لا أُدرك تماماً ما تعنيهِ كلمة الأمل المستعاد، عندما تطن تلك الكلمةُ بداخلك، فوارّةً كالبخار الخارج للتو من جوف بركان. هل هو الأمل المتعلق بمهمة الحصول على مكان إقامة الشخص الذي كنا بصدد لقائه؟أم هو الأمل العريض بإمكانية فتح ملف كان مغلقاً عن حياة شاعر مثقل بالوسامة والشهرة والتراجم والتيه والفراغ العاطفي؟ وإذا كان أغلب الشعراء السماويين يقضون معظم أوقاتهم بمرافقة البنات والانشغال بإرسال البرقيات التلغرافية إلى أشباههم الأرضيين مع الإيميلات والرسائل النصية، فمن المستغرب أن تجد واحداً من أولئك الشعراء، وهو يستفرد بنفسه أمام نصب تذكاري لآلة كاتبة من الطراز الإنكليزي، يقعد أمامها مؤلف كهلٌ، وهو يحاول بأصابعه تلمس الرحيق على أزرار الحروف. لا أستطيع أن أتخيّلَ تلك اللحظة التي رأيت فيها الشاعر سركون بولص، وهو يجلس بمعية قنفذ ضخم، متأملاً تلك الآلة الكاتبة الموضوعة أمام مؤلفها الشيخ المصاب بالزهايمر.اعتبرت المنظر ليس غير لقطة في مكان سحري، يمكن أن يُحرك الحوار بيننا وبين سركون الذي سرعان ما دعانا للجلوس ما بينه وما بين قنفذه الكبير الذي كان مشغولاً هو الآخر بالنظر إلى أرتال النسوان العابرات لساحة الآلة الكاتبة.ضحكنا معاً. وقبل أن ينفد الهواء من الرئات، سرعان ما رأينا القنفذ وهو يقوم بالانسحاب من الجلسة. وعندما حاولنا الاستفسار عن أسباب تلك الخطوة، أخبرنا الشاعر سركون بولص بأن القنفذ ذاهب لأداء عمله في السيرك، فسألناه:



■ أين؟ في سيرك الحبّانية؟
ـــ لا يا رجل. لا تذكّرني بمسقط رأسي.

■ ولمَ لا نبدأ حوارنا من بلدة الحبانية إلى كركوك في العراق. هل كان ذلك الانتقال بمثابة خروج من الرحم الجغرافي الأول للماء، والدخول في مرحلة التمغنط بتربة النفط؟
ـــ ربما كان الشعر يريد ذلك. أن يخرج حيّاً من الماء، ليحترق في فضاء آخر دون حدود.

■ وكنت تفضل الاحتراق على الغرق؟
ـــ في المراهقة الشعرية، قد يصبح الخيار الأفضل، أن يجمع الشاعر الاثنين في طقس واحد. وهذا ما كنت أشعر به منذ بدايات تكويني الأول. كنت أسبح بالماء وأنتشي بالحرائق الداخلية التي عادة ما تحدثها سيول تلك المياه، وهي تتساقط من الشلالات النفسية، لتصنع نار الشعر.

■ هل كنت فرحاً بمثل تلك الألعاب؟
ـــ الشاعر صبي، ما أن يبلغ مرحلة ما فوق المراهقة، حتى يتحول إلى ذئب ينشد الحداد على نفسه بكل شراسة.
أعتقد بأن بنية
الشعر المركزية هو الموت
بشكله الخفي

■ ويساعده الخمرُ والحشيشُ في ذلك كما تعتقد؟
ـــ ليس من حاجة للشاعر بكل تلك الأدوات. فهو يصنع خمره بنفسه، لأنه لا يظن جسده إلا بتلك الزجاجة الممتلئة بالعصير الإلهي على الدوام. وأما بالنسبة للحشيش، فكذلك بداخل كل شاعر عظيم حقل لا ينضب من الماريجوانا.

■ ألا يخالف هذا التقاليد التي تنظم الشعر وتتحكم بمصادر خيال الشاعر؟
ـــ لا أبداً. الشاعر الفاشل وحده، هو من يطلب معونة الآخرين بأنظمتهم وبتقاليدهم وبأنماط حيواتهم، سواء في المعيشة أو في حالات التأليف.

■ هل ينطبق هذا على ما أسميتموه «جماعة كركوك»؟
ـــ ربما. فقد حاولنا منذ البدء تجميع طاقاتنا الشعرية في تجمع ما، لنكون نقطة متجانسة في محيط شعري متعدد التيارات والأهواء والأصوات. يمكنك القول إننا كنا عصابة اتخذت قرار التمرد على ما كان مألوفاً، وإن بشكل غير ظاهري أو مُعلن.

■ ولكن الوضع الثقافي في العراق، لم يكن ليتحمل متمردين على أصوله في الشعر أو على تراثه في الأدب. أليس كذلك؟
ـــ أجل. كان هواء تلك المرحلة قليل الأوكسجين. وكانت الآفاق ضيقة على كل تطور شعري يحاول أخذ اللغة إلى خارج القفص الرسمي العظيم. ولذلك كان علينا مواجهة مصيرنا ومصير كتاباتنا المنفلتة من العقل السلفي ومن العقال الكلاسيكي للكتابة.

■ بدأت متعلقاً بالترجمة، فنشرت في مجلة «شعر» ملفاً عن شعراء أميركيين من أمثال: آلن غينسبرغ وجاك كرواك وآخرين، هل كان ذلك تعبيداً لطريق هجرتك نحو الولايات المتحدة الأميركية عام 1969؟
ـــ هجومي المبكر على الترجمات الشعرية، كان بسبب الشغف المضطرم بداخلي لفتح آفاق وطرق جديدة أمام موهبتي، وثانياً بدافع أن أتكئ على خزان شعري يقوي من عضلات تجربتي. كنت مغرماً بدخول تلك العوالم الغريبة لشعراء أميركا، ومفتوناً بعجن تربتي بمياه الترجمات.
■ استغراقك بالرحيل وعدم الاستقرار، هل هو كرهك للمكان، بحيث جعلك قلقاً على هذه الأرض التي أمضيت فيها العمر، متنقلاً بين أوروبا وأميركا؟
ـــ لم أجد الأرض يوماً إلا قطاراً دائري الشكل، وهو ينقل الركاب من غرفة إلى أخرى. الكون في النوم ليس غير تلك النقطة اللزجة التي نتعلق بها مرغمين، فيما يفتح الفراغ فمه لابتلاعنا في تلك الهجرة الأبدية.

■ هل تعني الموت؟
ـــ الموت في نهاية المطاف من أعظم الرحلات الشعرية التي لا يدركها إلا القلة النادرة من البشر. الموت هو القطار الإلهي الذي لا تنتهي سباحته في تلك الفضاءات. والموتى الذين يظنون بأنهم ذاهبون للجحيم كالعادة التي بذرتها الديانات في معتقداتهم، سيتمتعون بمذاق مختلف أطباق الحلوى السحرية هناك. فما من ربّ يُعذب مخلوقاته.

■ وهل ذهبت أنت إلى الربّ بباص أم بذلك القطار؟ بل هل تذوقت شيئاً من تلك الحلوى؟
ـــ كنت ثملاً عندما وصلت إلى هنا. أظن أنني كنت ممتطياً دابّة لم أر لها مثيلاً في الحياة القديمة. إنها ترافقني الآن في كل تنقلاتي. ولكن الأهم أنني حصلتُ على فطيرة محشوة بالمُربيات مع زجاجة خمر لا ينتهي مفعوله إلى الأبد.

■ أنت تمدح الموت، كما لو أنه توأم شعري؟!!
ـــ ولمَ لا؟ فأنا أعتقد بأن بنية الشعر المركزية هو الموت بشكله الخفي. بصورته غير الحسية التي تجلب للنفس الرعب وللروح الانقباض. وبالتحليل النفساني، فهذا الموت المولود معنا منذ لحظة الخروج من الرحم، هو الظل الذي بقي يرافقني طول العمر. كان الموت هو الأقرب لي من الأصدقاء والكتب والبحار والأحزاب والطعام.

■ كنت متألماً في نصوصك على الدوام، وكأن طبيعة الشعر، مخدرّة بمادة من حنين مريض وفوضى بلا حدود من الحقائق والأوهام التي تفضح كيانك الخسران على الرغم مما تظهر عليه صور المباهج التي يختفي وراءها سركون بولص؟
ـــ الألم من الموارد الطبيعية للشعر. إنه النشوة التي يبني النص فيها عشه، لتكاثر بيض الشاعر. ولكن الألم نفسه، يمكن أن يكون مُعطلاً للطاقة في أثناء عمليات التأليف. كل ذلك لم يأت من خارجي، بقدر ما كان مرتبطاً بلغز التربة العراقية التي خرجت من بين شقوقها أشبه بذلك الحيوان التائه في صحارى العالم ومدنه وتخومه.

■ في البدء، كان سركون بولص منضبطاً في تصاميم القصائد وشحنها بما يرفد فكرة التحولات على صعيد الحداثة، ولكن ثمة تراجع حدث بعد ذلك، عندما وجدت نفسكَ داخل اللغة، وكأنك تمارس لعبة الكريكيت أو الهوكي لغوياً؟
ـــ أنا سعيت منذ انفجار موهبتي إلى صناعة القصيدة بالديكور الأوروبي – الغربي عموماً، تخلصاً من الشوائب التي كان النص العربي غارقاً بها. وربما تلك الاندفاعات ساهمت إلى حد ما بترويع النصوص بالفوضى العامة، وهو ما يعطي الانطباع بأنني أصبحت غربياً أكثر من اللزوم. بالنسبة لي، من المستحيل أن يكون الشاعر تمثالاً في ساحة القصيدة. تمثالاً ميتاً ولا يبهر أحداً ولا يلعب الهوكي في أي مكان تفرضه عليه المنافسة.

■ عندما يتعمق أحدٌ ما في نصوصك، يجد الكثير من الجروح العائلية، وهي تتوزع ترابك الشعري. أي نوع من النزاع كان ما بينك وبين العائلة؟ الأب؟ الأم؟ الأخوة؟
ـــ لم تكن حياتي كلها مستقرة بسبب فكرة الانتقال الدائم من عالم إلى آخر. بعبارة أدق: كنت شاعراً طائشاً. يمكن اعتباري بقعة جرداء متصحرة من الحب ومن الشهوات النافرة التي قد لا تجدها عند أهم الشعراء المثليين أو العذريين كما يتم تسميتهم لغوياً. فالحب أو الزواج هو بطالة من نوع آخر في مدينة «أين» التي كنت أبحث عنها.

■ هل حاولت تخزين شهواتك الأرضية، ومنعها من الاستنزاف إلى يوم سماوي كهذا؟
ـــ ها أنت أجبت على السؤال. فأنا الآن في طور الاختبارات العاطفية مع الجنس اللطيف هنا.

■ تقصد الحور العين؟
ـــ ليس بالضرورة أن تُمنح نساءً من ذلك الطراز، ففي هذه الفضاءات الكثير من الموديلات الأنثوية الباهرة. ثمة تنافس بالغ الذروة ما بين النساء في الفراديس. الكائنات هنا متطورة. ومثلما كانت مؤسسات جباية الأموال على الأرض قائمة، فتجد هنا جمعيات تعنى بتخصيب القلوب عاطفياً، وكذلك بتسمين الشهوات وصولاً إلى المنتهى.

■ وهل يتمتع الآشوريون بالهبات النسوية مثلهم مثل المسلمين الموعودين بحور العين والملاحق الأخرى التي وردت في بعض الكتب المقدسة؟
ـــ ومن أين أتى الآشوريون برأيك؟ من صندوق بريد الشيطان؟ كلنا من صناعة الرب.

■ يقال بأن لكل شاعر حارساً خاصاً به. ما اسم حارسك الشعري الشخصي؟
ـــ السرطان. أجل هو السرطان ولا شيء سواه. كان حارسي طوال ستين عاماً، وفجأة ضجر من وظيفته، تاركاً جسدي يسقط كالخرقة من على حبل الغسيل.

■ قام بغدرك كما تعتقد؟
ـــ لا ربما أتعبته بما كان يشغل رأسي من شعر وأشياء أخرى.

■ ولكنك لم تكتب كثيراً. كل ما أنتجته لا يتعدى 13 كتاباً ما بين الشعر والترجمات وبعض القصص؟ فأين كان زمنك يجري بالضبط؟
ـــ كنت مطارداً للكثير من الأشباح التي كانت تنام في العديد من الكهوف التي تسكنني. هل تعرف بأنني عشت طوال سنوات غير قليلة داخل كهف بارد من تلك الكهوف، ولم أعش في البدن الذي يحملني كما يظن الآخرون؟!

■ هل هذه سحابة حشيش من فيلم «حامل الفانوس في ليل الذئاب» مثلاً؟
ـــ بالفعل. فقد كنت فيلماً من بطل واحد لم تستطع سينما الشعر أن تضمه إلى موجة فنية أو منتج واحد. كنت الأكثر غربة في ليل الذئاب والشعر على حد سواء، فما بين الشعرية التي كنت استمدها من روحي، وما بين اللغة، ذئاب عصية على التصوير. لكنني كنت أحتفظ بتصاويرها في أرشيف الباطن العميق.

■ ماذا تقول لمن يصف سركون بالشاعر الذي حاول أن يُفرغ نهراً ليملأ نصوصه بالمياه، تعبيراً عن رؤية «المركب السكران» وهو يمخر عباب شعره.
ـــ سؤال مدهش! الشاعر شبيه بزجاجة فارغة، على العاصفة أن تقوم بتعبئتها بمادة من مواد الطبيعة. هذه ليست فلسفة، بقدر ما هي رؤية لنهر فارغ عليك أن تملأه بشئ، لينبض ويتحرك على الأرض أو في جوف التربة، من أجل أن تكون صالحة للزراعة بالمختارات التي أن تنتجها من اللغة.

■ قال عنك أحدهم: كان بولص غريباً في بغداد مرتين. مرة لأنه من «جماعة كركوك»، وأخرى لأنه لم يشتبك بمشكلات الشعر السائدة في بغداد. لذلك، كان يفضل أن يكون قاصاً. ما لا يعرفه الكثيرون أن قصص بولص القليلة التي نشرها أواسط ستينات القرن الماضي كانت وضعته في الصف الأول من بين كتاب القصة القصيرة الطليعيين. في ما بعد سيتم جمع تلك القصص ونشرها في كتاب يحمل عنوان «غرفة مهجورة».
ـــ قد يكون ذلك صحيحاً. فأنا عشت غربتي الأولى في بغداد، وبشكل موجع وحادّ. فقد كان ينظر إلينا البغداديون كرعاع يتساقطون على العاصمة من الأرياف. أما بالنسبة لـ «جماعة كركوك» فقد كانت بمثابة يافطة حاولنا الاحتماء بها لصدّ المضار التي كنا نخشى من الوقوع قرابين لها في الغربة البغدادية الأولى. لم نكن جماعة ولا جمعية بالضبط، لأن تشتتاً كان ينال من روح ونص كل منا على انفراد. في البدء... كنت قاصاً ولم أشتبك في معارك الشعر العراقي وهو في ذروة تطوراته، انشقاقاته، ملامح حداثته، رواده. لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما تركت بغداد خلفي وغادرت إلى بيروت.

■ هل استطعت أن تغير في الشعر شيئاً بعد كل ما قمت بكتابته؟
ـــ أعتقد ذلك. ويمكنك الاعتماد على بعض النقاد فيما ذهبت إليه. أنا بالأساس لم أكتب الشعر لأغير وأبدّل وأُقصي وأحلّ محل فلان في هذا المكان أو ذاك... كتبت الشعر لشهوة كانت تتقدم كياني على خريطة تلك الأرض القديمة ليس إلا.
عشت غربتي
الأولى في بغداد، وبشكل
موجع وحادّ

■ ثمة من يعتقد بأن سركون قد تَأَمْرَكَ شعرياً بكثافة، وذلك بفعل إتقانك اللغة الأجنبية – الانكليزية. هل يُعد فقيراً الشاعر الذي لا يتقن لغات؟
ـــ لقد سُعدت بمرافقة بعض الشعراء الأميركيين، ولا أنكر بأنني تأمركتُ بهم شعرياً إلى حد ما. فلا يمكن أن تغفل أثر شاعر ما في تربة شاعر آخر. وكل شاعر لا يتقن من اللغات لغة واحدة، يمكن أن يتعثر أو لا يقدر على تعبئة الفراغات الشعرية التي عادة ما تستدعيها مخيلة هذا الشاعر أو ذاك من أجواء الآخرين وطقوسهم.

■ ولكنك أفرغتهم من جذوتهم الشعرية من خلال الترجمة، لتضخها بنصوصك في غياب وعي القارئ العربي بقراءة أصول نصوص حركة جيل «البيكنس» التي سبق وأن قمت بنقلها للعربية عن الانكليزية؟ ما قولك؟
ـــ لم يحدثني عن ذلك إلا القلة ممن قرأوا أشعار حركة «البيكنس» وكانوا يتقنون الانكليزية طبعاً. أنا لم أتجنَ على نصوص هؤلاء، ولكن بعض روائحهم ظهرت في بعض نصوصي التي عادة ما كانت تتشابك مع عوالمهم وطقوسهم. كانت تجربتي مع أولئك تجربة فريدة وممتعة زادتني اغتراباً في الشعر وفي العاطفة وفي المدن وفي الإنسانيات الكبرى.

■ أنت ذهبت للإيحاء بوجود مدن شعرية (أين). كنت تبحث عنها على خريطة هذه الوجود الجغرافي. ولكن أليس مخزياً أن يفعل شاعر مثل سركون ذلك، باعتبار الشاعر هو العراف الذي يفيض بالكشوف والاكتشافات، ولا يحتاج لدليل يشير له بالمواقع التي تفيض بها نفسه؟!.
ـــ قد تكون أولى تلك المدن: هي النفس التي لم أستطع اكتشاف مغاويرها حتى وأنا على هذا التراب السماوي الشاسع. لقد خُدعت بمدن جغرافية وأخرى بشرية من أصدقاء وأشخاص سبق وأن قابلتهم على الأرض القديمة. أصدقاء الصور والتصاوير الذين كانوا يلتقطون الصور معي لنشرها في الصحف والمواقع وعند البنات.

■ هل كانت كركوك هي النفس الابتدائية لشعرية سركون بولص؟ بغداد. بيروت. الغرب الأميركي – الأوروبي، أين تقع تلك المدن والأماكن من جسدك النصّي؟
ـــ أنا يا صديقي لستُ إلا زجاجة تطفو فوق سطح المياه، كلما عثروا عليها في مدينة، سرعان ما يفتشون في محتوياتها، ثم يعيدون رميها في البحر ثانية، لتقع في يد أخرى من مدينة أخرى. وهكذا دواليك...
كركوك التي أحبُ وأعشق هي المدينة المخبأة في الأعماق، ولكنها ليست أم المدن الشعرية التي أورثتني القدرة على الكتابة. يمكن اعتبارها صانعة للاغتراب المبكر الذي دفعتني إليه بكل حماس. كل مدينة نص من النصوص التي تستحق الإجلال.

■ كيف تجد وضعك في هذه السموات الآن؟
ـــ ما أشبهها بالنصوص المفتوحة.

■ هل تعني باختلاطهما ما بين الجهنمي والفردوسي؟
ـــ لم أرَ حتى اللحظة، منطقةً في هذي البلاد الشاسعة تقوم على النار أو تختصّ بتعذيب البشر هنا. قد أكون في المنطقة الخطأ، أو ربما لم أصل إلى بعض الأمكنة التي تتحدث عنها الديانات بعد. ولكن الله هنا، يملأ كل شيء بالرحمة كما أظن. ولا توجد شياطين تعمل في «بنزين خانات» لإضرام النيران في ثياب الناس. وملائكة تقوم بتأمين أدوات نشوء اللذة وإدامتها في أرواح الخارجين من المقابر.

■ هل اجتمعت بشعراء في مكان إقامتك ؟
ـــ حظيت بلقاء خاطف مع والت ويتمان في حقل الأرز. وكان لقاءً فادحاً، تحدث فيه ويتمان عن موقف أميركا المخزي من الشعب الفلسطيني بحضور الشاعر سميح القاسم الذي كان يرعِدُ ويزبد بوجه الشاعر الأميركي الذي لم يكتب قصيدة ضد إسرائيل.

■ ولكن ويتمان ولد ومات قبل تاريخ نكبة فلسطين؟
ـــ نعم. ولكن سميح القاسم كان يطالبه بكتابة قصيدة ذّم مبرح بحق آخر دولة احتلال في العالم، وإرسالها إلى أهل الأرض بالإيميلات.

■ هل حظيت بكائنات ما هنا، تُهدّئ منسوب هرمون الإستروجين في جسدك، ولتنتقل بالتالي إلى نصوصك، لنتمتع بقراءة جديد سركون؟
ـــ لا أدري. ولكنني ما زلت في طور تكوين الأعضاء والحواسّ. جسدي ما زال فارغاً من جميع أثاث الماضي وقطع غياره، ولا أعرف إن كان سيحدث تطور في المستقبل القريب أم لا. أنا أدرك بأن إتمام تفريغ جسمي من الطين الأول، سيقود إلى ولادتي بنسخة أخرى تماماً. ومن أجل أن تكتمل صورتي الجديدة، سيكون عليّ الذهاب إلى دائرة سجل «حَبل السُّرّة» لأتمكن من الاطلاع على كافة أوراق الملف الخاص بي. فأنا لا أعرف حتى اللحظة، ما الذي كُتبَ بتلك التقارير التي رُفعت عن تاريخي من أرض الطين.