاجز الـ90 دولاراً، للبرميل. الهاجس المسيطر على الدوائر الاقتصادية هناك، والذي يدفع بالبراغماتية الأميركية التجارية تجاه روسيا قُدُماً، هو الخلاص من التضخّم الذي يحدّ من النموّ الرأسمالي، مع تزايد التقلّبات في الأسواق وعدم انتظام التدفّقات الرأسمالية. على أنّ الحِسبة الأميركية لن تكون بهذه السهولة. فمع استمرار رفع أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي، قد تتحوّل أيّ مبادرة للإبقاء على معروضٍ كافٍ من خام النفط العالمي، إلى مصيدة، يصبح من بعدها الركود، أمراً واقعاً. بمعنى أنّ الكميات التي ستبقى في السوق، بفعل هذا الترغيب لروسيا، لن تجد من يشتريها مع مواظبة الاحتياطي الفيدرالي على سحب السيولة من الأسواق والشركات والأفراد، بغرض احتواء التضخّم والحدّ من الطلب «الزائد» على السلع والخدمات. بهذا المعنى، فإن البقاء بين حدّي التضخُّم والركود، أو لِنَقُل، التأرجح بينهما، هو ما يحدّد الوجهة المقبلة، سواءً لمبادرة وضع سقف لأسعار النفط، أو لأيّ محاولة أخرى تقوم على فلسفة التدخّل مباشرةً في الأسواق، للحدّ من ربحية هذا الخصم الجيوسياسي أو ذاك.
لكن تأثير العقوبات على الولايات المتحدة ظلّ محدوداً، مقارنةً بشريكتها في نظام القيود في بروكسل. فالدول الأوروبية التي اُستخدمت كرأس حربة، في مواجهة روسيا، هي التي تدفع الآن من رفاهيتها، ثمن القيود الجديدة على تدفّق الواردات النفطية والغذائية، من روسيا وإليها، عبر العالم.