بعد 15 سنة على الأزمة المالية العالمية، اندلعت أزمة جديدة في الولايات المتحدة الأميركية، إذ أدّت مكافحة التضخّم إلى إفلاس مصرفي محدود، حتى الآن. لكن هذه العوارض، برأي المفكر العربي علي القادري، هي تعبير عن متلازمة الاقتصاد الرأسمالي الذي يغرق في دوامة خلق المال المولّد للمزيد من الفقاعات، ثم تنظيف نفسه من الفقاعات بواسطة الأزمات المتتالية لمصلحة الرأسماليين. وهذه الأزمات، تُظهر أن السياسات النقدية بقيادة المصارف المركزية من خلال التحكّم بأسعار الفائدة، ليست حلّاً بديلاً من السياسات المالية التي تتضمن سياسات إعادة توزيع للثروة عبر الضرائب وتثبيت الأجور والأسعار، وأنه ليست هناك أيديولوجيات بديلة في المجتمعات الرأسمالية. لكن ذلك لا يعني أن أميركا ستفقد هيمنتها المدعومة بقدرتها على التحكّم بالإنتاج المستقبلي للعالم، حتى وإن ضعفت هذه الهيمنة الآن بسبب ثقل مديونيتها وتراجع قدرتها على خدمة الدين من خلال هذا التحّكم في ظل عالم متعدّد الأقطاب. فحتى الآن لم يتبلور البديل. وما عدا ذلك، كل ما يروّج له في الغرب عن تدخّل الدولة في الاقتصاد، وعن الاقتصاد الحرّ هو مجرّد أضاليل


يقال إن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي تخلق الأزمات لتنظيفه من الشوائب التي يخلقها. هل توافق على هذا التوصيف الذي يُظهر الاقتصاد الرأسمالي مثالياً وقابلاً للاستدامة؟
- لدى أميركا حجم دين هائل يُقدّر بما بين ثلاثة وخمسة أضعاف الناتج المحلّي الأميركي (حسابات مجموع الدين الخاص والعام). وحتى تكون أميركا قادرة على خدمة هذا الدين فهي بحاجة إلى التحكّم بالإنتاج المستقبلي للعالم لأنها لن تستطيع خدمته من قدرات الداخل الأميركي فقط، وإلا ستتلاشى قيمة الدولارات التي أصدرتها. لذا، فإن العرض الكبير بالنقد الذي خلقته منذ عام 1980 يخلق فقاعات في الأسواق. وعندما تخلق الكثير من النقد والسيولة، تتحرّك هذه الأموال نحو المضاربة على الأصول، فترفع سعرها. تخلق الفقاعة من حركة المال الذي يُطبع بشكل مجاني، ويُضخّ في السوق. وهذه الفقاعات قديمة، لكن بمجرد أن أميركا دخلت طور الاستدانة لخلق الثراء، وبمفهوم أن السياسة النقدية هي الحل الوحيد لمواجهة الأزمات الاقتصادية، من خلال التحكّم بأسعار الفائدة، واللعب بأسعار العملة صعوداً وهبوطاً، هذه الدوامة ستضطرهم دائماً لخلق المال الذي يولّد مزيداً من الفقاعات.
والأزمات في النظام الرأسمالي تقوم بتطهير النظام بشكل تلقائي، لأن لا إيديولوجيا بديلة متاحة اليوم في المجتمعات الرأسماليّة. كل أزمة تحصل في ظل عدم طرح بديل، تُفقر الناس وتُعيد توزيع الدخل، بحيث «يُنظّف» النّظام نفسه لمصلحة الرأسماليين. بمعنى أن لا ثورة من دون إيديولوجيا ثورية. وما يحصل حالياً هو أن الدول الرأسمالية استخدمت السياسة النقدية، إذ عمدت المصارف المركزية إلى رفع أسعار الفائدة مع وجود التضخّم، وهو ما أدّى إلى خلق مشكلة في الطلب. ففي هذه الحالة ارتفعت كلفة المعيشة عند الناس، وارتفعت كلفة مديونيتها، ما أدّى إلى أزمة في الاقتصاد الحقيقي.
هذه الأزمة متعدّدة الحلقات: الحلقة الأولى تكمن في الاقتصاد المنزلي، إذ إن الأسر لم تعد قادرة على الدفع مثل السابق. والحلقة الثانية تكمن في المصارف التي تحمل سندات أُصدرت عندما كانت معدلات الفائدة منخفضة، لكن عندما ترغب في بيعها لتغطية الطلب على الودائع، ستتكبّد خسائر بمقدار الفرق بين ما كانت عليه الفائدة وما أصبحت عليه. وهناك أسواق أخرى تأثرت برفع سعر الفائدة وهي سوق الـRepo، والـCDO، وأسواق المشتقات. وكل هذه الأسواق بعضُها مترابط مع بعض. لكن في النتيجة، إن قيام الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة فيما لا يزال التضخّم مستمراً، خلق أزمات طلب في مرحلة صعبة، إذ أصبح هناك ركود في الاقتصاد لا يمكن مواجهته بخفض أسعار الفائدة لأن ذلك يسهم في تغذية التضخّم. هذا تناقض منطقي لا يُحل إلا بسياسات حقيقية تعيد توزيع الموارد وتخلق قواعد جديدة للعبة الاقتصادية.

هل تعتقد أن المصارف المركزية وعلى رأسها الفيدرالي الأميركي مربكة تجاه هذا الأمر؟
- يُقال إن رفع أسعار الفائدة مرتبط بالسيطرة على معدلات التضخّم، وإن محاربة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة تؤدّي إلى انكماش في الاقتصاد والبطالة، وعندما تخلق البطالة تنخفض الأجور وينكمش الطلب على السلع، فينخفض التضخّم. هذه مقولة مغلوطة، لأن سبب التضخّم الأساسي هو الاحتكار أو العوائق التي تكبح الإنتاج. وزيادة طبع العملة ليست إلا عارضاً لذلك، والتضخم هو أيضاً عارض.
للمفارقة أن البنك الفيدرالي الأميركي، لديه سياستان مالية ونقدية، لكنه منذ عام 1980 يتبع سياسة نقدية لمكافحة الأزمات. أي أنه لا يتدخل في السياسة الضرائبية، ولا يخلق وظائف واستثمارات عامّة، لأن القطاع العام، بحسب النظرية السائدة في الغرب منذ الثمانينيات، سيّئ في التعامل الاقتصادي رغم أن القطاع العام لا يفسُد إلا إذا أفسده القطاع الخاص. النقد اللامتناهي يخلق فقاعات. فالسياسة النقدية تخلق عرضاً وتخفّف الطلب، لكن ارتفاع العجز في الطلب يدفع الموارد نحو الطلب على العسكرة، أي البرامج التي تضعف استقلالية المواطن بإضعاف مصادر دخله، وتمعن في التوسع العسكري الذي يخلق بدوره الضمانة لمديونية الدولار.

كلما تشدّد الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة سينكسر شيء ما في مكوّنات الاقتصاد، وكلما تهاون سيشتدّ التضخّم. أليس أساس الأزمة اقتصادياً، ومعالجتها من خلال السياسة النقدية تعقّد الأزمة؟
- المرحلة اليوم أصعب من المراحل السابقة. أميركا لم تعد قادرة على التحكّم في السوق الدولية كما كانت سابقاً. ومديونيتها أصبحت مرتفعة نسبة إلى قدرتها على التحكّم بالمستقبل، والفقاعات التي كانت موجودة سابقاً تضاعفت بشكل كبير، ورغم أن قدرتها على الاستدانة ما زالت كبيرة إلا أنها تقلّصت.


في كل المراحل التي تحصل فيها أزمة كهذه، لا يُمكن أن تُحل نظرياً. الأزمة اليوم تحتاج إلى «هيركات»، أي إعادة توزيع للدخل. بعبارة أوضح، ماذا ستدفع كل شريحة من المجتمع من دخلها لتغطية خسائر الاقتصاد النقدي؟ عملية إعادة التوزيع هذه لها علاقة بالوعي السياسي للشرائح العمالية مقابل رأس المال. فإذا كان لدى الشرائح العمالية الوعي والتنظيم لتفرض على رأس المال أخذ حقّها، ستفرض تغييراً في طريقة مكافحة التضخّم عبر السياسة النقدية لتصبح عبر السياسة المالية، أي خفض الضرائب على العمليات الإنتاجية، وخلق قانون تثبيت أسعار، وقانون تثبيت أجور، وعندها يمكن حلّ الأزمة. لكن في غياب الوعي الثوري، تعيد المنظومة تأهيل نفسها لدورة جديدة من التراكم.

في مراحل مختلفة، كان منظّرو الرأسمالية يقولون إن الاقتصاد الحرّ هو أساس كل النظام الاقتصادي العالمي، إلا أنه رغم ذلك، هناك تدخّل واضح لإنقاذ المصارف المفلسة. هل يمكن الاستنتاج بأن النظام الرأسمالي ينحدر كل مرّة يظهر فيها نفسه، وصولاً إلى تبعات مدمّرة؟
- كون الأزمة مدمّرة أو غير مدمّرة على النظام، له علاقة بالسيولة التي يستطيع أن يضخّها المصرف المركزي، عبر حمل ديون الشركات المديونة، مثلما فعل في عام 2008. هذه العملية كانت عبارة عن خلق أموال، ومنذ عام 2008 حتى اليوم قامت المصارف بردّ الديون للفيدرالي الأميركي. أما اليوم، فالمشكلة هي أن مديونية الاحتياطي الفيدرالي ومديونية الولايات المتحدة أصبحتا عاليتيْن بالنسبة إلى قدرتهما على التحكّم. والسؤال الأساس: هل لدى الفيدرالي القدرة على ضخّ السيولة بالشكل الكافي لتغطية الأزمة في حين أن العالم يُصبح متعدّد الأقطاب؟ هذه هي النقطة التعجيزية في المسألة الحالية. ففي عام 2008 كان يملك القدرة لفعل كل هذا لأنه آنذاك لم تكن الصين وروسيا معرضتين للحصار الأميركي، بل كانت قدرة أميركا على التحكّم بالسلع الاستراتيجية، وقدرتها على التحكم إيديولوجياً، أكبر، وهو ما أعطاها القدرة على ضخّ الأموال. لكن الولايات المتحدة لا تملك اليوم نفس مقدار التحكّم الذي كان موجوداً في عام 2008، بل تقلّصت الأرضية التي تمنحها القدرة على ضخّ السيولة لترقيع الاقتصاد.

تعريف

علي القادري دكتور في الاقتصاد في جامعة صن ياتسن ■ يركّز في أعماله الحالية والسابقة على قضية التراكم من خلال التدمير وإنتاج الملوّثات والنزعة العسكرية ■ لقد جادل بأنه إلى جانب الحرب من أجل السيطرة الاستراتيجية على النفط، فإن الحرب هي أيضاً شكل من أشكال الإنتاج وغاية في حد ذاتها ■ من مؤلّفاته تفكيك الاشتراكية العربية، طريق الصين إلى التنمية: مواجهة النيوليبرالية، وغيرها من الكتب.


فشل النظام الرأسمالي له مقياسان: الفشل الأوّل الاجتماعي، أو الفشل الكوني. فحين تكون في عالم فيه دول فقيرة متوسط العمر المتوقّع فيها 50 سنة، ودول أخرى غنيّة متوسط العمر المتوقّع فيها 90 سنة. وإذا كان المقياس هو تطوّر الإنسانية، فنحن خلقنا ملوّثات وأتعاباً وإبادات اجتماعية بما لا يُقارن بالثراء القائم. هذه مؤشّرات تدلّ على أن هذا النظام ليس ناجحاً على الإطلاق. قيمة الهدر أكبر من قيمة الثراء النافع للبشرية. والثاني هو الأسعار، التي تكذّب الواقع. فعلى سبيل المثال، سأل الكاتب اليوناني العربي أرغيري إيمانويل، عن الآتي: لماذا يتقاضى عامل البناء في بيروت 2 دولار في اليوم وهو يملك نفس القدرات الإنتاجية ونفس الأدوات التي يملكها عامل البناء في نيويورك الذي يتقاضى 20 دولاراً في اليوم؟ القوّة السياسية هي التي تضع الأسعار بشكل يشوّه القيمة. هذه القدرة تعطي هذا العامل أجراً أكثر من غيره. من ناحية الأسعار، يظهر أن الاقتصاد ينمو سنوياً بنسبة 2% أو 3%، لكن مضمون الأمر خسائر بيئية وإنسانية، وأجور متدنية بسبب سلب الشعوب من حقها المُبتنى على إنتاجيتها.
أما بالنسبة إلى كلمة الاقتصاد الحر، فالحرّ بالمطلق ليس موجوداً. الاقتصاد الحرّ يعني أن هناك فئة اجتماعية تملك الإمكانات وهي حرّة إلى حدّ أن تحوّلها بما يخدم مصالحها. ورغم أن هناك فئات اجتماعية تشكّل الشريحة الكبرى، إلا أنها لا تملك الحرية أبداً وليست لديها الإمكانات بأن تمارس أي نوع من الحرية. في الواقع، الحريّة التي تملكها الفئة الحرّة مبنية على «عدم حريّة» الفئة الأخرى، وعلى قدرتها على التحكّم فيها. مسألة الاقتصاد الحرّ، هي كيف تخلق الآليات التي تجعل الموارد تذهب إلى فئة دون أخرى من خلال التحكّم بالأسعار الكليّة. هذه الأسعار هي عبارة عن ثلاثة: سعر الصرف، سعر الفائدة وسعر الأجور. سعر الصرف يتحكّم بكل الأسعار ولا سيما أسعار السلع المستوردة. أما سعر الفائدة، فله عدّة وظائف منها تحفيز التدخير والاستثمار. بينما يتحكم سعر الأجور في الطلب. الحرية الحقيقية هي في قدرتك على التحكّم في هذه الأسعار الثلاثة، وهو ما يسهم في نقل الثروة من هذه الفئة إلى هذه الفئة. وهذه الأسعار تتبلور من خلال تبنّي سياسات اقتصادية تكون وسائل لتوريد الثراء لفئة على حساب أخرى. والسياسات هذه هي الفكر الحاكم الرئيسي، الذي يُجنَّد له شبكات اجتماعية تكون هي الأخرى تجليات لظروف طبقية.

تحكّم كهذا هو تدخّل من الدولة، بينما يزعم أصحاب الإيديولوجيا النيوليبرالية أن الدولة لا تتدخّل. فهل هذا يعني أنهم يكذبون؟
- هناك إرث فكري يزيّف الواقع. الادّعاء بأنه لا يمكن أن تتدخّل الدولة في الاقتصاد ويجب ترك الاقتصاد الحر يعمل بالشكل الذي يراه مناسباً هو تزييف للواقع لأن التدخّل موجود من خلال الأسعار الثلاثة المذكورة. يستحيل أن تسحب الدولة يدها من الاقتصاد. ففي عام 1980 عندما اعتمد رونالد ريغان ومارغريت تاتشر النظرية النقدية (نظرية ميلتون فريدمان التي تنص على ضبط معدل إصدار المال على معدل ثابت سنوياً)، قاما برفع أيديهما عن المصارف المركزية وقدرتها على التدخّل بشكل دوري في الاقتصاد، هذا الأمر ساهم في ركود الاقتصاد العالمي كله، لذا اضطرا إلى إعادة تدخّل المصارف المركزية في الاقتصاد من خلال مجاراة طلب السوق للنقد. القصة تتعلّق بالفكر الحاكم، وهو نتاج الجيل السابق الذي وضع قواعد اللعبة، ووضع الأفكار التي على أساسها يعمل أي شخص من واضعي السياسات.
من ناحية ثانية، هم يقومون بتقليص التقديمات الاجتماعية والاستثمار في الإنسان (أو رسملة اليد العاملة من خلال تعليمها وتطويرها)، ويقوّون القدرة الاضطهادية عبر تقوية الجيش والقوى الأمنية والمخابرات، وهذا بحدّ ذاته يُعدّ تدخّلاً من الدولة. بشكل عام، هذا الأمر هو عبارة عن سحب يد الدولة من المستشفيات والمدارس ووضعها في الشرطة والسجون. لكن الأهم هو التركيز على العسكرة كحقل للتراكم يتطلب زيادة الإنفاق بشكل يقوي النمو والأرباح ويضعف استقلالية الشعوب.

اليوم هناك اتفاقات عديدة لشراء السلع الاستراتيجية مثل النفط والغاز بعملات غير الدولار، فهل هذا يؤثّر على قدرة أميركا على مواجهة الأزمة؟
- نحن اليوم في مرحلة مختلفة. فقد ضعفت قدرة البنك المركزي الأميركي على ضخّ السيولة بعدما تضاءلت قوّة أميركا في حماية مديونيتها بتحكّمها بالمستقبل. لذا، فإن الطلب على الدولار يتراجع بسبب اتفاقات على التداول التجاري بعملات أخرى، ما يعني أن عملية خلق الدولار أصبحت أضعف. في الواقع، إن البنك المركزي الأميركي يضخّ الدولار لأن هناك طلباً عليه، لكن إذا انخفض الطلب على الدولار يُصبح معدّل ضخه أقلّ.

هيمنة الدولار لا تتعلق بكون العملة الأميركية عملة تداول بل بأنها عملة حفظ قيمة تُثبّت مقابلها قيمة العملات الأخرى وليس هناك بديل جدي بعد

هذه المشكلة ليست كبيرة حتى الآن. إلا أن المشكلة الكبرى في سبيل التخلّص من هيمنة الدولار، لا تتعلق بكون العملة الأميركية عملة تداول، بل بكونها عملة حفظ قيمة تُثبّت مقابلها قيمة العملات الأخرى. فأميركا لديها سند الخزينة الوحيد في العالم الذي يمكن تسييله بشكل شبه مباشر قبل الاستحقاق، وهذا العمق النقدي موجود فقط في أميركا القادرة على تغطية كل ديونها. واليوم لا بديل جدياً من سند الخزينة الأميركية. هناك محاولات لخلق بديل إلا أنها لا تزال محاولات. البديل النظري بسيط وهو خلق سندات مماثلة في دول أخرى كبرى مثل الصين. لكنّ البديل يتبلور تاريخياً أولاً، ثم نظرياً. والتاريخ هو الاختلال بموازين القوى الحاصل حالياً والذي حتماً سيولّد بديلاً.

تطهير النظام لنفسه يوجب تسديد ثمن. على من يقع تحمّل هذا الثمن؟
من يدفع الثمن هو الطبقات العاملة، أي الأسر التي تملك المنازل وتحتاج إلى شراء الوقود والغذاء... هؤلاء سيدفعون الثمن لأن أجورهم الحقيقية تضاءلت بسبب التضخّم والكثير منهم اشتروا منازلهم عبر قروض ذات معدلات فائدة متحرّكة، وبالتالي سترتفع كلفة ديونهم بسبب ارتفاع معلات الفائدة، وهو ما يؤثّر على أجورهم المتاحة للإنفاق. وبما أن الاقتصاد الأميركي يرتكز على الريع الإمبريالي، فقد درجت العادة على أن تُحل مشكلة التوزيع الداخلي بالتوسع خارجياً على حساب شعوب العالم الثالث. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن عمالة الغرب شريكة بالإمبريالية.

في كل الأنظمة الرأسمالية تم القضاء على النقابات، وهو ما يضعّف موقف العمال التفاوضي في حالات الأزمات. هل يستطيع عمال أميركا التفاوض على الخسائر التي ستدفعها شريحة العمّال؟
- العمل النقابي في أميركا ضعيف كثيراً. لكن لا يجب أن ننسى أن العمل النقابي في أميركا وأوروبا يختلف كثيراً عن العمل النقابي في العالم الثالث. النقابات في الدول الرأسمالية الكبرى كانت تشكّل نوعاً من إعادة توزيع الريع الإمبريالي بينها وبين رأس المال. النقابات هناك لم يكن لها دور عمّالي بحت، بل كان لها دور سياسي يخدم التركيبة الاجتماعية الغربية بطريقة إعادة إنتاجها مستقبلاً. النقابات كانت تسأل رأس المال الغربي بأن يعطيها حصّة كبرى، لكنها لم تكن تسأله بأن يحسّن أوضاع الإنتاج للطبقات التي تشبههم في العالم الثالث.

رأس المال يدرك أن الوعي البديل هو اشتراكي، لأن الاشتراكية نظام منظّم للإنسان والبيئة. لذا قام رأس المال بشراء الماركسيين الغربيين

عندما تقول لرأس المال بأن يعطيك حصّة كبرى، هذا الأمر لا يُشكّل مشكلة لرأس المال لأنه يستطيع أن يطبع الأموال ويعطيها... لذا هم شركاء في العمل الإمبريالي. لذا، عندما ضعف الاتحاد السوفياتي، تلاشت الحركة النقابية في الغرب لأنه في تلك المرحلة كان رأس المال الغربي بحاجة إلى هذه الطبقات في الغرب ويقول لها بأنه سيحسّن وضعها بسبب المنافسة بين الدول الغربية والاتحاد السوفياتي الذي كان يُقدّم الكثير للعمّال. اليوم ولّدت القوى الغربية شريحتين في داخلها، إحداهما جزء من رأس المال، وما تبقّى من أقليات أفريقية ولاتينية، تنتمي فعلياً إلى العالم الثالث بمستوى حياتها.

هل هناك بديل للنظام الرأسمالي؟
سقوط النظام الرأسمالي أو عدم سقوطه له علاقة بالوعي. إذا وعى العالم أن هناك بديلاً للنظام الرأسمالي الذي يبيد الإنسان والبيئة، يمكن الحديث عن السقوط. المشكلة هي أن رأس المال يدرك أن الوعي البديل هو اشتراكي، لأن الاشتراكية نظام منظّم للإنسان والبيئة. لذا قام رأس المال بشراء الماركسيين الغربيين. فهناك اشتراكيون يُظهرون الاشتراكية لكنهم يؤيدون الحروب على العالم الثالث. هذه المرحلة هي مرحلة تبلور الوعي البديل في العالم الثالث، وهذا لن يأتي من الغرب، لأن الاشتراكيين الغربيين معظمهم مموّلون من رأس المال الغربي. يحتاج العالم الثالث إلى بلورة وعي بديل في هذه الحالة، واليوم الصين تخلق حالة يمكن أن يتبلور فيها الوعي البديل، ليس كما كان في أيام الاتحاد السوفياتي بل من خلال حياكته مع الظرف الثقافي الذي يعيشه كل بلد. فمثلما هناك اشتراكية في الصين، يجب أن تكون هناك اشتراكية عربية واشتراكية أفريقية ويوغوسلافية وإلى ما هنالك.

كيف يمكن أن تقوم دول العالم الثالث بإنتاج هذه الخطوة في حين تغزوها الثقافة الغربية؟
- تكلمنا عن الصنمية، وأن الأسعار تُزيَّف، والفكر السائد يُزيَّف، وأي سلعة ممكن أن يُخلق حولها وهج معين يزيّف الواقع، حتى لو كان ذلك «الذكاء الاصطناعي» أو سيارة أو أي شيء، فهي يجب أن تُباع. الأمر ليس جديداً، لكنّ التغيير يخلق أيام الأزمات حين تسقط الأقنعة. فعندما لا تكون هناك قدرة على الأكل أو الشرب تُصبح هذه المفاهيم (مثل الذكاء الاصطناعي) غير مهمة. الوعي لا يتبلور بوحي، بل بالممارسة. يسعى العمل النقابي، على سبيل المثال، لوضع السياسة قبل الاقتصاد، فيطالب بالسيادة الاقتصادية، وبالقدرة الإنتاجية لزيادة الأجور. وهذا بالطبع منوط بمقاومة الإمبريالية. هذه هي الحلقة الأولى أو ما يُقال له أولوية السياسة. يجب التعامل مع المشاكل على الصعيد الكلّي وليس بشكل جزئي. أي صراع ناجح عليه وضع عملية بناء التنمية على أسس مقارعة الإمبريالية. فالتنمية سيادة ولا سيادة في ظل تحكّم الإمبريالية.