بين مؤيّد ومعارض، تنقسم الآراء حول مدى ثورية الأفعال المتكرّرة والمستمرّة لاقتحام المصارف اللبنانية من قبل أفراد. بعض المؤيّدين يرونها أفعالاً ثورية، بينما يعتبرها البعض الآخر أفعالاً فردية قد يفرض تراكمها الكمّي على المدى الطويل، تغيراً كيفياً؛ أي أن تأخذ هذه الأفعال، مع مرور الوقت والتكرار، صيغة ثورية ليتعمّم اقتحام المصارف كفعل ثوري. أما المعارضين لإلحاق صفة «الثوري» بهذه الأفعال فلا يرونها إلا استرداداً فردياً للحقوق لا أفق ثورياً له. هنا يصبح لزاماً البدء بقراءة الاقتصاد السياسي الماركسي للمصارف، ثم محاولة تفنيد الآراء السابقة في ظل هذه القراءة.

الطابع الاجتماعي للنظام الائتماني
لم يكن كارل ماركس يرى في الرأسمالية إلا طوراً حتمياً لا بد من المرور به ثم تجاوزه للوصول إلى الاشتراكية. إذ إن النظام الرأسمالي يحمل جنين نقضه في مؤسّساته ذاتها، وهو يحمل أيضاً الطابع الكلّي لرأس المال الاجتماعي الذي ينقض الطابع الخاص لرأس المال أو الملكية الخاصّة الفردية لرأس المال، لا بل هو يُثبت أن رأس المال الكلّي، لا الفردي الخاص، هو ملكية المجتمع أولاً وأخيراً.
فعلى افتراض أن هناك مصرف واحد يخصّ جماعة معينة من الناس، لا يمكن لهذه الجماعة إلا أن تتعامل معه، ومعه فقط. هنا ستكون الأموال المتاحة في هذا المصرف، هي أموال المجتمع ككل. ولنفترض أيضاً أن 20% من كل أموال هذا المصرف مملوكة من شخص يدير هذا المصرف، بينما تعود نسبة 10% إلى صناعي، ونسبة 7% إلى مرابي، ونسبة 3% إلى تاجر، بينما تعود بقية الأموال بملكيتها إلى 60 ألف شخص آخرين لا يعرفون بعضهم بعضاً. بهذا المعنى فإن نسبة أموال«الآخرين» تمثّل 60% من رأس المال، وهي تسمّى رأس مال المجتمع ككل. فمدير البنك لديه ملكية فردية خاصة، وهو قادر من خلال منصبه هذا أن يتحكّم بتوزيع رؤوس الأموال التي يديرها البنك على هواه. فتارة يقتطع من قرض الصناعي ليقرض المرابي أو التاجر أكثر، وتارة أخرى يقتطع من المرابي ليقرض التاجر والصناعي أكثر. وما يحكم عملية الاقتطاع هذه وإعادة التوزيع التي قوم بها مدير المصرف، هو تحقيق أقصى كمّ ممكن من الربح. أما ما يراه أفراد المجتمع في معامل الصناعي، وفي مستودعات التاجر، وفي أموال المرابي، هو مالهم الخاص الذي وُهِبت ملكيته بفائدة عبر وسيط هو مدير المصرف. هذه هي الحقيقة.
تخيلوا الآن أن يتّحد أصحاب النسبة 60% ويقرروا نقل ملكيتهم المبعثرة إلى رجل واحد يمثّل مصالحهم جميعاً، أو إلى شخصية اعتبارية (هيئة أو إدارة أو حتى دولة). في هذه الحالة ستؤول إدارة البنك لهذا الشخص الاعتباري. وبالتالي ستكون أموال مدير البنك، مضافاً إليها أموال الصناعي والمرابي والتاجر، إذا اتحدت إراداتهم، غير قادرة على تولّي منصب الإدارة. فالنسب هنا ستكون 40% مقابل 60%. هنا يظهر أن العملية الإنتاجية الكليّة للمجتمع هي عملية اجتماعية. وهنا يظهر لنا الطابع الاجتماعي لرأس المال الكلي كما أوضحه كارل ماركس في كتاب رأس المال؛ إذ «إن هذا الطابع الاجتماعي لرأس المال لا يتحقق ولا يكتمل إلا بتوسّط التطوّر الكامل للنظام الائتماني». كما أن «النظام الائتماني هذا، هو نفسه من جهة، شكلٌ يلازم نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن جهة أخرى، هو قوّة محرّكة لتطوّره في اتجاه أعلى وآخر شكل نهائي ممكن». إنه الشكل النهائي (للرأسمالية في طورها التنافسي) الذي تظهر فيه حقيقة الطابع الاجتماعي لرأس المال ويؤكّد أن الرأسمال الكلّي هو رأس مال المجتمع ككل. فما الأفراد وملكياتهم، إلا أفراداً في هذا الكل. (كارل ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، الجزء الخامس، الفصل السادس والثلاثون، دار الفارابي).
خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو الملقب بـ «بيبي» ردّاً على سؤال عن عمليات سطو المصارف التي كان يقوم بها مع رفاقه عندما كانوا مقاتلين في منظمة «توباماروس» اليسارية الثورية: كانت الأموال أموال المجتمع وكنا نسميها «مصادرات»


دعونا نأخذ مصرفاً لبنانياً كمثال عملي من دون أن نذكر اسمه، علماً بأن القطاع المصرفي اللبناني فيه الكثير من الأمثلة على ذلك. فمن بعد التدقيق في أرقام نسب المساهمة في رأس مال هذا المصرف، نجد أن أبرزهم مصارف أجنبية أو شخصيات غير لبنانية. الحصّة الأجنبية يفترض أن تعكس مدى سيطرة هذه المصارف والشخصيات على هذا المصرف (هناك تفسير لهذه العلاقة بين المصارف الأجنبية والمصرف الأم في كتاب لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»). أما إذا عزلنا الحصّة الأجنبية من الملكية، باعتبار أنها غير قادرة أو غير راغبة في إدارة المصرف بشكل مباشر، يتبيّن أن أبرز المساهمين في المصرف هي عائلة لبنانية تعود أصولها إلى دولة عربية، وحصّتها من رأس المال تبلغ 7.53%. ورئيس مجلس الإدارة والمدير العام التنفيذي لهذا المصرف هو من هذه العائلة... كل هذا التدليل على الملكية في العبارات والأرقام هو صحيح، إنما يعود إلى نظرتنا لهذه أرقام التي نعاينها من وجهة نظر الملكية الخاصة للأفراد أو العائلات، إنما لم ننظر إليها أبداً من زاوية الملكية الاجتماعية. فلو فعلنا ذلك، لوجدنا أن أكبر نسبة من المساهمين الفعليين، والذين يفترض أن يكون لهم النفوذ والسيطرة، هم أولئك المجهولون تحت تسمية «آخرون». وإذا رُفعت الأقنعة عن هؤلاء لوجدنا أنهم المجتمع ليس إلا. فلو قرّر هؤلاء تشكيل هيئة اعتبارية مثلاً لنالوا حقّ التصرّف بتوزيع رأس المال الاجتماعي بما يتوافق مع مصالح المجتمع ككل، وليس مصلحة فرد أو عائلة أو عدة أفراد وعدة عوائل.

عن اقتحام المصارف في لبنان
في مقالة سابقة بعنوان (مدخل لفهم غضب الشارع: نموذج «اقتصاد التبذير») جرى نقاش حول استياء وغضب الشارع انطلاقاً من نموذج اقتصاد التبذير باعتباره مدخلاً لقراءة ما يحدث في عدد من الدول العربية. فقد تبيّن أن هناك غياباً لمشروع بديل واضح المعالم تقوده أداة تغيير تعلن نفسها في إطار مؤسّساتي (حزب أو تجمع أو...)، وبالتالي فإن هذا الغياب لن يودي بالجماهير الغاضبة إلا إلى الإحباط أو يحوّلها إلى أداة ضغط بيد الإمبريالية العالمية لتجابه بالقمع الأمني من قبل الأنظمة المحلية.
هنا نأتي على المثال المذكور، أي المصرف اللبناني، وهو واحد من المصارف التي اقتحمها أفراد يطالبون بوديعتهم. حملت هذه الاقتحامات دلالة على إحباط بعض الأفراد من عدم وجود تغيير حقيقي اجتماعي يردّ حقوق الناس. لذا لجأ هؤلاء إلى خطوات فردية. إنما لم تكن أفعالهم أفعالاً ثورية اجتماعية بمقدار ما كانت استرداداً فردياً لبعض من حقوقهم المسلوبة وبحكم أسباب قاهرة. أما في ما بعد، وبعدما صار اقتحام المصارف أشبه بالنزهة، وبعدما حقّق مقتحمو المصارف شهرة في عالم الميديا، بتنا نرى من يتحدث عن اقتحام المصارف واصفاً هذا الفعل بشكل رومانسي واعتباطي بصفة «ثوري». ثم راح البعض يروّج لنظرية التراكم الكمّي لأفعال السرقة حتى تتحول نوعياً لتعطي صيغة ثورية! هنا يظهر القصور الفلسفي، ونقص الوعي التاريخي السياسي.
إن الكل لا يعني مجموع الأجزاء. ورأس المال الاجتماعي، وهو الكل، لا يُسترد من خلال استرداد الأجزاء، لأن كل جزء منه يعتبر بمثابة الكلّ. لنعطي مثالاً: عندما وجه المخرج السينمائي «إمير كوستاريكا»، في الفيلم الوثائقي (El Pepe: A Supreme Life 2018)، سؤالاً إلى أفقر رئيس دولة في العالم - رئيس الأوروغواي الأسبق خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو الملقب بـ «بيبي» - عن عمليات سطو المصارف التي كان يقوم بها مع رفاقه عندما كانوا مقاتلين في منظمة «توباماروس» اليسارية الثورية، فأجاب: كانت الأموال أموال المجتمع وكنا نسميها «مصادرات». وببسيط العبارة: لقد كان أي جزء مستردّ من أموال المجتمع يتخلّى عن كونه ملكية خاصة لفلان أو فلان، بل كانت توضع في خدمة المجتمع ككل بوساطة أداة تغيير ثورية اجتماعية (حزب ثوري). أما استرداد الأفراد لحقوقهم بصفة شخصية يبقى استرداداً فردياً معزولاً. وهي أفعال لن تودي بتراكمها إلا إلى الفوضى والفلتان الأمني، وليس إلى «ثورة» كما يزعم بعض المحللين، وذلك بسبب غياب أداة التغيير (الحزب الثوري، تجمع، هيئة...).
إن الشرعية الأخلاقية والقانونية لبعض الأفعال الاجتماعية لا يعني بالضرورة أنها «ثورية» في حقيقة الأمر، كما أن تواترها لا يعتبر شرطاً كافياً لاعتبارها «ثورية». ولكم من الجميل رؤية إنسان يسترد حقه من المصرف وهو بأمس الحاجة إليه. ولكم من الأفضل نقد هذه الأفعال عندما تعتبر بداية طريق ثوري!