على مدى سنوات الأزمة الأخيرة، كانت هناك سياسة عامة واحدة سائدة. فقد كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بصفته «قائداً مؤتمناً» من قوى السلطة السياسية، وحاكماً باسم السلطة النقدية التي هيمنت منذ عقود على السياسات الاقتصادية، يقود الأزمة من خلال آلية واحدة هي: «التضخّم». تضخّم الأسعار، يعني أولاً سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ثم تليه باقي أسعار السلع والخدمات. كلما ارتفعت الأسعار أصبح مصرف لبنان قادراً على المراوغة أكثر لتأجيل الخسائر. وهذا يقتضي التأثير في سعر الصرف لينعكس ذلك على أسعار السلع المستوردة وكبح استيرادها.هذا المسار أحدث تصحيحاً آنياً ظهر في المؤشرات الماكرو اقتصادية لمدّة عامين فقط. أساس هذه المؤشرات هو عجز الحساب الجاري الذي يعبّر عن صافي التدفقات بين لبنان والخارج. تبيّن أن الأزمة أحدثت تصحيحاً قسرياً في هذا المؤشّر لأنها كبحت نزف الدولارات رغم مواصلة مصرف لبنان تبديدها على عمليات دعم مشبوهة. فقد كان عجز الحساب الجاري يبلغ 24.3% في عام 2018، ثم انخفض إلى 21.9% في عام 2019 و9.3% في عام 2020، إلا أنه عاد إلى الارتفاع في عام 2021 ليبلغ 12.5% و14.2% في عام 2022. الاستيراد والتصدير كان لهما المسار نفسه، إذ إن تأثيرهما كبير على عمليات الحساب الجاري. لذا، انخفض العجز التجاري من 16.9 مليار دولار في عام 2018 ليبلغ أدناه في عام 2020 بقيمة 7.76 مليارات دولار، ثم يعاود الارتفاع ليسجّل 15.5 مليار دولار في نهاية 2022.

42 كيلوغراماً

هي الكمية التي استوردها لبنان من النقود في عام 2022 مقارنة بـ3 كيلوغرامات في السنة السابقة ونحو 250 طناً من النقود في عام 2018


رغم ذلك، يزعم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن الاقتصاد اللبناني سجّل في عام 2022 نموّاً يبلغ 2% بالقيم الفعلية ويفسّر أسبابه بالآتي: «لعل نموّ الاستيراد بنسبة 44% في الأشهر الأحد عشر الأولى من هذا العام مردّه إلى تحسن النشاط الاقتصادي المحلّي في ظل ارتفاع الطلب الداخلي (...)».
اعذروا جهل ميقاتي في الاقتصاد، فهو يعتقد أن الطلب الذي نتج من المغتربين في الصيف الماضي، وازدياد تحويلاتهم إلى لبنان حفّزا الاستهلاك الذي يعتمد بنسبة كبيرة على استيراد السلع، وهو ما خلق نمواً اقتصادياً. صحيح أن قاعدة احتساب الناتج المحلي الاقتصادي ونموّه، فيها عناصر الاستيراد والاستهلاك، إلا أن طريقة الاحتساب وطبيعة التوازن بينها هما اللتان تحدّدان النموّ. فهذه القاعدة تستند إلى الآتي: الاستهلاك + النفقات الحكومية + الاستثمار + (الاستيراد - التصدير). إذاً، أهمل ميقاتي أمرين: أن هناك عناصر أخرى تحدّد نموّ الناتج، بالإضافة إلى طبيعة التوازن بين هذه المكوّنات.


وجهل ميقاتي لا يبرّر انتقاده فحسب، بل يعزّز المخاوف من أن الآتي سيكون أكثر سواداً، لأن معايير إدارة الأزمة قائمة على إفلات وكبح آلية «التضخّم» تبعاً للمتغيّرات التي يحدّدها حاكم السياسة النقدية وهي متغيرات سياسية، أو اقتصادية أو اجتماعية. فهو يتدخل من أجل كبح انفلات سعر الصرف عبر تأجيل انهياره، ثم يضخّ الدولارات لتعزيز الاستهلاك لفترة محدودة، ثم ينسحب من السوق ببيان... الهدف هو تذويب الخسائر، وهو أمر يتطلب الحفاظ على وتيرة متسارعة لـ«التضخّم» بما يؤدي إلى كبح الاستهلاك وتقليص نزف الدولارات من الداخل نحو الخارج. لذا، إن أي زيادة في العجز التجاري تعكس فشلاً ذريعاً في هذه الإدارة وتفسح المجال للقول إن ما يحصل هو مجرّد تأجيل لانهيارات كبيرة مقبلة سيكون سعر الصرف جزءاً أساسياً منها وستلحقها باقي الأسعار. جهل ميقاتي يوازي فشل رياض سلامة في إدارة الأزمة وفقاً للأهداف التي حدّدها هو فقط.
الفشل يمكن تحديده من خلال المؤشرات الماكرواقتصادية التي نشرها البنك الدولي أخيراً. اقتصاد لبنان (الناتج المحلي الاقتصادي) تقلص من 55.3 مليار دولار في عام 2018 إلى 21.3 مليار دولار في عام 2022 (الرقم الأخير يتغيّر تبعاً لمجموعة عوامل من بينها سعر الصرف المحتسب، علماً أنه في تقرير سابق مصدره البنك الدولي كانت تقديرات الناتج بأنه سيبلغ 14.2 مليار دولار في نهاية 2022). أيضاً انخفضت حصّة الفرد من الناتج من نحو 8900 دولار في عام 2018 إلى 3400 دولار في نهاية 2022. حصّة الصناعة من الناتج ما زالت على حالها أي أنها لم تزدد بسبب تراجع الاعتماد على الاستهلاك المستورد، وحصّة الزراعة سجّلت تقدماً طفيفاً من 4.4% إلى 6%، وحصّة الخدمات زادت من 72.2% إلى 78.8%. أما الاحتياطات الإجمالية بالعملات الأجنبية فقد كانت تكفي لنحو 14.3 شهراً من الاستيراد، فيما باتت اليوم تكفي لنحو 9.7 أشهر فقط. ونسبة الدين إلى الناتج المحلي كانت 154% في عام 2018 وصارت 180.7% في نهاية 2022، وذلك رغم أن التضخّم قلّص قيمة الدين بالليرة الذي كان يمثّل نحو ثلثي الدين العام.



انقر على الجدول لتكبيره

وفي موازاة التركيز على اعتبار فشل إدارة الأزمة «إنجازاً» يخلق النموّ الاقتصادي، استعانت بعض القوى السياسية بسردية تقليدية لتفسير الاستيراد تزعم أن هناك تهريباً إلى سوريا يستنزف السلع التي يستوردها لبنان. وبمعزل عن أهداف هذه السردية ومطلقيها، إلا أنها قاصرة عن تقديم أي تفسير اقتصادي - مالي لهذا التحوّل في الاستيراد بل تسبغ عليه ما لا يتحمّله المنطق، وتسهم في تمييع جوهر المشكلة التي لا تتعلق بآلية انتقال السلع من لبنان إلى سوريا، بل بمدى كفاية التمويل. انتقال السلع من لبنان إلى سوريا هو إعادة تصدير، وإن لم تكن هذه العمليات مسجّلة في القيود الرسمية، بينما تسمّى تهريباً من الجانب السوري لأن السلع التي تدخل تتهرّب من تسديد الضرائب عليها. واستيراد السلع للسوقين اللبنانية والسورية عبر لبنان، ليس حدثاً مستجداً بل هو آلية عمرها عقود طويلة من التعاون التجاري تعزّزت بفعل العقوبات على سوريا في السنوات الماضية. فلطالما كانت الأسواق اللبنانية والسورية تحصل على حصّتها عبر الاستيراد اللبناني، والتجّار السوريون يسدّدون المبالغ المترتبة عليهم من دون تأخير (طبعاً يدفعون بالدولار أو باليورو، وإذا قرّر تاجر لبناني قبول التسديد بالليرة السورية، فإنه سيحوّلها مباشرة لدى الصرافين إلى دولارات أو أي عملات أجنبية أخرى).
الهدف من سردية الخلط بين «التهريب إلى سوريا» وبين «إعادة التصدير إلى سوريا»، هو الانقضاض على الخصوم السياسيين واستعمالهم كأداة في سياق الاحتراب الداخلي بين مكوّنات السلطة.
إذاً، كيف تُفسّر هذه الزيادة في الاستيراد من 11.3 مليار دولار في عام 2020 إلى 19 مليار دولار في عام 2022؟


الإحصاءات الجمركية تشير إلى أن الزيادة في الاستيراد لم تتركّز في السلع الغذائية. ففي عام 2018 بلغت قيمة الواردات المصنّفة غذائية نحو 3.5 مليارات دولار، ثم انخفضت إلى 2.3 مليار دولار في عام 2021، وفي نهاية 2022 بلغت 2.8 مليار دولار. أي أن الزيادة التي طرأت في عام 2022 مقارنة بالسنة التي سبقتها لا يمكن تبريرها بإعادة التصدير إلى سوريا، ولا سيما أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت في الخارج بسبب موجة التضخّم التي اجتاحت العالم اعتباراً من شباط الماضي.
في الواقع، إن المقارنات في أحجام استيراد بعض أصناف السلع الغذائية تشير إلى أن عملية الاستبدال لم تحصل انسجاماً مع تقلبات الدخل. فعلى سبيل المثال، لم يزدد استيراد الأبقار الحيّة، بل زاد استيراد لحوم البقر والأسماك المبرّدة أو المجمّدة كونها الأرخص سعراً، فيما زاد استيراد البطاطا والبندورة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أسعار الذرة والأرز والسكر والزيوت النباتية زادت بسبب التضخّم، قد لا نجد أي مبرّر لزيادة قيمة وارداتها واستيرادها سوى في عمليات التخزين التي نفّذها التجّار استباقاً لتطبيق الدولار الجمركي. فإذا كانت هناك أي عمليات لإعادة التصدير إلى سوريا، فإنها لم تسجّل تغيرات ملحوظة.




عملياً، كان هناك قرار أساسي اتّخذته السلطة في الأشهر الماضية يتعلق بزيادة إيرادات الخزينة وتعديل سعر الصرف المعتمد رسمياً. وامتدّ هذا النقاش خلال فترة طويلة، ما أتاح للتجار المستوردين أن يستوردوا ويخزّنوا كميات كبيرة من السلع لبيعها لاحقاً والتربح منها. وهذا الأمر قد ينطبق على استيراد السلع المعمّرة، والسيارات والأحذية بشكل أساسي. إلا أن هناك سلعاً استورد لبنان بقيم كبيرة منها بسبب ارتفاع أسعارها مثل البنزين والمازوت.
اللافت في الإحصاءات أن هناك استيراداً كبيراً للمواد النسيجية والألبسة والأخشاب من دون أن تكون لدى لبنان قدرات واسعة لصناعة الألبسة، وتقلصاً في استهلاك الملابس كونها سلعاً ليست ذات أولوية كبيرة أو يمكن استبدالها بسلع غير مكلفة (الملابس المستعملة مثلاً). كذلك الأمر بالنسبة إلى الأخشاب، إذ إن هذا القطاع مرتبط بشكل مباشر بالقطاع العقاري المشلول حالياً الذي يعاني من تخمة كبيرة في العقارات السكنية الشاغرة والعقارات التجارية أيضاً. الصناعات الخشبية لم تسجّل أي تطوّر في لبنان، إلا أنه لا يمكن القول إن هناك نموّاً في سوريا أيضاً، ما يعني أن التجّار قد يراهنون على عودة هذا النشاط في لبنان أو في سوريا وأن لديهم أموالاً، باستطاعتهم استثمارها في فترات انتظار متوسطة المدى.