صحيح أن السوق اللبنانية مدولرة أصلاً، إلا أن هذه الظاهرة تفاقمت في السنوات الثلاث الأخيرة مع اتّساع عمليات «الكاش». رغم ذلك، ظلّت الليرة اللبنانية عملة مقبولة في غالبية عمليات التداول وإن كان سعرها تجاه الدولار يتغيّر يومياً. غير أن سوء إدارة الأزمة وتكريس مسارها الانحداري، يفقدانها نسبة كبرى من عمليات التداول. هناك نقطة ما في هذا التحوّل تعني أن مصرف لبنان سيفقد قدرته على التأثير في السوق. قدرته هذه يستمدّها من كونه قادراً على طباعة الليرة ومنحها قوّة التداول. فلو اقتصرت العمليات بالليرة على جزء من الموازنة العامة، أي من عمليات الحكومة المتصلة بتسديد الرواتب والأجور وبعض الفواتير، لضعفت قدرة مصرف لبنان على التأثير في السوق كثيراً. فالموازنة العامة بكاملها لا تعادل بأسعار اليوم 820 مليون دولار، أي أنها لا توازي أكثر من 3.5% من الناتج المحلي المقدّر بنحو 23 مليار دولار (في عام 2017 كانت 15%). حالياً، بلغت ذروة مصرف لبنان في ضخّ الليرات في السوق نحو 80 تريليون ليرة، أي ما يعادل ضعفي الموازنة.
أوغوز غوريل - تركيا

إن تحوّل السوق إلى الدولرة النقدية الشاملة، يعني إخراج مصرف لبنان من معادلة التأثير في الأسواق بشكل شبه كلّي. عملياً، قبل الأزمة كانت الدولرة الجزئية تطاول الأجور (كقيمة)، والودائع والقروض، وحتى التداول بين الناس والمؤسّسات، لكنّ هذا الأمر لم يكن يسري على كل الأجور ولا على كل الودائع والقروض ولا على عمليات التداول (خصوصاً). حتى إن هذه الأخيرة كانت تسيطر عليها الليرة اللبنانية بشكل كبير. إلا أن هذا الأمر تغير شيئاً فشيئاً في السنوات الثلاث الماضية، حتى أصبح الدولار يُعتمد بشكل أكبر في عمليات التداول في السوق.
لكنّ السؤال هو لماذا يجب أن يكون هذا الأمر محط اهتمام مصرف لبنان؟ الجواب بسيط: يلعب المصرف اليوم آخر أدواره من خلال التدخّل في السوق عبر شراء الدولارات ثم بيعها، من أجل أن يبقى مسيطراً بعض الشيء على سعر الصرف. فإذا أصبح الدولار هو العملة السائدة في التداولات، تُصبح طباعة الليرات وضخّها لشراء الدولار، وهما آخر ما تبقّى من أدوات مصرف لبنان، أداة لا أهمية لها، وبالتالي يُصبح المصرف خارج المعادلة.

أدوات متقلّصة
عندما خسر احتياطاته بالعملات الأجنبية، فقد مصرف لبنان الدور الأساسي الذي رسمه له حاكمه منذ عام 1997، أي الحفاظ على سعر صرف ثابت بقيمة 1507 ليرات وسطي لكل دولار. في عام 2019، بدأ المصرف المركزي بالتخلّي عن هذا الدور، ومعه انكشفت خسائر القطاع المصرفي، الذي تحوّل إلى حالة الانهيار منذ ذلك الحين. وبذلك، فقد المصرف المركزي أدواته الأخرى. فلم تعد هناك جدوى من تغيير معدلات الفائدة، وهي من أهم الأدوات العصرية للمصارف المركزية، إذ إن انعكاس التغيّر في معدلات الفائدة يظهر تطبيقه في القطاع المصرفي، وهو أمر لم يعد ممكناً منذ أن أصبح هذا القطاع معطّلاً، لا يُقرض ولا يقترض (بمعنى الودائع). ففي العادة، يكون الهدف من استخدام أداة الفائدة هو وقف خروج الأموال عبر زيادة المعدلات، أو جذبها من السوق بنفس الطريقة. كل هذه الأمور لم تكن ممكنة في لبنان بعد انهيار القطاع. وحتى الأدوات الأخرى مثل التغيير في نسب الاحتياطات الإلزامية، ليست متاحة في ظل الإفلاس الضمني الذي يعاني منه القطاع. 
ما بقي لمصرف لبنان هو الاعتماد على أداة التواصل. فهو يؤثّر على السوق من خلال البيانات التي ينشرها كل فترة. هذا الأمر يحتاج إلى الثقة فيه بدرجة معينة، من قبل الأطراف الفاعلة في السوق، سواء أكانت أفراداً أم مؤسسات. جزئياً، استطاع المركزي استعادة هذه «الثقة» من خلال حيازته لامتياز طباعة الليرات. نظرياً، مصرف لبنان هو أكبر مالك لليرات في السوق اللبنانية، فهو الوحيد القادر، قانوناً، على طباعة الليرات. لذا، هو يملك القدرة على أن يكون المضارب الأكبر على الليرة من خلال شراء الدولارات من السوق وإعادة ضخّها في وقت لاحق. وبالفعل، لقد قام مصرف لبنان بهذه العملية في فترات مختلفة منذ بداية الأزمة حتى اليوم. وأعلن في مرات عديدة عن نيّته بيع الدولارات (التي جمعها سابقاً) بسعر أقل من سعر السوق (أي بسعر منصة صيرفة)، و«نجح» في مرّات عدّة أن يخفّض سعر الصرف بتلك الطريقة. علماً أن كونه مضارباً كبيراً، قد يعني أنه كان سبباً رئيسياً في ارتفاع سعر الصرف أصلاً. إنما بهذه الطريقة، استطاع المركزي أن يستعيد بعضاً من الثقة، التي وصلت به إلى خفض سعر الصرف بما يزيد عن 5000 ليرة لكل دولار، خلال ساعات قليلة من إصداره بياناً في يوم أحد، قبل أن يقوم بضخّ دولار واحد في السوق. عملياً هذه آخر أدوات مصرف لبنان، التي في حال خسرها سيكون قد فقد السيطرة تماماً. 

تعويم المصارف
لم تبقَ الكثير من العوامل التي تتحكّم بسعر صرف الدولار في السوق اليوم. فقد شهدت هذه السوق جميع الصدمات التي كانت بانتظارها منذ بداية الأزمة. من توقّف مصرف لبنان عن تزويد السوق بالدولارات، وصولاً إلى توقّف المصارف عن دفع الودائع بالدولار بشكل تدريجي، ومروراً بتوقّف «الدعم» التدريجي الذي ساهم في تحوّل جزء كبير من الطلب على الدولار إلى السوق وبالتالي تم رفع سعر الصرف. آخر هذه المحطات كان رفع الدعم عن المحروقات، ما تسبّب بصدمة رفعت سعر الصرف بشكل كبير. 
هناك عامل أساسي يبقى في السوق اليوم، وهو حجم الكتلة النقدية الموضوعة في التداول. هذه الكتلة هي الليرات الموجودة بين أيدي الناس. وهي تنعكس على سعر الصرف من خلال عدّة قنوات. فإذا اتجهت نحو المزيد من الاستهلاك، فهذا يعني زيادة الطلب على الدولار (لأن معظم الاستهلاك مستورد)، وبالتالي ارتفاع سعر الصرف. وإذا كانت أموالاً فائضة تتجه نحو شراء الدولارات، من أجل حفظ قيمتها في هذه الظروف غير المستقرّة للّيرة. وهو أيضاً أمر يساهم في ارتفاع الطلب على الدولار. 
الفكرة هنا، أن مصرف لبنان لا يزال، وبشكل غير مبرّر، يزيد الكتلة النقدية، أي أنه يزيد الطلب على الدولار ويسهم في ارتفاع سعر الصرف أكثر وأكثر. هو يقوم بذلك بهدف الحفاظ على المصارف لأطول فترة ممكنة، عبر تزويدها بالسيولة بالليرة. ويقوم كذلك بتمويل الدولة. وأخيراً، هو يستخدم هذه الليرات لشراء الدولارات من السوق، عبر ما يُسمى بالمعاملات اليومية. 

رفع سعر الصرف بالتجرّع 
يعلم مصرف لبنان أن ثمن إبقاء المصارف على قيد الحياة بالطريقة المذكورة هو ارتفاع سعر الصرف. لذا، هو أيضاً يقوم بالمضاربة على الليرة لغايته في «السيطرة» على الأمور. و«السيطرة» هنا تعني أن يتجرّع المجتمع حقيقة ارتفاع سعر الصرف من دون أن يقوم بردة فعل مفاجئة. في هذا الأمر يعتمد مصرف لبنان اليوم على ما يُسمى في مجال الاقتصاد السلوكي بـ«الاعتماد المرجعي». هذه هي أحد عناصر «نظرية الاحتمالية» التي طوّرها دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي عام 1972، وهي توصّف كيف يقيّم الأفراد احتمالات الربح والخسارة. «الاعتماد المرجعي» هو ما يجعل الفرد يقيّم خياراته على أساس نقطة مرجعية. هذه النقطة المرجعية لا تتحرّك بشكل مفاجئ، فارتفاع سعر الصرف من 20 ألف ليرة إلى 30 ألف ليرة بشكل فوري سيجعل الأفراد في السوق يدركون خسائرهم الفادحة. لكنهم إذا تجرّعوا الأمر بشكل آخر قد يتقبلونه بشكل إيجابي. لكن كيف تكون هذه الطريقة الأخرى؟ ما يفعله مصرف لبنان، هو أنه يطبع الليرات ويشتري بها الدولارات من السوق، فيرتفع سعر الصرف.
ينفّذ مصرف لبنان نظرية «الاعتماد المرجعي» لإجبار المجتمع على قبول ارتفاع سعر الصرف

على سبيل المثال، من 20 ألف ليرة إلى 35 ألف ليرة. بذلك، تصبح النقطة المرجعية للأفراد في السوق هي سعر الصرف 35 ألف ليرة. بعد ذلك، يقوم المصرف، من خلال منصة صيرفة، بضخّ الدولارات في السوق مجدداً بسعر أقل، وهو ما يسهم في انخفاض سعر الصرف إلى 30 ألف ليرة. بما أن النقطة المرجعية أصبحت 35 ألف ليرة، يقيّم الأفراد موقعهم في السوق أنه موقع رابح وليس خاسراً. بهذه الطريقة يكون المصرف قد ضخّ الليرات، لأهدافه المذكورة سابقاً، فأعاد بعض الثقة من خلال «خفض» سعر الصرف، وبقي لاعباً محورياً في السوق. في المقابل، تجرّع الأفراد ارتفاع سعر الصرف من 20 ألف ليرة إلى 30 ألف ليرة، من دون ردات فعل غير اعتيادية. 
هكذا يقوم المصرف المركزي بتحويل الخسائر على كاهل الأفراد، عبر خفض قدرتهم الشرائية في مقابل إبقاء القطاع المصرفي عاملاً، بل تعزيز أرباح المصارف من خلال «صيرفة» التي تربح منها فئات معينة ملايين الدولارات. هذا هو الدور الذي يمارسه ويملك قدرة التأثير فيه حالياً. شكل الصراع في السوق هو بين قدرة القطاع المصرفي على البقاء وقدرة الناس على المزيد من الخسائر التي يكون مؤشرها الأساسي سعر الصرف إنما هي خسائر في الأجور وفي الهجرة وفي تدني نوعية وجودة الخدمات العامة والخاصة وسائر القدرات الإنتاجية.