يتردّد على لسان عدد من المتخصّصين أن جذور أزمة التضخّم الراهنة مصدرها ما حصل بعد عام 2008 حين ضخّت المصارف المركزية الكثير من السيولة لتعويم الشركات المفلسة، ثم واصلت الضخّ في السنوات التالية لتغذية الأنظمة المالية. أيضاً ثمة من يقول بأن جوهر الأزمة نشأ لأن طبيعة النظام الرأسمالي تولّد أزمات كهذه وهو ينظّف نفسه بنفسه. كذلك جاءت أزمة كورونا لتعزّز تسارع الأزمة، وتلتها الحرب الروسية الأوكرانية. المعالجات المتبعة الآن لم تنهِ الأزمة. برأيك، حصلت الأزمة بسبب توحّش النظام الرأسمالي في نيوليبراليته، أم بسبب أخطاء أبناء النظام؟
- برأيي، الأزمة هيكلية ومتجذّرة في طبيعة النظام النيوليبرالي نفسه. الرأسمالية النيوليبرالية التي تنطوي على تدفقات السلع ورأس المال عبر الحدود، بما في ذلك التمويل، تنقل مجموعة من الأنشطة الاقتصادية من البلدان المتقدّمة إلى العالم الثالث. هذا النقل يربط الأجور الحقيقية في المركز الرأسمالي بالأجور الموجودة في دول الأطراف.


لا يعني ذلك أنهما يتساويان، بل يتم الحفاظ على الفرق في المستوى بينهما، لأنه إذا كان الاختلاف كبيراً جداً، فإن الميل نحو انتقال الأنشطة المذكورة من المركز إلى الأطراف، يصبح أقوى.
رغم هذا الانتقال في الأنشطة الاقتصادية، إلا أن حجم القوى العاملة الاحتياطية (وهي القوى العاطلة من العمل في النظام الرأسمالي بحسب التعبير الماركسي) الهائل في العالم الثالث يستمر في الازدياد، وهو إرث من أيام الاستعمار الذي دمّر التصنيع الحِرَفي المحلي، من خلال استيراد السلع المصنوعة آلياً من دول المركز. ويرجع ذلك إلى أن معدّل نموّ إنتاجية العمل في دول الأطراف يزداد بشكل كبير، بسبب رفع جميع القيود المفروضة على التغيّر التكنولوجي الهيكلي في اقتصاداتها والتي أصبحت الآن مفتوحة للمنافسة الأجنبية. لذا، تظلّ أجورهم مقيّدة «بمستوى الكفاف» رغم هذا الانتقال في الأنشطة. وهذا يعني أن الأجور في المركز والأطراف لا تزداد فعلياً ولا حتى مع ارتفاع إنتاجية العمل في كل مكان، وهو ما يسبّب زيادة في حصص فائض الإنتاج داخل البلدان. وبما أن حصة الأجور التي يتم استهلاكها أكبر من الفائض في الدخل، فإن هذا يخلق ميلاً مسبقاً نحو الإنتاج الزائد.
لا يلغي الإنفاق الحكومي هذا الاتجاه، لأن القطاع المالي المعولم، الذي له صوت حاسم في تشكيل السياسات الاقتصادية للبلدان في ظل النيوليبرالية، يعارض تدخل الدولة المباشر الذي يهدف إلى دعم النشاط والتوظيف. وبالتالي، فإن الرأسمالية النيوليبرالية لديها نزعة متأصّلة نحو مزيد من عدم المساواة، وهو ما يؤدّي إلى أزمة فائض في الإنتاج. ظلّت هذه الأزمة تحت السيطرة لبعض الوقت بسبب الطلب المصطنع الناتج من «فقاعات» أسعار الأصول؛ لكنها تجسدت بعد انهيار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة في عام 2008.
القطاع المالي المعولم يعارض أيضاً التدخل المالي من قبل الدولة ضدّ أزمات كهذه، إلا أن تدخل السياسة النقدية، التي تعمل أساساً عبر وكلاء من القطاع الخاص (أي المصارف)، مسموح به. وهذا هو السبب في أن دول المركز الرأسمالي اتّبعت أخيراً سياسات نقدية توسّعية مكثفة زمنياً. فقد دُفعت أسعار الفائدة فعلياً إلى الصفر، وتم ضخّ السيولة في الاقتصادات من خلال «التيسير الكمي»، وما إلى ذلك. إن فائض السيولة هذا، رغم أنه لم يكن فعالاً للغاية في تحفيز الازدهار في الاقتصاد الحقيقي، إلا أنه شجع الشركات على رفع هوامش ربحها. هذا هو أساس التضخّم الحالي في العالم الرأسمالي الذي سبق حرب أوكرانيا.

لم يلتفت الفيدرالي الأميركي إلى انعكاس رفع أسعار الفائدة في مواجهة التضخّم، على اقتصادات الدول الأخرى التي تبعته مجبرةً كونها تتبنّى سياسة تحرير حساب رأس المال، فأصبحت مكشوفة على مخاطر الركود. وتعمّقت المشكلة عندما تبيّن أن رفع أسعار الفائدة لم يؤدّ، حتى الآن، إلى نتيجة ملحوظة. دول الغرب تدرس سياسات دعم لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، بينما ليس لدى البلدان النامية (دول الجنوب) القدرة على مواجهة ارتفاع الأسعار. فهل يمكن كبح التضخّم بأدوات السياسة النقدية حصراً، رغم أن دول الجنوب ستدفع ثمنها باهظاً؟
- الطريقة الوحيدة التي يتغلّب بها الاقتصاد الرأسمالي على التضخّم هي الضغط على الطبقة العاملة المحلية، و/أو على منتجي المواد الخام الأجانب. فإذا كان من الممكن ضبط المطالب الناتجة من توقعات العمّال للتضخم، فسيختفي التضخّم الناتج من التوقعات. يتم فرض هذا الأمر على الفئتين الأخيرتين من خلال ركود مصمّم بشكل متعمّد. ويؤدّي هذا الركود إلى زيادة البطالة، وبالتالي يضعف القدرة التفاوضية للعمال الذين يجبرون على تقليل مطالبهم. كما أن هذا الضغط يحوّل توجّه التجارة ضدّ السلع الأولية. إن الارتفاع الحالي في أسعار الفائدة يهدف إلى هندسة مثل هذا الركود.
فائض السيولة لم يكن فعّالاً في تحفيز الازدهار، بل شجّع الشركات على رفع هوامش ربحها وهذا هو أساس التضخّم الحالي في العالم الرأسمالي الذي سبق حرب أوكرانيا


الولايات المتحدة، باعتبارها الاقتصاد الرأسمالي الرائد في العالم، بادرت إلى رفع أسعار الفائدة، ثم تبعتها دول رأسمالية أخرى لأن النشاط التمويلي حول العالم يربط فوائده بأسعار الفائدة في الولايات المتحدة. لذا، السؤال الذي يجب طرحه لا يتعلق بطريقة العلاج عبر السياسة النقدية، بل بما إذا كان ركوداً مخطّطاً كهذا، سينجح. في حالة أهم سلعة أساسية، وهي النفط، فإن تقليص واردات النفط والغاز من روسيا بفعل العقوبات المفروضة من القوى الغربية لا يُغطى بواردات أكبر من أي مكان آخر؛ علاوة على ذلك، أعلنت «أوبك بلاس»، المجموعة النفطية الأكبر التي تضم روسيا وغيرها، خفض إنتاجها النفطي من أجل الحفاظ على الأسعار، رغم الركود الذي يلوح في الأفق. لذا، فإن أي أمل في أن الرأسمالية، في دول المركز، يمكن أن تخفض أسعار النفط من خلال ركود هندسي قد تبدّد. أما بالنسبة إلى مطالب العمال، فالسؤال متصل بارتضائهم السياسي لهذه الضغوط. لدينا الآن، تظاهرات عمالية في جميع أنحاء أوروبا ضدّ التضحيات التي فرضتها عليهم حرب أوكرانيا. هذه التحركات سوف تتكثّف مستقبلاً. لذلك سنشهد صراعات طبقية في دول المركز بقوّة لم نشهدها منذ فترة طويلة. يجب أن تتركّز مطالب العمال بوجود ضوابط مباشرة على الأسعار من أجل كبح جماح التضخّم، بدلاً من توليد البطالة بهدف الضغط عليهم، وكذلك من أجل إنهاء سريع للحرب الأوكرانية.
وبما أن ارتفاع أسعار الفائدة يضرّ بدول العالم الثالث من خلال رفع كلفة الاقتراض وبالتالي خدمة الدين، فإن مثل هذه الضوابط المباشرة للأسعار والنهاية السريعة للحرب ستخدم مصلحتهم أيضاً.

ازدادت وتيرة النشاط العمالي في دول الغرب، ومطالب العمال تركّز على رفع الأجور الاسمية لتعويض التآكل في قدراتهم الشرائية، لكن النخب التقليدية هناك تعارض الفكرة من خلال الترويج بأنّ رفع الأجور سيطلق دوامة أجور - أسعار. وهناك آراء أخرى تقول بأن هذه الأفكار هدفها حماية أرباح رأس المال. هل ترى أن هذه الدوامة حقيقية أم تستعمل للترويج فقط؟
- في الواقع، إن الرأسماليين لا يسمحون للعمال بالدفاع عن أجورهم في مواجهة التضخّم، بل إنهم يرفعون أسعارهم بالتوازي. الادعاء بأن هذه الدوامة ستحصل، ولا ينبغي السماح برفع الأجور، يعني أن يترتّب على العمل أن يوافقوا على تآكل أجورهم بفعل التضخّم. التضخم الحالي بدأ من خلال ارتفاع هوامش الربح، لذا إن رفض زيادة الأجور بذريعة الدوامة المذكورة هي بمثابة القول إن على العمال أن يقبلوا، بهدوء، بخفض حصّة أجورهم من الاقتصاد. هذا غير مبرّر أبداً. لذا، فإن سياسة مكافحة التضخّم يجب أن تتيح زيادة الأجور والسماح للعمال بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة التضخّم، وبالتوازي يجب أن تمنع حدوث دوامة كهذه من خلال التحكم بالأسعار عبر فرض هوامش ربح أقل.
هذه هي الطريقة الوحيدة، العادلة، والمنصفة للسيطرة على التضخّم. لكن الحكومات الرأسمالية، وكل جيش الاقتصاديين البورجوازيين الذين يستخدمهم النظام، سوف يعارضون ذلك. بدلاً من ذلك، يودّ هؤلاء أن يربط العمال أيديهم خلف ظهورهم، ويخنعوا كما لو أن هذه الدوامة التي يروّج لها هي ظاهرة يتحمّل العمال مسؤوليتها وحدهم وليست نتيجة عناد الرأسماليين في الحفاظ على هوامش ربح أعلى.

مع ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا بعد توقف إمدادات الغاز الروسي، أصبح قطاع الصناعة الأوروبي في خطر. أقفلت الكثير من المصانع أبوابها، وبعضها قلّص الإنتاج ولا سيّما في الصناعات التي تستهلك الطاقة المكثفة. بعض هذه المصانع اتّجه نحو الدول التي تملك مصادر للطاقة. ففي أميركا، على سبيل المثال، تطالب بعض النخب بنقل المصانع الأوروبية إليها تطبيقاً لسياسة التخلّي عن العولمة بمفهومها الشامل، ونقل مناطق النفوذ إلى الأقاليم أو إلى المركز. ما هي التغيّرات التي ستحلّ بالعولمة، وبمواقع الدول في النظام الذي سينشأ؟
- التغييرات التي ستظهر بعد الاضطرابات الحالية في النظام الرأسمالي العالمي لا يجب أن تناقش على افتراض أن النظام الرأسمالي نفسه سيستمر كما كان من قبل. قد يستمر الأمر كما كان سابقاً، لكن لا يمكن اعتبار ذلك أمراً مفروغاً منه، كأمر واقع. كل ثورة هي مناسبة لتكثيف الصراع الطبقي، وهذا ما سنراه. ماذا ستكون نتيجة هذا الصراع؟ هو دائماً سؤال مفتوح. لا يسعني إلا أن أذكر هنا الاحتمال الذي يبدو لي طريقاً للمضيّ «قدماً».
نحن في بداية فترة طويلة من الصراع. وتشكل أوروبا موقعاً رئيسياً له. وهي تشهد حالياً، ليس فقط تراجعاً في التصنيع، بمعنى تحوّل الأنشطة الصناعية بعيداً عنها نحو الولايات المتحدة بسبب نقص الطاقة الفعلي والمتوقع، ولكنْ أيضاً هجوماً هائلاً على الظروف المعيشية لعمالها؛ كِلتا هاتين الظاهرتين تبرزان في سياق الدفاع عن بنية إمبريالية متداعية.

نحن في بداية فترة طويلة من الصراع موقعها الرئيسي في أوروبا، حيث لا تراجع في التصنيع فحسب بل هناك هجوم هائل على العمال في سياق الدفاع عن بنية إمبريالية متداعية


لسوء الحظ، هذا شيء لا يراه جزء كبير من الرأي البورجوازي، وحتى الليبراليون واليساريون، وقد اصطفّوا وراء الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا. إنهم يرون الحرب فقط بوصفها صداماً بين دولتين بدأ في شباط، لكن فعلياً بدأت هذه الحرب في عام 2014 برعاية الولايات المتحدة من خلال إطاحة الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش؛ يتعلق الأمر بالحفاظ على هيمنة الإمبريالية الغربية. وليس مستغرباً أن تخرّب الولايات المتحدة كل محاولة للتوصّل إلى تسوية سلمية للصراع، لأن هدفها هو إعادة روسيا إلى الحالة التي كانت عليها خلال سنوات يلتسين عندما أصبحت عملياً تابعة للولايات المتحدة.
ومن المفارقات، أن القوّة التي تتحدّث بأعلى صوت عن محنة الطبقة العاملة تتمثّل في الفاشيين الجدد. وهم إذا وصلوا إلى السلطة، كما توضح حالة إيطاليا، فإنهم سيخونون الطبقة العاملة ويصطفّون مع الإمبريالية الأميركية والنظام النيوليبرالي الذي يدعمها. بإمكان الطبقة العاملة الأوروبية وحدها أن تمنع مسار أوروبا المتدهور، لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان اليسار يعمل مع الطبقة العاملة في قضية مشتركة ويعمل على إنهاء حرب أوكرانيا بطريقة تجدها روسيا أيضاً مقبولة. بإمكان أوروبا إذا وقعت تحت هيمنة الطبقة العاملة أن تعمل مع روسيا والصين وتكون بمثابة حصن ضد الإمبريالية الأميركية. لا يمكن إلا أن نتصوّر مثل هذا السيناريو أيضاً باعتباره تجاوزاً للرأسمالية النيوليبرالية في أماكن كثيرة من العالم.

بعد الحرب الروسيّة - الأوكرانية، أصبح دور التكتّلات الاقتصادية أكثر بروزاً. فمثلاً، كان دور الـ«بريكس» مهمّاً في تحديد موقف الدّول الأعضاء فيه من الحرب، ولا سيّما الدّول المقرّبة من الغرب مثل البرازيل والهند، والتي لم تعلن موقفاً عدائياً من روسيا كما فعلت باقي الدول الغربية أو الحليفة لها. وهذا الأمر ينطبق على الدّول الأساسية في «أوبك»، والتي كان موقفها من روسيا مخالفاً للمواقف الغربية. هل تعتقد أن هذا الأمر يشكّل بادرة لحصول انقسام عمودي فتصبح الدّول مخيّرة بين المعسكر الشرقي (الصيني الروسي وباقي الدول القريبة منها)، أو المعسكر الغربي بقيادة أميركا؟
- لا، لا أعتقد أن وحدة المعسكر الغربي ستستمر طويلاً. في الواقع، لا ينبغي أن تستمر طويلاً. ما يجب أن يكون لدينا بدلاً من ذلك هو إمبريالية أميركية عدوانية بقيادة المحافظين الجدد من جانب، وأوروبا بقيادة الطبقة العاملة تتعاون مع روسيا والصين والعديد من دول العالم الثالث من جانب آخر. سيقود اجتماع هذه المجموعة الأخيرة معاً تغييراً في النظام العالمي بما في ذلك عملية تجاوز النيوليبرالية.
لكن مثل هذا التحوّل سيكون مرتبطاً بالضرورة بتزايد صعود الاشتراكية. أعتقد أن هذا السيناريو يقدّم المخرج الوحيد للبشرية في مأزقها الحالي.



تعريف


برابات باتنايك هو اقتصادي ماركسي هندي، وُلد عام 1945. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد، لندن. عمل أستاذاً في مركز الدراسات الاقتصادية والتخطيط في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، من عام 1974 حتى تقاعده في عام 2010. وقد شغل منصب نائب رئيس مجلس تخطيط ولاية كيرالا من حزيران 2006 إلى أيّار 2011. من أهمّ مؤلفاته: «نظرية الإمبريالية»، «رأس المال والإمبريالية»، «قيمة المال» وغيرها من الإصدارات القيّمة


النيوليبرالية في طريق مسدود
الرحلة السريعة من الركود إلى التضخم ومن التضخّم إلى الركود الحالي (المُصَمّم لمحاربة التضخم) دليل على حقيقة أن الرأسمالية النيوليبرالية وصلت إلى طريق مسدود: جهودها للتغلب على أزمة ما تقودها ببساطة إلى أزمة أخرى. في الأساس، هناك غياب تام لأيّ أفكار واضحة داخل الدوائر الحاكمة في المركز الرأسمالي حول كيفية التغلب على المأزق الحالي. هناك فقط مجموعة من ردود الفعل السريعة التي بسببها يترنّح العالم الرأسمالي ببساطة من أزمة إلى أخرى.