كان مرور الوقت هو الرهان الأساسي للساعين إلى تجنّب كأس التصحيحات المُرّة، بعد أن يعتاد الناس بزعمهم على إيقاع الأزمة، لكن الفئات ذات التكوين الاجتماعي الضعيف دفعت ثمناً باهظاً يفوق قدرتها على التحمّل جراء هذا الزعم. وتؤكد ذلك مؤشرات عدّة، ومنها أنّ خُمس اللبنانيين فقط باتوا يحظون بالأمن الغذائي الكامل، والنسبة أقلّ من ذلك في مناطق وأقضية الحرمان المعروفة، وصار أكثر من نصف اللبنانيين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد، ووقع ثلاثة أرباعهم في بطالة كلّية أو جزئيّة أو مقنّعة، فضلاً عن تبديد ما لديهم من مدّخرات، للتعويض عما فقدوه من دخل بدلاً من أن تموّل استثمارات مادية وبشرية منتجة. وهذا يطرح إشكاليّة تستحق الاهتمام في حينه، تتعلق بسبل إعادة تكوين رأس المال في لبنان بوصفها عنواناً من عناوين التعافي والانقاذ.لكن إذا كان هذا هو حال التكيّف الاجتماعي المؤلم مع الأزمة، فماذا عن التكيّف الاقتصادي؟

(بيكس ــ الأرجنتين)

توحي المعاينات المباشرة بأنّ بعض القطاعات تفلت تدريجيّاً وبدرجات متفاوتة من قبضة الأزمة، وأكثر ما يبرز ذلك في الأنشطة ذات الإنتاجيّة المنخفضة أو قليلة التعقيد، والتي تعمل في العادة ضمن دائرة الاقتصاد النقدي (الكاش) ولا تحتاج إلى ضخ مستمر للمداخيل ولا إلى تجديدات متواصلة، وهي في العموم أقلّ عرضة للمنافسة من غيرها. ويواصل مصرف لبنان تصوير الأوضاع على هواه، تخفيفاً من حدّة الأزمة حيناً وتنصّلاً من المسؤولية عنها حيناً آخر. وقد نشر في هذا السياق تقديرات عن بوادر نموّ وصل إلى 2% في العام الماضي، وكأنه يقول ألم أخبركم من البداية أنّ الناس سيعتادون وأنّ الاقتصاد سيتمرّن على استيعاب ما حدث. ومع ذلك، لا ننكر وجود إشارات عن تباطؤ النمو السلبي في العام الماضي، وحتى البنك الدولي الذي ما زال يتبنّى مقاربات متشائمة تجاه الوضع المالي والاقتصادي للبنان ويتّخذها ذريعة لتقريع السلطات، خفّض في تقريره الأخير تقديرات الانكماش من 7% إلى 5% تقريباً. والغريب في أمر تقديرات مصرف لبنان أنّه يعتمد على ما يسمّيه المؤشر الاقتصادي العام Lebanon Coincident Index، والذي خسر نحو ثلثي قيمته من نيسان 2018 حتى نيسان 2022، ثمّ استردّ 7.7% من هذه القيمة في شهر أيار الماضي، أي بزيادة مقدارها 20% عن الشهر السابق. هذا الارتفاع الملموس في المؤشر إنّما يتصل بالطريقة الهجينة التي يُحتسب فيها، والتي إن كانت ملائمة أصلاً فإنها لا تتناسب البتّة مع الأوضاع الحاليّة للبنان، فالمؤشر المذكور يتضمّن متغيرات غير ذات دلالة في الوضع الحالي، مثل مقاصّة الشيكّات وإنتاج الكهرباء وطلبات الاستعلام من مركزيّة المخاطر في مصرف لبنان...

تمويل هجين
وحتى لو سلّمنا جدلاً بوجود تحسّن ما في الأداء الاقتصادي العام للبلد، فلا بد من أن نأخذ بالاعتبار أنه نموّ ظرفي وغير قابل للاستمرار ربطاً بالطريقة التي يحدث فيها، وبالنظر إلى هشاشة آثاره ونتائجه. ففي واقع الحال أتى تمويل النشاط الاقتصادي في العام الماضي من مصادر لا تتصف بالاستدامة والصلابة، كالسحب من المدّخرات وتسييل الأصول المالية والحقيقيّة التي راكمها المواطنون في السابق. وفي السياق نفسه، جرى تذويب الأصول الأجنبية المودعة في المصارف والتي تُسحب بالعملة المحليّة التي يصدرها لهذا الغرض المصرف المركزي، أو بالدولارات النقدية المسحوبة من الموجودات الخارجيّة المتبقّية لديه. وتتيح التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان تسييل الودائع المحتجزة لدى المصارف على شكل دفعات منتظمة ومتساوية، وهذا يحوّل طبيعتها من أصول مالية ومدّخرات إلى مداخيل.
وبخلاف التأثيرات الإيجابيّة لتيار الدخل الناتج من دورة النشاط الاقتصادي الاعتيادي، والذي يتساوى بالتعريف مع تيار الإنفاق (الاستهلاكي والاستثماري)، ومن شأنه أن يحقّق التوازن الاقتصادي المطلوب بين العرض الكلّي AS والطلب الكلّي AD، فإنّ التمويل من خلال السحب من المدخرات يحفّز التضخّم ويترك تأثيرات محدودة ومتلاشيّة الأثر على النمو. هذه الطريقة في التمويل تغذّي من ناحية، قطاعات منخفضة الإنتاجية ولا يعوّل عليها في أن تكون رافعة للاقتصاد، وتعزّز من ناحية ثانية الإنفاق على السلع المستوردة وعلى الخدمات المحليّة غير القابلة للتبادل الدولي، ما يعمّق التأثيرات السلبيّة على النمو والميزان التجاري ويرفع معدّلات التضخّم بأعلى من وتيرة تراجع القيمة الخارجية للعملة الوطنيّة تجاه الدولار والعملات الأخرى. وفي نهاية المطاف، سيقع الاقتصاد تحت رحمة مزيج من لعنة الموارد والركود التضخمي، كما يظهر في تزامن النمو السلبي مع تضخّم فاتورة الاستيراد التي وصلت عام 2022 إلى ما بين 80% و125% من الناتج المحلّي الإجمالي على اختلاف تقديرات الناتج، وهذا رقم غير مسبوق في لبنان.
في نهاية المطاف سيقع الاقتصاد تحت رحمة مزيج من لعنة الموارد والركود التضخمي


ومن الوقائع الدالة أيضاً على بوادر ظهور المرض الهولندي، المستغرب حدوثه في ظروف الانهيار، تقلّص الفارق بين مؤشّر أسعار الخدمات المحلّية (كالإيجارات والخدمات الشخصيّة والمنافع الاجتماعيّة..) وأسعار السلع التي تُتبادل دوليّاً ويمكن استيرادها من الخارج، علماً بأن المنتجات التي لا تقبل المتاجرة الدوليّة تنخفض أسعارها بحدّة خلال الأزمات مقارنة بغيرها. وسنصادف أيضاً معطيات عدّة تشير إلى أنّ القطاعات الأعلى إنتاجيّة كانت ولا تزال الأكثر تضرراً من الأزمة.
وبالنتيجة، سواء كان مصدر تمويل الإنفاق والطلب هو السيولة التي يضخّها مصرف لبنان بالليرة اللبنانية، أو تحويلات المغتربين أو السحب من الموجودات الأجنبيّة، فإنها تفاقم الأزمة ولا تساعد على تحقيق تكيّف تلقائي كالذي عرفه لبنان في أوقات سابقة، وليست هي البديل المناسب لانتظام التمويل في جانبَي الإنتاج (العرض) والإنفاق (الطلب) مع الإبقاء على فائضٍ كافٍ لتسوية تدريجيّة للخسائر واستعادة التوازن المالي.

ثلاثة اتجاهات
يتعمّد القائمون على السياسات البحث عن مخارج قريبة وسهلة تعفينا من وطأة الإصلاحات الثقيلة وهمومها، فيما المعالجات الناجعة تقتضي إجراءات منسّقة ومنظّمة ومجهدة، وتنطوي في الغالب على نزاعات وتسويات في الداخل وصراعات ومساومات مع الخارج.
وفي واقع الحال، بيّنت الوقائع وجود انقسام في النظرة إلى الأمور بين ثلاث فئات؛
- فئة ترفض أي إجراء يلحق الضرر بمصالحها أو يعرّضها للمساءلة، ولديها بذلك المصلحة في ترك المياه تمرّ تحت الجسور من دون تدخل، حتى لو صبّت في طاحونة الأزمة. وتكمن نقطة قوة هذه الفئة في أنّها تمتلك الكثير من أدوات التعطيل في الداخل وما يكفي من الامتدادات الخارجية اللازمة لحمايتها.
- فئة ثانية تحصر مقارباتها بما تطلبه المؤسّسات الدوليّة وتعفي نفسها من التفكير بما هو أبعد من النقاط الثماني الواردة في اتفاق الإطار مع صندوق النقد الدولي، ومعظم هؤلاء يقفون في الوسط وليس لديهم ضلع يُذكر في التدهور الحاصل.
- فئة ثالثة، ولعلها أقليّة، لا ترى مجالًا للحل من دون ولوج باب الإصلاحات العميقة والشاملة، ويتأكد ذلك برأيها، كلّما تأخر الإنقاذ وزادت الأوضاع سوءاً. فإذا كان الصندوق يُصوّر بأنه المدخل الوحيد للحلّ، وسلّمنا جدلاً بضرورة الاتفاق معه، فلا بد من أن يترافق ذلك إن حصل مع استراتيجيّة خروج تكفل لنا التحرّر من قبضته في المستقبل، وامتلاك برنامجنا الخاص الذي يتجاوز الآفاق الضيقة للحلول التي يطرحها، والمضمون الاقتصادي الضعيف لوصفاته، والمشروطيّة المفرطة التي تضع المتعاملين معه في طريق دائري، يجدّد مسارات الأزمة ويعيدهم إليها تكراراً.

* ينشر هذا المقال بعد تعديلات من الكاتب على النسخة الأصلية التي وردت في النشرة الاقتصاديّة للمركز الاستشاري للدراسات