صعوبة تفكيك العولمة والعواقب المترتّبة عليها، دفعت عدداً من المؤسّسات إلى إصدار دراسات وأوراق عملية تحذّر مما يمكن أن ينجم عن التفتت الاقتصادي العالمي الكامل. صندوق النقد الدولي وصف الأمر بـ«المهمة الحمقاء»، بينما أجرى «معهد ماكينزي» تحليلاً للتركز في المبادلات التجارية العالمية في الدول والقطاعات، مستنتجاً بأن إضعاف العولمة التجارية من خلال تنويع مصادر الواردات والإنتاج في الداخل أو عند الدول الصديقة قد لا يتحقق بسهولة. أما معهد البحث «chathamhouse» فأشار إلى أن انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتلتين متنافستين، سينجم عنه انعدام للاستقرار في الاقتصاد الكلّي والأسواق، إذ ليس بالضرورة أن يؤدي الانخفاض الحاد في التجارة الدولية والاستثمار، تراجعاً عن العولمة.يعتقد «معهد ماكينزي» أنه لا توجد منطقة قريبة من مرحلة الاكتفاء الذاتي، إذ تعتمد كل منطقة على التجارة مع الآخرين للحصول على «أكثر من 25% من نوع واحد مهم على الأقل من السلع». علاوة على ذلك، فإن التركّز في التجارة العالمية يصل إلى 40%، إذ تعتمد الاقتصادات المستوردة على ثلاث دول أو أقلّ في هذه الحصة من التجارة العالمية. والأهم، أنه «على مدى السنوات الخمس الماضية، لم تنوّع الاقتصادات الكبرى بشكل منهجي مصادر الواردات».

40%

هي نسبة التركّز في التجارة العالمية بين الدول، علماً أن كل منطقة تعتمد على التجارة مع الآخرين للحصول على أكثر من 25% من نوع واحد مهم على الأقل من السلع


وفقاً لتحليل «ماكينزي» لتدفقات التجارة العالمية، والتي تشمل أكثر من 120 دولة، ونحو 6 آلاف منتج، و8 ملايين ممرّ تجاري فردي، فإن «التبادلات التجارية تتركّز في جميع القطاعات، وفي جميع مراحل عملية الإنتاج، وفي جميع البلدان». الغذاء والمعادن والإلكترونيات والغاز الطبيعي هي أمثلة على القطاعات التي غالباً ما تكون واردات بلد ما من بين عدد قليل من البلدان الأخرى. وهذه العلاقات التجارية المركّزة لم تتغير إلى حد كبير بفعل الأحداث العالمية في السنوات الأخيرة، إذ لم تسجل غالبية قطاعات المنتجات «أكثر من 10% تغيّراً في التركز» خلال تلك الفترة. وهذا الاستمرار في التركّز التجاري دليل على أن هدف إضعاف العولمة التجارية من خلال تنويع مصادر الواردات والإنتاج في الداخل أو عند الدول الصديقة قد لا يتحقق بسهولة.
ويصف «صندوق النقد الدولي» فكرة كسر العدد الهائل من الروابط التي تدمج الاقتصاد العالمي بـ«المهمة الحمقاء» المحكوم عليها بالفشل والفوضى الاقتصادية والكارثة للجميع. ووفقاً للصندوق، إذا حصل هذا التفتيت، فسينعكس خسارة بنسبة 7% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. أما إذا اقترن الانفصال بالروابط التكنولوجيا بين البلدان أيضاً، فستصل نسبة الخسارة إلى 12% في بعض البلدان. علماً أن حجم الاقتصاد العالمي تجاوز أخيراً 100 تريليون دولار سنوياً. وبالتالي، فإن الخسارة في الناتج الاقتصادي العالمي من الأقلمة أو البلقنة التي يدعو إليها البعض، يمكن أن تُراوح بين 7 تريليون دولار و12 تريليون دولار كل عام. كذلك، ستتأثر البلدان المنخفضة الدخل والمستهلكين الأقل ثراءً في الاقتصادات المتقدّمة. وتضيف الدراسة، أنه في حال ذهبت تلك الاقتصادات الكبرى في ذلك الاتجاه، فهذا يعني إزالة منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ويرجح معهد البحث «chathamhouse» أن ما يحصل هو انقسام في الاقتصاد العالمي إلى كتلتين متنافستين. بكلمات أخرى، بينما قد يكون هناك عدم استقرار متزايد في الاقتصاد الكلي والأسواق، فليس بالضرورة أن يكون هناك تراجع عن العولمة، مثل الانخفاض الحاد في التجارة الدولية والاستثمار وحركة المال. فالعصر الأخير من العولمة، كان محفّزاً بالاعتقاد أن التكامل الاقتصادي سيؤدي إلى أن تصبح الصين ودول الاتحاد السوفياتي السابقة «أصحاب المصلحة المسؤولين داخل النظام العالمي» بحسب رئيس البنك الدولي السابق، روبرت زوليك. لكن بدلاً من ذلك، برزت الصين كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة. وهذا التنافس يجبر الآخرين بالفعل على الانحياز إلى جانب واحد بينما ينقسم العالم إلى كتلتين: واحدة تتماشى بشكل أساسي مع الولايات المتحدة، والثانية تتماشى بشكل أساسي مع الصين. وهذا يعني أن الخيارات السياسية والاقتصادية داخل هاتين الكتلتين ستتشكل من خلال الاعتبارات الجيوسياسية.

الخسارة في الناتج الاقتصادي العالمي من الأقلمة أو البلقنة، يمكن أن تُراوح سنوياً بين 7 تريليون دولار و12 تريليون دولار


انطلاقاً من ذلك يستنتج «chathamhouse»، أنه سيكون لطبيعة هذا الانقسام ذات الدوافع السياسية تأثير كبير على بيئة التشغيل للشركات الأميركية والأوروبية في القطاعات الأكثر تعرّضاً للقيود المفروضة على التجارة، مثل التكنولوجيا والأدوية. ولكن عندما يتم نقل الإنتاج إلى مواقع بديلة، فمن المحتمل أن يشمل ذلك «فقط تصنيع السلع التي تُعتبر ذات أهمية استراتيجية». وقد يشمل ذلك المكوّنات التي تحتوي على عناصر تقنية متطورة أو ملكية فكرية كبيرة، مثل الشرائح الإلكترونية البالغة الدقة والأدوية. في حين أن الأمور الإنتاجية الأخرى والتي لا تشكل خطراً استراتيجياً ستبقى موجودة.
وضمن هذه العملية، ستتم «إعادة ترتيب الروابط التجارية بدلاً من قطعها». وسيؤدي ذلك إلى استقرار نصيب التجارة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في السنوات المقبلة، بدلاً من الانكماش التام، كما هو متوقع في ظل العديد من المحاولات لتقدير التأثير المحتمل لانهيار العولمة.



مصير الدولار
السؤال المطروح في ظل إعادة تشكيل العولمة متصل بمصير الدولار. فمن جهة، قد يصبح اليوان عملة شركاء الصين، لكنّ التجارة بين هؤلاء، لا تمثّل سوى 6% فقط من التجارة العالمية، إذ إن غالبية التجارة الدولية تتم مع الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، وستظلّ مقوّمة بالدولار الأميركي. إنما من جهة أخرى، ليس واضحاً ما هو تأثير دفع الصين شركاءَها للتعامل باليوان، على الدولار. نظرياً، أي عملة تحفظ القيمة ويكون متوافقاً عليها، يمكن أن تلعب هذا الدور. الدولار ليس أمراً محتوماً. وربما قد تنجح محاولات «بتكوين» أن تدخل هذا المجال كونها شبكة لا مركزية، أو ربما قد تخرج عملة رقمية أو تقليدية تصدرها إحدى الدول «المحايدة» في ظل هذا الانقسام. ويمكن أن تتعامل الدول بعملاتها المحلية ضمن البلوك الواحد. إنما حتى الآن ما زال الدولار مهيمناً.