لا تزال المعطيات عن أسباب انهيار المصارف الثلاثة في الولايات المتحدة، تتوالى. لكن ثمّة مؤشّرات بدأت تظهر، لا سيّما في اتجاهات التحليل الأوليّة، توحي بأنّ الأزمة هذه المرّة مختلفة عن نظيرتها في عام 2008 حين انهار بنك ليمان براذرز، وانفجرت مع انهياره أزمة الرهون العقارية. الاختلاف الأبرز عن تلك الحقبة، وحتى عن طريقة المعالجة التي اُتبعت حينها، يتمثّل في ردّ فعل الجهات الاقتصادية المعنيّة بالانهيار، وعلى رأسها وزارة الخزانة الأميركية. ففي سياق تناولها لحالات الإفلاس الجديدة، أكّدت وزيرة الخزانة جانيت يلين، على استحالة حصول إنقاذٍ للمصارف عبر الأموال العامّة للدولة. أي عكس ما حصل في عام 2008، حين تقرَّرَ أن تكون وجهة المعالجة هي إنقاذ المصارف بدلاً من المقتَرِضين الذي أصبحوا عاجزين عن سداد أقساطهم المنزلية. وأتى خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي تطرّق فيه للأزمة، ليؤكّد هذه الوجهة، ويشدَّد على أولوية الحفاظ على أموال المودعين أثناء احتواء الإفلاس. ولم ينسَ في سياق هذا التأكيد، الإشارة إلى ضرورة محاسبة إدارات المصارف المفلسة، على سوء ائتمانها، وتبديدِها أموالَ المودعين. وهي إشارة واضحة من الإدارة، إلى عدم العودة إلى السياسة السابقة الخاصّة بإنقاذ المصارف على حساب المودعين. على أنها تبقى في إطار سياسي أكثر منه اقتصادي للتنصّل من مسؤولية الديموقراطيين عن الأزمة، لأنّ اتجاهات التحليل، بدأت تشير إلى الأثر الواضح لسياسة رفع أسعار الفائدة على ملاءات المصارف وأصولها.
عَكْس وجهة التدخّل
الوجهة الجديدة تبدو مدفوعة، ليس فقط بدروس أزمة عام 2008، بل كذلك بالسياسة الاقتصادية العامّة حالياً في الولايات المتحدة حيث ينصبّ التركيز على احتواء التضخّم، حتى لو وصلت معدّلات رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسيّة وأفضَت إلى ركود كبير. الجزم من جانب يلين، حتى قبل اتّضاح الأسباب الفعلية لإفلاس المصارف الثلاثة، بعدم العودة إلى سياسة إنقاذ المصارف، هو بمثابة تأكيد إضافي بأنّ التراكم الفعلي لم يعد يحدث هنا. هكذا، لا تعود محاولة عزل إفلاس المصارف عن السياسة العامّة المُتَّبعة حالياً، مجّرد مناورة للتنصّل من المسؤولية عن الأزمة، أو حتى للتطمين، خوفاً من تأثير الإفلاس على مصارف أخرى وقطّاعات اقتصادية متعاونة مع المصارف المفلِسة. إشارتها، هي بالأحرى، امتدادٌ للتحوّل الذي أصاب الرأسمالية الأميركية جرّاء الأزمة الاقتصادية التي تسبَّب بها فيروس كورونا. إذ أصبحت وجهة التدخّل الرأسمالي منذ ذلك الوقت، مرتبطة بقطّاعات الإنتاج الحقيقي، حتى اليد العاملة منها. على اعتبار أنّ السياسة السابقة الخاصّة بالتدخّل لإنقاذ المصارف، قد زادت من حدّة التقلّبات الرأسمالية، بدلاً من الحدّ منها أو تخفيفِها، وبالتالي حدَّت من الربحية الرأسمالية نفسها. وهو ما جَعَل أسهم الكينزية ترتفع مجدداً، على حساب الوجهة النيوليبرالية الخاصّة بمدرسة شيكاغو، حيث الاتجاه الكلاسيكي للرأسمالية، في تفضيل التصحيح الذاتي للسوق على السياسة النقدية التدخّلية. تحبيذ حدوث تراكم في قطّاعات الاقتصاد الحقيقي، بدَلَ نظيرِه المالي الذي قاد إلى أزمة العام 2008، لم يغيِّر وجهة الإنفاق فحسب، بل ضاعَفَ من حجمها أيضاً، إذ أُقرَّت ابتداءً من عام 2020، رُزَم تحفيز في الدول الرأسمالية الكبرى، لم يسبِق أن شَهِدت هذه الاقتصادات مثيلاً لها حتى في ذروة التقلُّبات الرأسمالية السابقة. وقد استثْنَت في معظمها قطّاعات الاقتصاد المالي من الدعم، ليس لأنّ الأزمة في عام 2020 كانت مختلفة، بل لأنّ حجم مساهمة المصارف في الناتج المحلّي الإجمالي لهذه الدول قد تراجع، على إثر الأزمة السابقة، لمصلحة الشركات المتوسّطة والصغيرة التي ذهب إليها جلُّ الدعم. الانعطافة كانت كبيرة، إلى حدّ شمول الدعم، وللمرّة الأولى تقريباً، اليد العاملة مباشرةً من دون الحاجة إلى المرور عبر أرباب العمل أنفسهم، لا بل صُرِفت الأموال أحياناً، وفق معادلة مؤقّتة ريثما تنتهي الأزمة، مفادُها؛ عدم الحاجة إلى العمل للحصول على الأجر.

آلية الإنقاذ الجديدة
الأداة الخاصّة برزم التحفيز، والتي ضَخّت الأموال أثناء أزمة الإقفال، وانهيار قطّاعات النقل والسياحة والخدمات، إلى الشركات المتوسّطة والصغيرة، ومعها اليد العاملة، عادت مع الأزمة الحالية، وفي السياق الخاصّ بسوق الائتمان، على شكّل حماية فيدراليّة للمودعين. فمع إعلان مصرف وادي السيليكون إفلاسَه وعجزَه عن تأمين السيولة من الودائع للعملاء، انتقلت إدارته فوراً إلى الوكالة الحكومية للتأمين على الودائع لضمان وصول المودعين إلى حساباتهم المصرفية وفقاً للسقف الذي تضعه الوكالة. وهي بذلك لا تَضْمن الودائع للعملاء أو الزبائن فحسب، بل تؤمِّن أيضاً، استمرار تدفُّق الأموال إلى سوق الائتمان، بما يحدّ من التقلّبات الشديدة فيها على ضوء الخلل الكبير الذي أصاب عملية العرض، لمصلحة الطلب. القيود الموضوعة على السحب وفقاً لهذه الآليّة هي أفضل ما يمكن فعله في وضعٍ كهذا، إلى حين تبَلوُر الأداة الجديدة التي يجري التباحث بشأنها بين الوكالة وكلٍّ من وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي، لضخّ الأموال إلى سوق الائتمان التي تضرّرت بشدّة من الانهيار الحاصل.
والحال أنّ شكل التدخّل الحالي للحفاظ على التدفّقات الرأسمالية في سوق الائتمان، وحمايتِها من التقلّبات السوقيّة، يشبه إلى حدٍّ كبير نظيرَه الخاصّ بالحفاظ على عناصر عملية الإنتاج، أثناء أزمة كورونا. في الحالتين حصل التدخّل لمصلحة الاقتصاد الحقيقي، وحُيَّدت العناصر التي تسبَّب معدّل ربحيِّتها غير المقيّد، بإيصال التقلُّبات الرأسمالية إلى الحدّ الذي جعل أسواق الائتمان نفسها تنهار، بعد التداعي الذي حصل لعملية الإنتاج، قبل سنوات. ومع أنّ ذلك يُعَدّ امتداداً لتدخُّل البنوك المركزية الذي يُعتقَد حالياً، على نطاق واسع أنه أحد أسباب الأزمة، لجهة معدّل سعر الفائدة المرتفع، إلا انّه في النتيجة، حدَّ من تأثير «الأصول المسمومة» للبنوك، ومعها طريقة إدارتها، على التدفّقات النقدية في سوق الائتمان. معاودة انتظام عملية العرض والطلب بهذا المعنى لم تكن لتحصل، لو تُرِكت السيولة أو الملاءة الماليّة لإدارة المصارف وحدها، وهو ما حاولت إدارة مصرف وادي السيليكون فعله في البداية حين جرّبت رسملة الأصول من جديد، لتلبية الطلب الكبير على السحب. الفشل في ذلك لا يُعزى على الأرجح، لحجم الطلب وحدَه، بل لطبيعة الإدارة نفسها، التي يبدو أنها غذّت التقلّبات في السوق، مع عدم قدرتها على التأقلم مع استمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، لكبح التضخُّم. انخفاض الأصول بسبب تضاؤُل هامش الربح المتأتّي عن الفارق بين سعري الفائدة على الودائع والقروض، حدَّ من قدرة المصارف المُفلِسة على المناورة، لا سيّما مع عمليات معقّدة كإعادة تكوين الاحتياطات النقديّة. وهو ما جعل تدخُّل الدولة، عبر الوكالة الفيدرالية لتأمين الودائع، بالتنسيق مع وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي، أمراً حتمياً، ليس فقط لمعاودة رسملة الأصول، بل أيضاً لكبح التقلُبات الشديدة التي بدأت بالتأثير في سوق الائتمان بأكملها، مع الانهيار الذي أصاب «سيغنيتشر بنك»، ووضَعه بدوره، تحت الحماية الفيدرالية للدولة. المحصّلة هنا، كما في حالة الأزمة الاقتصادية للفيروس، هي تقييد السوق، ليس فقط لحماية المودعين كما تقول دعاية وزارة الخزانة، بل أساساً للحفاظ على معدّل الربحيّة الذي أضحى مهدّداً، مع عدم قدرة البنوك على كبح التقلّبات، وبالتالي التهديد بفُقدان مصدر التدفُّقات الذي تمثّله ودائع الشركات والأفراد.

الضغوط لتغيير اتجاه السياسة النقدية
على أنّ نجاح الآلية الجديدة في احتواء الأزمة، سيكون على رغم أهمّيته «محدوداً». فالمأزق كبير، ولن ينتهي هنا، غالباً. لِنَقُل أنّ الخلل الذي «تم احتواؤه»، مبدئياً، عبر تأميم المصارف المُفلِسة المؤقَّت، يتجاوز سوق الائتمان، إلى السياسات النقدية التي يضعها المصرف المركزي، وعلى رأسها، معدّل سعر الفائدة المرتفع. وعلى الأرجح أنّ الاحتياطي الفيدرالي سيكون في المرحلة المقبلة تحت ضغط أسواق الائتمان، وحتى المستثمرين فيها، والذين يدفعون، جميعاً، باتجاه التخلّي عن سياسة الفائدة المرتفعة، لمصلحة معاودة تيسير السياسة النقدية. يعتبر هؤلاء، أنّ هذه السياسة هي التي تسبَّبت بانهيار البنوك الثلاثة، لأنّ الميزانيات العمومية للمصارف قد انخفضت، مع الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، ما أدّى إلى الانصراف عن حيازة السندات طويلة الأجَل، التي تستثمر فيها البنوك، لمصلحة نظيرتها قصيرة الأجَل.
لكن هذا المنظور للأزمة، «على وجاهته» في ما يتعلّق باتجاهات سوق الائتمان، يتجاهل التأثيرات الإيجابيّة لمعدّل سعر الفائدة المرتفع، ليس فقط على نسب التضخّم التي أظهرت البيانات أخيراً انخفاضها، بل أيضاً، على معدّل النموّ العامّ في الاقتصاد. فالاقتصاد الأميركي، على رغم أزمة التضخّم، استمرّ بتحقيق «نسب نموّ مرتفعة» نسبياً، قياساً على أداء نظيرِه الأوروبي المُنهَك من تأثير أزمة الطاقة والحرب في أوكرانيا. ويتضّح ذلك، من خلال البيانات الخاصّة بمعدّلات التوظيف ونسب البطالة، اللتين تشهدان تحسُّناً ملموساً، مقارنة مع أدائِهما أثناء أزمة كورونا. وقد تعزّز هذا الاتجاه مع تمسُّك الاحتياطي الفيدرالي بسياسة رفع أسعار الفائدة، بغية إبقاء التضخّم عند النسبة التي تتطلّبها اتجاهات النموّ الحاليّة، أي عند نسبة الـ 2% تقريباً. والحال أنّ التوجه الذي بدأ يظهر حالياً، تحت تأثير أزمة إفلاس المصارف واضطراب سوق الائتمان، لمطالبة الاحتياطي الفيدرالي بتيسير السياسة النقدية، بدلاً من التشدّد فيها، هو بمثابة عكسٍ كامل للاتجاه.
نجاح الآلية الجديدة في احتواء الأزمة سيكون رغم أهمّيته «محدوداً» فالمأزق كبير ولن ينتهي هنا

الأمر الذي سيكبح النموّ المتحقّق مجدداً، على اعتبار أنّ التضخّم سيعود إلى الارتفاع، بمجرّد التخلّي عن رفع أسعار الفائدة، أو حتى خفض وتيرة رفعها، إذا لم يرضخ البنك المركزي، تماماً، للضغوط الحالية من أسواق الائتمان والمستثمرين فيها. عودة التضخُّم هنا لا تعني فقط، كبح النموّ الذي لم يستعِد عافيته بعد، من أزمات انهيار الطلب وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، بل أيضاً انتقال التقلّبات الرأسمالية التي تنحصر حالياً في سوق الائتمان، إلى اقتصاد السلع والخدمات مجدّداً. فبعدما اُستعيدت السيطرة عليها، عقب إقرار رزم التحفيز والمزاوجة الدورية بين سياستي التيسير والتشديد الكمّيين، يمكن لرضوخ الاحتياطي الفيدرالي للضغوط المُمارسة عليه من أسواق الائتمان، أن يطلقها من عقالها مرّة أخرى، ولكن في سياق أكثر هشاشة من السابق، مع الأزمة الحالية في القطّاع المصرفي الأميركي. يمكن القول كذلك، مع فقدان البنك المركزي الأميركي المحتمَل، للسيطرة على السياسة النقدية، تحت تأثير الاضطرابات الحاليّة في سوق الائتمان، أنّ التوازن المتحقّق في سوق العمل، معرَّض بدوره للانتكاس. إذ إنه حصيلة مزاوجة بين توازنين، سوقي ونقدي، وأيّ خللٍ في أحدهما، سينعكس حُكماً، على المؤشّرات الاقتصادية الخاصّة بالاقتصاد الكلّي، والتي تشهد حالياً تحسُّناً ملموساً، بفعل سياسة احتواء التضخّم. هذا، إن لم تشمل الانتكاسة أيضاً، الأدوات النقدية نفسها، لجهة حصول خلل في تعاقب دورات الركود والتضخّم. وهو ما يضع الاقتصاد الأميركي برمّته، وليس فقط أسواق الائتمان التي تتعرّض لانهيارات متوالية، حالياً، في عين العاصفة.