لم تكن الكتابة قراراً، كانت أشبه بحادثة. لا بد أن تكون هكذا لمن هم مثلي، يخشون التكرار وانعدام المفاجأة واستتباب الأمان. إن لم تحضر الكتابة كضيف، كطيف، لا أفسح لها مجالاً، ولا آمن لها. حتى تفرض نفسها تماماً. كالطوفان. تملأ جسدي كله، وتخرج من عينيّ وأذنيّ وخياشيمي. حتى الاختناق.

1984. باريس. غربتي الأولى. خرجت من البيت والبلاد وعمري الشاب، دفعة واحدة. هرمتُ وأنا في بداية عشريناتي. أزمة عمر، هكذا قيل لي. كنت قد أيقنت أن الحياة خديعة، وأن الأمر كله أشبه بالجلوس في غرفة انتظار. في عيادة. إلى الأبد. كانت هناك حرب، وكنت في خوف وفقدٍ وبعاد، وكان عليّ أن أقاوم ميلاً جارفاً لوقف عقارب الساعة. وكانت باريس بكل تعقيداتها. وصقيعها. عشرون تحت الصفر في ذلك الشتاء. ولم أكن أحبّ الخروج إليها. كنت لا أفتح عينيّ إلا ليلاً، بعد أن يتوقف الدبيب، فأفلش خرائطي، وهواجسي، وأجلس في رفقة كل الذين أوقفوا دوران عقارب ساعاتهم، وتحوّلوا لثقوب سوداء. تشيزار بافيزي، شتيفن زفايغ، ماياكوفسكي، بول سيلان، فرجينيا وولف، كاواباتا، إرنست همنغواي... أحسب أعماراً، وأستعير حيوات، وأتحيّن مجيء اللحظة المناسبة. الحاسمة. عما قريب. غداً. حتماً.
ربيع 1985. توفيت جورجيت. الجارة الفرنسية العجوز التي تمنح لقبَ شمطاء كلَ معانيه. كانت تقف في باب الشقة المجاورة لشقتي، في الطابق الأرضي، وتطلق حقدها حبالاً تلتف حول أعناق العابرين. لم تكن تطيق الضجيج، أي صوت، أي وجود. أو أنها كانت بشتائمها وصراخها، تطمس صياح ذئاب وحشتها، وترفع شكواها إلى السماء. وجدوها بعد أيام عدة من وفاتها، جثة متخثرّة، في مياه مغطسها في الحمام، بعد أن استغربوا الهدوء الذي حلّ على المبنى فجأة. لم يكن لها أولاد، قلتُ، فجاء أولادها ودفنوها بصمت كمن يعتذر، ثم انسحبوا.

حين أنهيت كتابة «المحوّل»، أيقنتُ أني ضحية ثلاث لعنات: إعاقة روحي، لعنة الكتابة، وحرب لبنان

لو أني متّ هنا، قلتُ، فسوف لن يجدوني ربما، لبعد سنوات. ثم زارتني قريبتي لأيام. جاءت من لبنان تروّح عن نفسها. كان جلياً في عينيها أنها تحسد تفلّتي، حريتي. لم أخبرها بأرقي. لم أخبرها بشيء. ودّعتها، أغلقت بابي، وثمة ما انفجر في داخلي ولم يعد يتوقف، ولم أعد أستطيع أن أوقف يدي عن الجريان. كنت أكتب كالممسوسة. ليلاً نهاراً. كمن يصارع لكي لا يجرفه السيل. كأن ثمة سدّ وقد تزعزع السدّ وانهار، وجنّ السيل.
أبقى في قميص النوم لأيام، وحين أجوع، أخرج بي إلى السوق القريب، في شارع «موفتار»، أشتري فراولة وقشطة كاملة الدسم وأعود. لا أستطيع أن أدخل إلى جوفي أكثر من هذا. مع قليل من السكر. أضيف ماء الزهر أحياناً. كالمعوّق. كعليل. كمصاب بمسّ. أحبّ أن أحكي عني بصيغة المذكّر. ارتباك هوية؟ ما هي الكتابة إذن، إن لم تكن ارتباك هوية؟ أحكي عني ككائن. كغير كائن. هذا ما أنا عليه إبّان انكشافها عليّ، الكتابة. ثمة دمامل في روحي ولست أعرف إلى علاجها سبيلاً آخر. سوف تجد الحكمة سبيلها إليّ ذات يوم، مع العمر، هذا مؤكد. لكن، بِمَ أملأ عمري حتى حينذاك؟
«المحوّل». روايتي الأولى. حادثة اصطدام، ونزف الكلمات الذي لا يتوقف. وكل ما يفرغه الجسد من مرارة. ومن سوء فهم. كلّي مربوط إلى سرّتي. كأني أسعى إلى جذب نفسي إلى الخارج، ألفظها وينتهي الأمر. أفرغت في الرواية كل ما في بطني، ثم انكفأتُ. لم يعد يعنيني أن أكتب عنّي. لقد انتهيتُ مني. أخبرتُ الحرب، وجيلي، وانقطاع الكهرباء، واستيلاء مخلوقات غريبة على المدينة، تدعى الموتورات. قلت إني كالنبتة وقد ضعوها في إناء زجاجي، وإني لن أنمو ما دامت الدنيا تضيّق عليّ، إن البشر كالآلات، تحتاج محوّلاً يقيها شرّ الصدمات، وإن المحوّل هذا ليس الحبّ على ما يبدو، وليس الكتابة أيضاً، طالما أن «الحرب وقعت في...»، على ما تقول اللعبة التي تلعبها الكاتبة مع بطلتها، في ختام الرواية.
كتبتُ «طوبى لأسراب السمك المهاجر عكس التيار»، و«الجنون شرفة واطئة تطلّ على الغروب». قلت كل حبّي للكتب والمجلات العلمية التي كنت أقرأها، ولعي بالعلم الذي كنت أجده على نقاء وسعة وشعرية ودقة، كنت أحتاجها ربما كإجابة آنذاك. كان العلمُ وسيلتي لممارسة لغة أخرى، يشحذ مخيلتي بقدر ما تفعله الآداب، يهدئ روعي، ويربطني بعالم لا يرضى عني، ولا أرضى عنه.
حين أنهيت كتابة «المحوّل»، أيقنتُ أني ضحية ثلاث لعنات: إعاقة روحي، لعنة الكتابة، وحرب لبنان. بعد «المحوّل»، لم أكتب أبداً عني. احتلني آخرون شغلوا فراغي المستجدّ. كانت روايتي الأولى بمثابة مصفاة مُحكمة خلّصتني، بشكل قاطع ونهائي، من «أناي». فرغتُ منّي دفعة واحدة، ومن لعبة الكتابة داخل الكتابة.
في منتصف الرواية، تتوقف الراوية عن الكتابة، فتستغل بطلتُها لحظة نومها، لتتابع هي عنها. الأحداث نفسها تروى بحسب مشيئة البطلة. البطلة تعترض على المصير الذي قررته لها الكاتبة، وتقرر أن تسيطر على زمام الأمور. وفي النهاية، تجد نفسها وقد كتبت النهاية ذاتها. لا مفر. لا خلاص. «تعالي إذن نمزقها هذه الرواية، ما لنا ولهذه الأوجاع... تعالي نلعب معاً، نرسم بالطبشور دائرة نضع فيها أسماء بلدان نعرفها ولا نعرفها، ثم نصرخ: وقعت الحرب في...».
كان يجب أن تصدر الرواية عن «دار الفارابي»، لكنها تأخرت، ثم صدرت عن «دار مختارات». صممت الغلاف بنفسي ووضعت عليه صورة سلب وإيجاب (- +) وجسد رجل صغير يركض بينهما، محاولاً وصل التيار الكهربائي. نفذ الرسم صديقي فادي أبو خليل. إلى اليوم، هذا كل ما بقي لي من الحرب. صور عتمة وهدير أصوات مخيفة، وشعور بالوحدة والأسر والاختناق، ووحوش تتجوّل وتعذّب وتقتل كيفما اتفق.
صدرت الرواية ولم تُقرأ كثيراً على ما أظنّ، ولم يتمّ الاحتفاء بها. كنت في الخارج، ولا أجنحة لي، ولا ريش. لكنّ أصدقاء لي قرأوها وأحبوها، وكان هذا كافياً لي. لم يصلني شيء من القليل الذي كُتب عنها، ولم يحزنني الأمر كثيراً. كان يربكني أن يحدّثني أحدهم عمّا كتبت، إذ كان الأمر وكأنه يحدّثني عن عُريي، وعليّ أن أقف مجدداً لأمارس التمرين المخجل ذاك. كنت في التمرين. أجل. تمرين على الكتابة، وتمرين على قبول لا معنى الحياة. هذا ما ينبغي لمن هم مثلي من فصيلة المعوقين. ألا تنتمي لأحد. ألا تكون جزءاً من أية مجموعة. أن تتنفس خارج أدبيات السلوك. أن تكون حراً، متفلتاً، خارج مدار الأرض، ما فوق قانون الجاذبية. وأن تشبهك كتابتك. يا للروعة، يا للرعب.