في شباط 2010 الذي يتزامن مع ذكرى إقامة الجمهورية العربية المتحدة - شباط 1958، أطلق مركز دراسات الوحدة العربية، النسخة الأخيرة من المشروع العربي النهضوي يتلخّص بستة أهداف متساوية في الأهمية: الاستقلال الوطني، الديمقراطية، الوحدة، التنمية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري. وكنّا نتمنى لو أعطيت "الوحدة" القوامة على سائر الأهداف التي لا يمكن تحقيق أيّ منها في ظل التجزئة العربية الموروثة من الحقبة الاستعمارية، وفي ظل الغدّة السرطانية التي يشكّلها وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولو تم تأكيد أولوية تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وإنهاء وجود الكيان الصهيوني المحتل. وما يهمّنا، وجود خريطة طريق للوحدة وضرورتها ومضمونها وكيفية تحقيقها.وبما أن النفعية تحكم سلوك المجتمعات، فإن الوحدة بينها قد تستلزم تبيان جدواها والمكاسب التي ستعود إلى مكوّناتها. المنفعة الاقتصادية هي الرافعة لتقبّل الوحدة بمعزل عن الاعتبارات السياسية والأمنية والثقافية المتماهية مع موروث تاريخي في تكوين الهوية العربية، وهي تسهم في السعي إلى الوحدة. لكن هناك مجموعة أسئلة نواجهها دائماً: لماذا الوحدة الاقتصادية والإصرار عليها؟ هل يمكن تحقيقها أسوة بما يحصل في أوراسيا أو في أوروبا؟ ماذا عن المشاريع التي تمّت الموافقة عليها كمشروع السوق المشتركة مثلاً؟ ما هو مضمون الوحدة الاقتصادية في ظل طبيعة الاقتصادات العربية المختلفة كثيراً بعكس التشابه الأوروبي؟ وماذا عن تحوّلات الاقتصادات العربية ولا سيما دور النفط والغاز في دفع عجلة اقتصاد ذي طابع ريعي لا إنتاجي، وطغيان قطاع الخدمات المالية. وهذا التحوّل حصل في اقتصادات لم يصل فيها التطوّر الصناعي والزراعي إلى مستوى يبرّر تضخم القطاع المالي، إلاّ لجهة التبعية لقرارات خارجية تدفع نحو أمولة القطاعات الإنتاجية (financialization)؟ كيف نحقّق الوحدة؟ ما هي الخطّة والأدوات لتنفيذها؟ أي نموذج اقتصادي نريد؟ هل النظام الرأسمالي هو الذي يحقق طموحات الأمة العربية، أم النظام الاشتراكي؟

منافع الوحدة الاقتصادية
إذا اعتبرنا الوحدة السياسية هي الهدف الاستراتيجي لتحقيق نهضة الأمة، وهذا ما تمّ شرحه في "نداء الوحدة" الذي أطلقته الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في مطلع 2022، فإن الوحدة الاقتصادية هي الاستراتيجية التي يجب اتّباعها لتحقيق الوحدة السياسية. وإضافة إلى الأسباب السياسية والعقائدية والنفسية والموروث التاريخي في وعي أبناء الأمة فإن الوحدة العربية تكتسب جاذبية عندما تكون منافعها واضحة وملموسة. ففي الوحدة قوّة، وفي القوّة حياة وبقاء، بينما في التجزئة ضعف وفناء. وإضافة إلى كل ذلك، إن الوحدة الاقتصادية ضرورة قائمة بحدّ ذاتها في عصر التكتلات الاقتصادية القائمة والتي يُعمل على تطويرها كالتشكيلات المتعدّدة في مجموعة دول أوراسيا، أو في أميركا الجنوبية في مجموعة دول المركاتور، أو حتى في الاتحاد الأوروبي الذي يترنّح تحت التصدّعات والتناقضات الداخلية لأسباب سياسية وثقافية واجتماعية ناتجة من نمط اقتصادي بات في الطريق المسدود.
كيف يمكن للاقتصادات العربية أن تواجه تكتلات عملاقة بالجغرافيا وعدد السكان والقدرات الإنتاجية إن لم تكن هذه الاقتصادات العربية، تشكّل كتلة موحّدة لها حيثيتها الجغرافية والسكّانية ومواردها الطبيعية؟ الوحدة الاقتصادية قد تخلق أسواقاً للمنتجات العربية وتفسح المجال لخلق نشاطات اقتصادية تستوجب استثمارات ضخمة لا تبرّر جدواها الاقتصادية الأسواق القطرية الضيّقة. فوفورات الحجم لخفض وحدة الكلفة المتوسّطة للإنتاج ولدعم التنافسية والإنتاجية، لا تتحقّق إلا في الأسواق الكبيرة. سوق عربية بـ430 مليون نسمة وقد تصل إلى 500 مليون في عام 2050، تختلف عن أسواق أكبرها لا يتجاوز 100 مليون نسمة، باستثناء مصر. وإذا كانت النظرية الاقتصادية تقول إن تقسيم العمل يوسع السوق وإن حجم السوق هو بمقدار تجزئة العمل فالكتلة البشرية العربية الموحّدة قد تفي بالغاية.
أما منافع الوحدة الاقتصادية فهي أولاً في خفض البطالة بشكل عام، وخاصة عند الفئات المهمّشة، كما أنها تفتح آفاقاً واسعة للشباب العرب الذين يواجهون اليأس بسبب السياسات الاقتصادية المتّبعة التي تكبح طموحاتهم. والقضاء على البطالة يسهم في رفع الدخل والرفاهية للمواطن العربي، خاصة إذا واكبها استثمارات في البنى التحتية. وهذه الاستثمارات الواسعة المطلوبة في البنى التحتية، والإنفاق في البحوث العلمية، تسهم في إيجاد قاعدة معرفية تُوظّف في التكنولوجيا وتطبيقاتها الاقتصادية، لكن لن تقوم إلا في إطار الوحدة الاقتصادية. كما أن الوحدة الاقتصادية سترتبط مع المراكز الجامعية ومراكز الأبحاث، ما يسهم في ترسيخ قاعدة لإنتاج معرفة عربية أسوة بما كان في العهد الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. والوحدة الاقتصادية تتيح الفرصة لحرّية التنقل للعمل ولرأس المال، ما يخلق فرصاً استثمارية لا يمكن إيجادها في حدود الدولة القطرية الضيّقة بسبب حجم الاستثمارات وضرورة تأمين وفورات الحجم لجعل الجدوى الاقتصادية للمشروع حافزاً للمباشرة به. والوحدة الاقتصادية قد تكون حافزاً لتوحيد الجهود في مقاربة التصحير وشحّ المياه والحفاظ على البيئة بشكل عام لأنها قضايا مشتركة بين معظم الأقطار. عبر الوحدة الاقتصادية يمكن الوصول إلى مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص بينما يصعب ذلك في إطار بنية الدولة القطرية والدليل على ذلك فشلها في تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية والدفاع عن الوطن.

الإمكانات متوافرة؟
الوحدة لم تعد حلماً أو ترفاً بل ضرورة حيوية للبقاء. موازين القوّة التي حالت دون تحقيق الحدّ الأدنى من التعاون السياسي أو حتى الاقتصادي، لم تعد قائمة بالفعّالية نفسها. فالقرارات الوحدوية بدأت في حقبة المدّ القومي في الخمسينيات والستينيات ثم تعثّرت بسبب موازين القوّة المعادية، ونامت في الأدراج بعد رحيل القائد جمال عبد الناصر إذ احتُلّ الفضاء العربي من قيادات لم تستطع تنفيذ المشاريع المتفق عليها، بإرادتها الذاتية أو بإملاءات الأعداء. ولا ننسى أن المنطق السائد منذ السبعينيات كان مبنياً على فكرة أن أوراق اللعبة هي بنسبة 99% بيد الولايات المتحدة. بل إن القيادات التي حاولت بناء اقتصادات وطنية تحصّن استقلالية الدولة القطرية وتُخفّف من التبعية والانكشاف للخارج، حوصرت ورُحّلت لاحقاً "قتلاً" أو حالات "مرض" مشبوه كما حصل مع الرئيس عبد الناصر... فإذا كان مشروع بناء الدولة القطرية المستقلة من الممنوعات، هل يمكن بناء الدولة القومية؟
نعم وبوضوح. لأن القوى المعادية تواجه اليوم صعوبات تهدّد وجودها. فالكيان الصهيوني، تلك الغدّة السرطانية المزروعة في الجسم العربي، يواجه أزمة وجود، ومحاولاته للتطبيع مع بعض الدول العربية، جاءت بائسة للهروب إلى الأمام تغطية لمخاطر استراتيجية. أما إيران في عهد الشاه، فكانت قوّة فعلية تمنع التقارب العربي، وكان شاه إيران يفتخر بأنه شرطي الشرق الأوسط. أما اليوم، فإن الجمهورية الإسلامية في إيران، مع شركائها في محور المقاومة، وضعت في صلب معتقدها واستراتيجيتها إزالة الكيان الصهيوني من الوجود، وإخراج الأميركيين من المنطقة. وتركيا التي كانت تنافس الشاه على تهديد الدول العربية، تفتش اليوم عن تفاهمات مع الدول العربية بعد عقد من التآمر على سوريا والعبث بوحدة أراضيها وسرقة مصانعها. لا بل تسعى إلى إنهاء الخلاف مع سوريا باعتبار ذلك ضرورة لاستقرارها السياسي والاقتصادي. والاتحاد الأوروبي الذي يضمّ الدول المستعمِرة سابقاً للمنطقة، فهو في حال تصدّع يلغي فعّالية أي دور له، وهذا إذا ما بقي له وجود بعد تبعية قياداته للولايات المتحدة وسياساته الغبية خصوصاً تجاه روسيا في أوكرانيا. إذاً، العالم الخارجي الذي كان يعمل لمنع أيّ تقارب بين العرب لم يعد في موقع يسمح له بالاستمرار في تلك السياسة.
إذا زالت موانع بناء الدولة المستقلّة، فلماذا صبّ الجهود على بناء الدولة القومية؟ سؤال جوهري له منطقه الخاص. فالدول القطرية، بشكل عام، وتلك التابعة للغرب فشلت في تأمين الحد الأدنى من الأمن الاقتصادي والاجتماعي وحتى حماية حدودها؛ من مَنَع استرجاع جزر طمب الكبرى والصغرى وجزيرة موسى من الاحتلال الإيراني والدول المعنية كانت حليفة للولايات المتحدة؟ من منع تقسيم السودان؟ من منع تنفيذ اتفاق الدفاع المشترك؟ من منع احتلال الكيان الصهيوني لأجزاء من لبنان؟ من منع احتلال العراق والحرب الكونية على سوريا؟
صمود سوريا يعود للمخزون القومي الذي راكمته خلال العقود الماضية، وهو ما سمح للمقاومة في لبنان بمؤازرة الدولة في سوريا في مواجهة الحرب الكونية عليها. بالمختصر، عمر الدولة القطرية يصل إلى أكثر من سبعة عقود ولم تنجح التجربة فلماذا تكرارها؟ ألم يحن الوقت للمضي في بناء دولة الوحدة حيث العامل القومي هو الذي منع انهيار سوريا وساهم في دعم القضية الفلسطينية التي حاولت تناسيها الدولة القطرية؟
خطوط بحثية متداخلة، فيما تقدم تحفيزات نحو وعي بيئي، كما في «النار الأخيرة»


المانع الأساسي لقيام وحدة اقتصادية أو مشروع اقتصادي عربي وحدوي هو وجود نخب حاكمة لا تزال تعيش في ذهنية العقود الماضية من تبعية للولايات المتحدة، ولا تزال تعتقد أنه بإمكانها تحقيق النمو والتنمية داخل الحدود القطرية التي ورثتها من الحقبة الاستعمارية ورسمها المستعمر. كما أنها تتبع مبدأ أن تكون الأولى في بلادها لا ثانية في البوتقة الكبرى. وفي ماضٍ لم يكن بعيداً، اعتقدت بعض الدول الثرية أن الوحدة قد تؤدّي إلى انخفاض رفاهيتها بسبب مشاركة الدول الأخرى في ثرواتها التي تشكّل عبئاً وليس إضافة لها. لكن اليوم هناك 14 دولة عربية من أصل 22 تنتج غازاً ونفطاً، وهناك دولتان قد تنتجان في مستقبل قريب النفط والغاز هما لبنان وفلسطين. أما الدول التي ليس لديها حتى الآن نفط أو غاز فهي المغرب وموريتانيا وتونس وجيبوتي وجزر القمر. هذا يعني أن هناك أكثرية واضحة للدول العربية باتت اليوم في نادي إنتاج النفط والغاز، ما يلغي "الحذر" من مشاركة الدول "الفقيرة" بثروات الدول "الثرية".
نعتقد أن القوى الشعبية الحيّة في كل قطر عربي تستطيع أن تضغط على نخبها الحاكمة للعمل على إقامة الوحدة الاقتصادية. فهي نجحت إلى حد لا بأس به في كبح الجنوح نحو التطبيع مع الكيان العدو، وإن أقدمت الحكومات التابعة للقرار الأميركي على إقامة علاقات معه. فرغم تلك الاختراقات في المواقف السياسية العربية الرسمية، لم تتماهَ الشعوب مع قرارات حكوماتها، بل جعلت مفاعيل التطبيع محصورة في بعض القطاعات الرسمية. والدليل على ذلك مقاطعة الشعب في كل من مصر والأردن وبطبيعة الحال في فلسطين المحتلة، للكيان الصهيوني رغم وجود اتفاقات "سلام" لم تؤدّ لا إلى سلام في المنطقة ولا إلى الرخاء الاقتصادي المنتظر. أما الدول المطبّعة حديثاً فلا تحسّن في أوضاعها كالسودان والمغرب مثلاً، رغم الدعاية الزائفة المروّجة للتطبيع. ففلسطين توحّد الجماهير العربية وتضغط على حكوماتها. وهذه الجماهير تستطيع الضغط لإقامة الوحدة الاقتصادية.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي