وافق مجلس النواب الأميركي، أخيراً، على مشروع قانون يلزم الإدارة الأميركية بالسعي إلى إزالة صفة "دولة نامية" عن الصين في المنظمات والاتفاقيات الدولية التي تكون الولايات المتحدة طرفا فيها، باعتبار أن هذا التوصيف يمنح الصين "معاملة تفضيلية" تضرّ بمصالح واشنطن. هذا التحرّك يأتي في سياق السعي إلى احتواء تنامي القوة الصينية الصاعدة الذي أحيط بسرديات تصنع تصورات قَبلية عنه مفادها أن الصين باتت قوة عظمى ونداً للولايات المتحدة، بل تجاوزتها في قوّتها الاقتصادية.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

تمثيلات معرفية
"دعوا الصين نائمة، فعندما تستيقظ، سوف تهزّ العالم". هذه المقولة لنابليون عن الصين تحوّلت إلى لازمة عند التيار القائل بالصعود الصيني كقطب في مواجهة الولايات المتحدة، والذي يوظفها ضمن سياق السرد التاريخي لعظمة الحضارة الصينية وإنجازاتها واقتصادها الذي كان الأكبر في العالم (33% من الحجم الإجمالي العالمي الصناعي) حتى عام 1750، أي قبل الغزو الغربي والياباني ودخول الصين في ما يسمى "قرن الإذلال" (1849- 1949). يتبع هذا السرد التاريخي عرضاً لتطوّر قوّة الاقتصاد الصيني بوصفه عودة لما كان عليه سابقاً، أي أكبر اقتصاد في العالم، ونذراً للقوى الغربية بأن "العملاق النائم" قد استفاق، وبات يهدد الهيمنة الأميركية على النظام الدولي.
تحدث هذه التصورات إدراكات مشوّهة ليس عن حاضر الصين فحسب بل عن تاريخها أيضاً، إذ تتجاهل القطيعة التي أحدثها الاستعماران الغربي والياباني في تطور الاقتصاد والمجتمع الصيني. فالحقبة الاستعمارية التي مرت بها الصين تزامنت مع الثورة الصناعية الأولى، أي إن صناعتها السائدة آنذاك كانت صناعة حرفية بسيطة، وسبب نسبتها المرتفعة إلى إجمالي حجم الصناعة العالمي يعود إلى كبر حجم الصين نفسها وعدد سكانها الذي كانوا يشكلون ما يزيد عن 25% من سكان العالم.
يُدعى هذا الأسلوب في علم نفس العلاقات الدولية بـ"التمثيلات المعرفية"، وبموجبها يكون فهم حاضر العلاقات الدولية مبنياً على التاريخ في إطار عملية "اقتصاد عقلي" يُستخدم فيه قدر قليل من المعلومات لبناء نموذج موجود مسبقاً، هو نموذج دورة حياة الدول، وفي حالة صعود الصين التي توضع في قالب تاريخي لصعود قوى أخرى.

الصين- الدولة القارة
لطالما كانت مساحة الإقليم الذي تشغله الدولة وعدد سكانها من عوامل القوة التي ترشح الدول للصعود في تراتبية النظام الدولي، وهو ما يوظف في تأكيدات صعود القوة الصينية، بوصفها دولة بحجم قارة. يتعامل هذا المنطق بصورة انتقائية مع الحالة الصينية، فالصين ليست الدولة الوحيدة (القارية) بعدد سكانها ومساحتها، فالهند أيضاً دولة بحجم قارة، واقتصادها اليوم يصنف كثالث أكبر اقتصاد في العالم وفقاً لمؤشّر معادل القوة الشرائية، فلماذا لا يُصار إلى تعريف الهند كقوة تعديلية (للنظام العالمي الحالي) كما تصنّف الصين وروسيا؟ بالإضافة إلى الانتقائية في الأخذ بهذا المعيار، فإن عاملَي المساحة والسكان قد تراجعت أهميتهما كعنصرين لقوّة الدول، بسبب ازدياد أهمية نوعية العنصر البشري، والأسلحة الذكية والعابرة للقارات، وتركّز الهياكل الاقتصادية للدول المتقدمة على المعرفة والابتكار.

الانطلاق من الحقبة الماوية
تُحدد نقطة الانطلاق تلك بعهد الإصلاح والانفتاح الاقتصادي الصيني في عام 1978، وهي تبدأ، وبإدراكٍ مشوّه للحقائق، من مستوى منخفض جداً، إذ تصوّر الحقبة الماوية بأنها حقبة جوع وبؤس ووبال على الصينيين. بحسب "فولفجانج هيرن" صاحب كتاب التحدي الصيني، فإنه "عندما ننظر إلى فترة حكم ماو بشكل واقعي ومحايد نجد أن 30% من إنجازاته أمور جيدة، والـ70% الأخرى سيئة تماماً"، وأن عقداً كاملاً (1966- 1976) هو عقد "سنوات ماو الضائعة". بطبيعة الأحوال لا يقتصر هذا الأمر على فولفجانج هيرن، بل إن هذا الموقف من الحقبة الماوية هو الأكثر شيوعاً بين الدارسين الغربيين، ومن خلالهم أصبح تقريباً الرأي السائد عن الحقبة الماوية.
إن هذا الموقف من الحقبة الماوية نابع من جهل بتلك الحقبة أو من مواقف أيديولوجية، والأخيرة هي الأكثر ترجيحاً. إذ إن الحقائق والأرقام تخالف كل تلك الآراء التي تصوّر حقبة ماو بصورة التخلّف الاقتصادي والفقر والمجاعات. لن نخوض في نقاش عن الحقبة الماوية فقد سبق وأن فنّد سمير أمين وآخرون تلك المزاعم، إنما خلاصة القول إن الحقبة الماوية أرست البناء الاقتصادي اللازم للفترة التي تلتها، فلم يكن ممكناً أن تمضي حقبة الانفتاح والإصلاح إلى ما وصلت إليه، إلا من خلال البنية التحتية التي أسست لها الماوية.
إن رؤية الصين لنفسها ليست رؤية دولة عظمى على الأقل ليس وفقاً للمفهوم الغربي عن القوى العظمى


أثر المحافظين الجدد
إن المبالغة في تقييم صعود الصين وتفوقها على الولايات المتحدة يحمل بعداً سياسياً لا يمكن إخفاؤه، إذ ينطوي على محاولة جرّ الولايات المتحدة إلى سياسة أكثر تدخلية في الشؤون العالمية، وهي سياسة المحافظين الجدد التي ترفض دعوات انكفاء الولايات المتحدة نحو الداخل.
ليست الصين الدولة الوحيدة التي ضخّم المحافظون الجدد من قوّتها. ففي الثمانينيات زعموا أن الاقتصاد الياباني سيتجاوز الاقتصاد الأميركي، وأن اليابانيين سيسيطرون على الاقتصاد الأميركي بفعل استثماراتهم فيه. ولم تخمد تلك الادعاءات حتى تعرض الاقتصاد الياباني لأزمة حادة في التسعينيات، كانت للسياسات الاقتصادية الأميركية الموجّهة ضدّ اليابان دوراً فيها. كذلك نفخ المحافظون الجدد أكاذيبهم عن وجود ترسانة أسلحة دمار شامل في العراق تهدد الولايات المتحدة وأوروبا.
يظهر تأثير المحافظين الجدد في المدركات المشوّهة عن قوّة الصين، عبر وسائل الإعلام التابعة لهم، التي يأتي على رأسها شبكة فوكس نيوز (أبرز جهة إعلامية داعمة لدونالد ترامب). كما يظهر تأثيرها عبر مراكز الأبحاث والمجلات المتخصصة في الشؤون الدولية، والأهم من هذا وذاك هو التقارير الاستخبارية التي ظهر تأثيرها خلال الحرب الباردة، وفي الغزو الأميركي للعراق.

الاستناد إلى الكمّ على حساب النوع
يوضع إجمالي الناتج المحلي، في صدارة مشهد صعود القوة الصينية. فمنظرو تفوّق الصين على الولايات المتحدة قد يكتفون بالإشارة إلى أن حجم إجمالي الناتج المحلي الصيني قد تجاوز نظيره الأميركي منذ عام 2014.
يتجاهل هذا المؤشر التباين الكبير في حجم السكان بين الدولتين، فعند حساب حصّة الفرد من إجمالي الناتج المحلي الصيني، نجد أن الصين تقع في المركز الـ73 عالمياً، وإن كان هذا الترتيب لا يعكس موقع وقوّة الاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي، إلا أنه يوضح الفرق الذي يمكن أن يشكله تجاهل حجم السكان. كما يتجاهل هذا المؤشر، من ضمن أمور أخرى، الفرق في القيمة المضافة بين إنتاجية العامل الصيني ونظيره في الدول الرأسمالية المتقدمة، حيث تفوق إنتاجية العامل الأميركي نظيره الصيني في القطاع الزراعي بنحو 18 ضعفاً، وأربعة أضعاف في القطاع الصناعي.

الصين «أكبر مما يجب»
درجت الولايات المتحدة على تضخيم قوّة خصومها وأعدائها، في سعي إلى احتواء قوى شركائها الاستراتيجيين. ظهر ذلك بوضوح في الحرب الأوكرانية، حين جعلت الدول الأوروبية تنصاع لترتيباتها الأمنية والاقتصادية التي دُفع ثمنها من جيوب الأوروبيين. لا يختلف الأمر كثيراً في شرق آسيا، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى صناعة "حلف ناتو آسيوي"، وتدفع إلى تشكيل حلف عسكري يجمع نيوزيلاندا وأستراليا وبريطانيا في عام 2021 منظمة "أوكوس"، كما دفعت اليابان أخيراً إلى رفع ميزانيتها العسكرية في سبيل تطويق الصين، وذلك ليس لأن الصين ندٌّ للولايات المتحدة، ولا لأنها تبدي سلوكاً عدوانياً تجاه الولايات المتحدة، فالسياسة الخارجية الصينية بصورة عامة هي سياسة غير مبادرة في الشؤون الدولية، ولا تسعى إلى أخذ دور قيادي، كما أنها لم تبدِ سلوكاً عدوانياً تجاه أي دولة، بل إنها في سعيها إلى استعادة جزيرة تايوان، والتي هي جزء من أراضيها باعتراف الأمم المتحدة لم تتخذ، حتى الآن على الأقل، الخيار العسكري لاستعادتها، وتكتفي فقط بالتلويح باتخاذ إجراءات ديبلوماسية.
إن مشكلة الولايات المتحدة مع الصين هي أنها "أكبر مما يجب". بعبارة أخرى، إن الصين بقوّتها الظاهرة والكامنة، تشكل تهديداً لاستمرار الهيمنة الأميركية في شرق آسيا، شأنها شأن القوى الإقليمية الأخرى التي يمكن تمثيلها بمجموعة البريكس إلى جانب إيران وتركيا، تلك الدول باتت تتجاهل، وإن بحدود معينة، الهيمنة الأميركية، فلم تعد قراراتها في السياسة الخارجية تؤخذ بعد الاستماع إلى رأي واشنطن أو أخذ مصالحها في الحسبان. فالعالم الذي أجمع تقريباً على إدانة الحرب السوفياتية في أفغانستان، ليس نفسه العالم الذي حافظت فيه العشرات من الدول من شرق آسيا وحتى أميركا الجنوبية على علاقات جيدة مع روسيا رغم حربها في أوكرانيا.

كيف ترى الصين نفسها
إن السياقات الفكرية المعروضة هي سياقات الفكر الغربي الذي به أصبح الفكر السائد عن الصين، في تجاهل حتى لرؤية الصين لذاتها، أي كيف ينظر الصينيون إلى أنفسهم. وفي هذا الشأن نجد الصينيين أكثر تواضعاً في وصف واقعهم وأكثر وعياً لتحديات تجربتهم التنموية. يشير الرئيس الصيني شي جي بينغ في كتابه "أفكار حول تعميق الإصلاح" إلى مشكلات الفساد التي تعاني منه الصين، ومسألة تفاوت التنمية الإقليمي. كما يصف الصين في أكثر من مناسبة، بأنها تنتمي إلى دول العالم الثالث. وهو التوصيف الذي نجده أكثر دقّة، رغم التفاوت الكبير بين ما وصلت إليه الصين مقارنةً بمعظم دول العالم الثالث الأخرى. كذلك على مستوى الأكاديميين الصينيين، نجد تصوراً لتحديات الصين، بما فيها التحديات التي تهدّد وحدة أراضيها.
باختصار إن رؤية الصين لنفسها ليست رؤية دولة عظمى، على الأقل ليس وفقاً للمفهوم الغربي عن القوى العظمى. إن فهم القوى الصينية يجب أن ينطلق من دراسة موضوعية لواقع الصين وآفاق تجربتها التنموية بكل ما تحمله من تحديات، وبتجاوز للتصورات التي تضعها الرؤية الغربية عنها.

* باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية في كلية الاقتصاد- جامعة حلب