إلى عام 2065، تقفز الروائيّة اللبنانية رجاء نعمة، في أحدث رواياتها «شيطان في نيو قرطاج» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - 2016)، متخطية الزمن عبر الكتابة. لكنها لا تكتفي بتجاوز الزمن، بل تتعداه إلى تجاوز الجغرافيا، ومحاولة تجاوز التاريخ بالرغم من الاتكاء إليه رمزياً. «نيو قرطاج» مدينة أوجدها أناس ليعيشوا فيها، لتكون جزيرة آمنة وسط صخب الحروب وفوضى المدن. ورغم اتكائها إلى اسم تاريخي، والتماثل بين اسم واحدة من مؤسساتها واسم أليسار، ملكة قرطاج التاريخية، إلا أنّ ذلك لا يعدو كونه محاولة لكتابة تاريخ جديد مختلف للبشر في المدينة المتصل زمانها بكلّ الأزمنة، والمتصلة حضارتها بكلّ الحضارات. هي ليست مدينة الفلاسفة الفاضلة، فأولئك يتخيلون مدناً لا إمكانية لوجودها، بينما نيو قرطاج مدينة وجدت في مكان ما، أوجدها أناس لتكون نموذجاً للحياة التي يطمح إليها كلّ إنسان، مبنيّة وفق معايير جمالية، في المبنى والمعنى، لا تضاهى، حتى تغدو أشبه بجنة يقصدها كلّ طامح إلى هناءة العيش، يدخلها من دون تأشيرة، ليحوز فيها كلّ ما يتمناه، حيث لا جيوش، ولا أسلحة، ولا سجون، فالسجن سيغدو كلّ ما هو خارج نيو قرطاج، التي جعلت حدودها مدى الصوت.
أسلوب ملحمي في بناء الرواية
بغض النظر عن الأسباب التي دفعت كلاً من شخصيات العمل ليكون مواطناً في نيو قرطاج، غير أنّ التخفّف من حمل الذاكرة الثقيل لعلّه يكون عاملاً مشتركاً بين الجميع، يستثنى من ذلك كارلوس، بما يتيح له أن يكون الحاكم. فهو رجل من دون ذاكرة، ولم تستطع آثار الدم على ملابسه وشظايا الرصاص في جسده أن تساعده على معرفة من يكون، حتى وإن كانت المصادفة قادته لأن يختار لنفسه اسماً كان يحمله قبل فقدانه ذاكرته، غير أنّه لم يفقد السمة الأبرز الذي تؤهله للحكم، فإن كان قد نسي الوقائع والوجوه والمعلومات، إلا أنه احتفظ بالملكة الأهم، ملكة التفكير.
بأسلوب أقرب إلى الأسلوب الملحمي، تبني نعمة روايتها، وتتابع شخوصها كمن يتلصص على مكنوناتهم النفسية والذهنية، لتجعل من العلاقات بين سكّان نيو قرطاج فيما بينهم، وعلاقتهم بمدينتهم النموذجية واقعية بطريقة تنسي القارئ، بعد الصفحات الأولى، أنه تخطّى الزمن إلى عالم متخيّل. يتحوّل كارلوس إلى نموذج عن حاكم فعلي، وشندلنر وولده نموذجاً عن العقل المدبر للحكم، وكذلك تغدو أليسار، المتماهية مع ملكة قرطاج بأصلها اللبناني، والتي تربت في السنغال، وفقدت في عمر مبكر توأمها الذي قضى منتحراً عن صخرة الروشة، نموذجاً لحاكمة عصرية، أداتها في الحكم هي وسائل الإعلام، القادرة ليس فقط على السيطرة على عقول البشر وأمزجتهم، وإنما على تغيير الوقائع وإقناعهم حتى بعكس ما يرونه بأعينهم. أمّا لودفيغ، فموسيقاه ستكتب تاريخ نيو قرطاج الفني، ليتحوّل إلى رمز وطني يسهم في ترسيخ فكرة المدينة النموذجية.
منذ العنوان الذي اختارته نعمة لروايتها، أنبأت القارئ بمصير أسود يتربّص بمدينتها المتخيلة. وإن كان في العنوان ثمّة تناصّ مع العنوان الذي وسم به الروائي الأميركي، هنري ميللر، روايته الشهيرة، «شيطان في الجنّة»، فإنّ نعمة تبدو كمن أراد لنيو قرطاج أن تكون الجنّة. ولكن وبالعودة إلى الأسلوب الملحمي، فهل تكون الذاكرة بمثابة حصان طروادة الذي يحمل الشيطان إلى الجنة؟
بنت نعمة روايتها على فرضيّة متخيّلة، سلّمت مفاتيحها للقارئ منذ اللحظة الأولى، ولكن من دون أن تمكّنه من ولوج عوالمها إلا بمشيئتها، فراحت توزّع السّرد بمستويات متعددة تجعل القارئ شغوفاً لملاحقة الأحداث، ومعرفة ما تخفيه الشخصيات في ذواكرها المنسيّة خلف الحدود. وبذلك، تنجح الكاتبة في الاستحواذ على فضول القارئ، رغم توقعه المسبق للقادم من الأحداث. تكون بذلك فصول الحكاية، وتفاصيلها، هي الغاية، بعيداً عن التذاكي الروائي بإخفاء المفاجآت غير المتوقعة. وبذلك تختلف «شيطان في نيو قرطاج» عن غيرها من الكتابات الروائية. وإن كان في البناء الروائي ما يذكرنا بعوالم الروائي البرتغالي، جوزيه ساراماغو، الذي دأب على اختلاق الفرضيات الصادمة ليبني عليها حكاياته الروائية، فإنّ نعمة نجحت في خلق عوالمها الخاصّة عبر لغة رشيقة تستند إلى جمل قصيرة مشغولة بعناية، لتشرح خفايا الحروب التي أدمنها البشر، ونتائجها الكارثية على حيواتهم، والآليات التي تقود إلى تسليع الإنسان، وتحرفه في الكثير من الأحيان عمّا يطمح إليه لتحوّله إلى قاتل، أو ضحيّة في أحسن الأحوال.