لو توجّب تأريخ حركة المعارضة لارتهان لبنان المالي إلى الخارج، فالاسم الذي سيظهر في مراحل مختلفة من عمر لبنان هو الياس سابا. نعم، الآن ثمة معارضون كثُر، بينهم من يملك الكفاءة والخبرة، وبينهم معارض بالقومية الوطنية والعربية، إنما لم تمتدّ جذور الوعي المعارض لأيٍّ منهم على التحوّلات الكبرى التي شهدها لبنان منذ الخمسينيات لغاية اليوم. وفوق هذا، يندر أن يملك أياً منهم ميزة ألا يكون ابن المدينة، كما كان عليه سابا ابن الكورة. جذوره شكّلت جزءاً لا يتجزّأ من وعيه، ومنها إلى أوكسفورد في عزّ الفورة الكينزية وحمل شهادة الدكتواره في الاقتصاد في عام 1950.

ابن الريف خريج أوكسفورد، أبدى كفاءة استثنائية في الاقتصاد السياسي، فاستقطبته الكويت ليعيّن في عام 1961، مستشاراً اقتصادياً في وزارة المال الكويتية. في تلك الفترة كان الاقتصاد الكويتي في بداية تشكّله، لكن لبنان أيضاً كان يمرّ بمرحلة تحوّل كبير من الانفصال الجمركي في عام 1950 إلى الصراعات الإقليمية وأزمة 1958 وأزمة إغلاق الحدود في عام 1969... المهم، في تلك الفترة انتُخب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. لعلّه أول رئيس ماروني من خارج البرجوازية اللبنانية التقليدية، ولعلّه أول من يعبّر فعلاً عما يسمى المارونية السياسية. لكن فرنجية لم يكن لديه فكرة عن الاقتصاد، إنما كان يريد تعيين اقتصادي بارع من الشمال. هكذا اختار الياس سابا ليكون وزيراً للاقتصاد والدفاع. لكن لم يكن الاختيار مبنياً على هذه العلاقة فقط، بل كان مدفوعاً بالقلق والخوف لإنتاج المعرفة وهي حاجة أدركها فرنجية بفطنته وعكسها مباشرة في اختيار باقي وزراء ما سمّي في حينه «حكومة الشباب» والتي تضمّنت حسن مشرفية وجعفر شرف الدين وأميل بيطار وسائر الأسماء التي كانت تملك كفاءة سياسية إلى جانب الخبرة التقنية.
في ذلك الوقت كان اقتصاد لبنان، كما رآه سابا، مهدّداً بالارتهان المالي للخارج، وهو الأمر الذي عارضه مباشرة اعتباراً من لحظة التعيين الأولى. فلبنان الذي خرج حديثاً من الانفصال الجمركي مع سوريا، كان يحتاج إلى كبح الاتجاه الذي يسلكه نحو الارتهان المالي. فالانفصال كان يعكس توجهات متناقضة حول مفهوم الدولة والاقتصاد في لبنان وسوريا. سوريا كانت تريد عملة متوافقة مع عمليات الإنتاج المحلية وزيادة القدرة التصديرية لاحتواء المناطق الريفية ضمن الدولة، بينما في لبنان كانت القيادة في الاقتصاد السياسي للتجّار وأصحاب الأعمال الذين عملوا على تعزيز الليرة اللبنانية وإضعاف التصدير والاعتماد أكثر فأكثر على الاستيراد والتدفقات المالية الآتية من الخارج. وكان سابا يرى أن الأسعار الداخلية في لبنان بدأت تسجل ارتفاعات لا قدرة على الاقتصاد المحلي على استيعابها، وبالتوازي كانت التدفقات المالية تأتي من الخليج بوفرة، وكانت القطاعات الإنتاجية تذبل وتنتهي بوتيرة متسارعة. وحتى لا نشعر أننا أغنى مما كنّا عليه بالفعل، كان يجب عليه التدخّل لحماية الإنتاج المحلي. هكذا اختار لائحته لزيادة الرسوم الجمركية على نحو 580 سلعة. بهذا العقل وفي إطار هذا الهدف، جاء اقتراحه بزيادة الرسوم الجمركية التي تعدّ أول خطوة مسجّلة في اتجاه مكافحة اتجاه الارتهان المالي للخارج.
في عام 2004 أثناء تولّيه وزارة المال في حكومة عمر كرامي قاد سابا جلسات تفاوض مع صندوق النقد والبنك الدوليَّين للاتفاق على تصحيح إرادي


استثار الأمر جماعة التجّار الذين أعلنوا الإضراب لمدّة تسعة أيام. ذلك الحدث أسّس للاختلاف الجوهري حول مفهوم الدولة والاقتصاد. الدولة التي يفترض أن تتحكّم بمواردها وتمنع اقتصادها من السقوط في فخّ الارتهان الخارجي، وبين واقع النفوذ الذي أودى بنا إلى ما نحن عليه اليوم. فالانهيار ليس وليد مرحلة ما بعد الطائف فقط، وليس وليد تراكم الحرب الأهلية ثم تحالف الميليشيات مع رجال الأعمال، إنما يعود إلى ذلك المفصل الذي أسّس له سابا في حكومة فرنجية.
بمعزل عن نهاية القصّة الحزينة ونجاح اللوبي السياسي الذي قاده التجّار في «فركشة» مشروع سابا، فإن الاختلاف الفعلي كان أعمق. سابا وقف ضدّ الخيار اللبناني بعد الانفصال عن سوريا. وبالمناسبة، فإن الثقل الاقتصادي الذي نتج بفعل الانفصال تركّز في لبنان للاستفادة من الخيار اللبناني الرامي إلى إرساء عملة قويّة وتجارة ومصارف، وتحقيق فوائض في الموازنة تموّل شراء الذهب. وهذا الانفصال لم يخرّب فقط الحدود الجمركية بين البلدين، ولا أنشأ عملتين متناقضتين باقتصادين مختلفين، إذ كان أقوى وأشمل لأنه كان يضم وحدات اقتصادية وقطاعات متوافقة بشكل يفوق ما هو موجود اليوم في الاتحاد الأوروبي، فالعملة والجمارك والنقل والبريد وسائر النشاطات كانت كلّها واحدة. كان الوزن الاقتصادي لكل القطاعات مشتركاً والتحكّم بالموارد أيضاً. في ذلك الوقت لم تكن التقسيمات الجغرافية، التي تختلف عما هلي عليه اليوم، مانعاً أمام الوحدة الاقتصادية والمالية.
كان سابا في بداية مشواره عندما خسر المعركة الأولى، لكنها لم تكن الخسارة الأخيرة بوجه خيار الارتهان المالي للخارج. فعندما أدرك أن هذه الطغمة اللبنانية ستضحّي بكل شيء من أجل استمرارية نموذج فاشل يرهن لبنان للخارج، لعب دوراً أساسياً في صياغة قانون منع المسّ بالذهب من دون إذن في مجلس النواب. كان قلقه في محلّه لأننا اليوم ننفق آخر ما تبقى لدينا من موجودات بالعملة الأجنبية، وقريباً لن يكون لدينا سوى الذهب لتمويل استيراد المواد الأساسية للعيش.
استمرّت معارك سابا الواحدة تلو الأخرى، إلا أنه خاضها هذه المرّة بعد الحرب الأهلية من موقع مجلس النواب. يومها كان من بين النواب الذي عيّنوا في مجلس النواب حين طرح القانون 117 الذي يمنح شركة خاصة امتياز إعادة إعمار وسط بيروت والمسماة اليوم «سوليدير». وقف سابا ضدّ المشروع باعتبار أنه سيسلب ملكيات أصحاب الحقوق، واقترح أن يستبدل الامتياز بالتزام بناء وتسليم، بدلاً من أن يكون امتيازاً غير محدود هيكلياً كما هو عليه الآن. فالشركة ليس لديها مهل تسليم لمشروع إعادة الإعمار، وهي للآن ما زالت جاثمة فوق وسط بيروت.
لم تكن مقاومة الخيار اللبناني في الارتهان المالي للخارج أمراً سهلاً، وتسارعت المحطات التي تثبت هذه الوجهة. ففي عام 1997 جاءت محطّة الاستدانة من الخارج، وكان سابا خارج السلطة، إلا أنه استخدم علاقاته ضمن نفوذ عائلات الشمال لكنه مع آخرين خاضوا معركة انتهت بفوز تحالف الميليشيات مع رأس المال.
تسنّت له فرصة جديدة في عام 2004 آتياً في ظل تحوّلات كبرى أيضاً. ففي تلك المرحلة كان لبنان ضمن عاصفة الـ1559، وكان التمديد للرئيس إميل لحود هو محور النقاش السياسي المحلي والخارجي. ووقتها كان ارتهان لبنان المالي للخارج قد بدأ يظهر بوضوح في الأرقام والمؤشرات. أتى سابا وزيراً للمالية آنذاك في حكومة عمر كرامي ورئاسة إميل لحود. أعدّ مشروعاً للموازنة العامة أدخلت فيه سلّة من الإصلاحات فيها حسم لتوزيعات الأموال على الجمعيات، وإصلاحات في مجال الفيول والكهرباء، وقانون لإعادة ترتيب المباني الحكومية والمدارس لتصبح ملائمة للمعوقين، وأعدّ مشروعاً لنظام التقاعد والشيخوخة ضمّنت فيه غاية أساسية تتعلق بلجم التوسّع النقدي، واقترح تعديلات على نظام ضمان حماية الودائع حتى تكون الحماية منفصلة عن الخسائر المحتملة. أما أبرز ما قام به سابا في تلك الفترة، وهو العمل الأكثر جرأة، أنه أطلق عملية تصحيح إرادي. يومها كان عمر الرذاذ مديراً لمكتب البنك الدولي في لبنان، وكان على علاقة جيّدة مع شربل نحاس الذي كان مستشاراً مع سابا. انطلق سابا إلى واشنطن بمساعدة الرزاز ونحاس يرافقهم المدير العام للمالية ألان بيفاني، لمتابعة جلسات التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بعنوان «التصحيح الإرادي». نوقشت الكثير من المسائل ومن ضمنها المصارف والنقد والتسليف والأجور، حتى إنه جرى التحوّط لمخاطر عملية التصحيح من خلال الاتفاق على خطّ ائتماني بالعملة الأجنبية مع البنك الدولي. يومها طلبت وزارة المال حسابات الدين العام من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلا أن هذا الأخير رفض، لكن سابا أجبره على تسليم الحسابات. لم يكتف بذلك، بل طلب سابا من صندوق النقد الدولي بعثة لوضع حسابات مجمّعة للدولة اللبنانية يكون مصرف لبنان ضمنها، وأجريت هذه الحسابات لأول مرّة في تاريخ لبنان رغم ممانعة سلامة، وعلى أساسها استكملت مفاوضات «التصحيح الإرادي». حكومة كرامي لم تستمر أكثر من خمسة أشهر، لكنها كانت ورشة لا تهدأ بفعل ما قام سابا.
من المعارك الأخيرة بوجه الارتهان المالي للخارج، كانت الدعوى القضائية التي رفعت لوضع حراسة قضائية على السلطة التنفيذية وسلوكها في إنفاق المال العام. ثم انتابت سابا حالة من اليأس والألم، إذ بلغت حالة الارتهان حدّ الانفجار الذي أصبح أزمة متواصلة منذ النصف الثاني من عام 2019 لغاية اليوم. كان دائماً يردّد عن قوى السلطة في لبنان: «هم مقيّدون بمصالح وكل عقلهم يعمل على موجة الخارج». ولو تسنّى لأي منّا رؤية سابا في جلسات التفاوض مع صندوق النقد الدولي لفهم سريعاً ما معنى «الجرأة».