لا يبدو أن محمود ياسين، وهو يُنجز روايته الأولى «تبادل الهزء بين رجل وماضيه» (نينوى ــ دمشق)، قد ذهب وشغل نفسه بالسؤال التالي: كيف يمكن أن تكتب رواية عارية في مجتمع مُحافظ بينما تتمنى نجاتك من اللوم أو العتب؟ لا تبدو المسألة مجانيّة أو متاحة بوفرة حين يتعلق الأمر هنا بتفاصيل قد تدفع قارئاً قريباً إلى عقد مقارنة بين ذلك المكتوب بين يديه وبين الحياة المُحيطة به. على هذا يبدو ياسين وقد انحاز لمصلحة النص الأدبي مُنشغلاً بما سواه. يقدم الكاتب اليمني شخصية «العزي» لتسيطر على بنية السرد وصاحبها الذي دخل حياته من أول يوم فيها وهو يبدو على هيئة من دخل «مفاوضات شاقة مع الموت» حيث يقوم بتعرية أيّامه ووضعها في الضوء باحثاً عن تغرة خلاص من حالة التشظي التي عاشها.
هو الفتى القروي الذي كُتب عليه أن يدخل المدينة ليعمل صحافياً مواجهاً الخيارات الصعبة التي وضعت أثقالها في طريقه. تظهر هنا سواد حالة العمل في مهنة السلطة الرابعة والأثمان التي سيكون على الواحد دفعها لو انحنى للريح القادمة، أو هو خيار العودة إلى أرضه الأولى. على هذا سنرى القرية وقد صارت على هيئة سرير ينام عليه «العزي» ذاهباً في رحلة استذكار وكأنه يرى شاشة مُعلّقة على جدار غرفته وهي تعرض أثقال وروائح الأيّام الفائتة: تربيته التي كانت بداية على أيدي قساة في تنظيم عقائدي أصولي عملوا على تضييق مباهج أيّ حياة مُحتملة يمكن له مصادفتها، الكبت الجنسي المُنتج بسبب ذلك والمُسبب لاحقاً في توليد إشكالية التعامل على نحو سهل مع الأنثى، مافيا السلطة التي لا ترى في أهل الصحابة سوى مرتزقة يمكن الدخول معهم في مفاوضات والوصول إلى ثمن محدد. هذا إلى جانب استذكار الجزء المرتبط بصنعاء كمكان، ومجموع الكتلة البشرية التي التقاها وتقاطعت حياته خلال إقامته فيه. أمّا في رحلة العودة إلى قلب القرية وتفاصيلها فسنرى «العزي» وهو يسير بخطوات ليليّة في اتجاه أنثى لوحدها في بيت بارد «وهي تنتظر من سوف يقرأ لها تلك الرسائل القادمة من الغُربة». ستظهر قصة الاعتماد على «العزي» هنا في قراءة تلك الرسائل كما لو أنها مدخل لفتح باب الرغبات على آخره وتحقيق الأمنيات التي طال انتظارها.

مقاربة لقرية «ماكوندو» في «مئة عام من العزلة» لماركيز مع قرية الراوي
لكن سيبدو رهان الحياة هنا أثقل أو بدرجات مفتوحة على احتمالات الأخطار الواقفة تحت النوافذ المُحاطة ببارود قابل بسهولة للاشتعال حيث الرصاص وحده قادر على إعادة «الشرف» إلى لونه الأول. هذا إضافة إلى عيون متلصصة تقف على قائمة واجباتها في الحياة مراقبة الخطوات الساهرة بنيّة الاقتراب من بيوت النساء الخالية من رائحة الرجال. لكن غالباً ماتظهر تلك القصص المتتالية وكأنما قد تعرضت لبتر متعمّد في مفصل محدد منها لتنبت حكاية أخرى من ذيلها وهكذا في اتصال مستمر ويُنتَج على وتيرة واحدة. من هنا سنرى «تبادل الهزء» وهي تسير على هيئة فيلم سينمائي أظهر ياسين قدرة تجاوزت عثرات العمل الأول، وهو يقوم باستخدام تقنية سرد توضح تماسك نبرة الحكي على نغمة مرتفعة ثابتة. كأنه أنجز روايته بضربة واحدة ولم يأخذ خلالها جلسة ليأخذ فيها نفَسه. خلال ذلك لن تبدو مفتعلة أو استعراضية تلك الاحالات التي ستدخل في ثنايا السرد بكثرة لأسماء أدبية من همينغواي وكونديرا وكويلو وهي تأتي مسنودة بقوة نزولها في سياق يدعم الفكرة التي أتت من أجلها. الحالة نفسها مع ظهور ماركيز وهو يقوم بسرد تفاصيل قرية «ماكوندو» في «مئة عام من العزلة» وعكسها على قرية الراوي، لكن من منطلق كونها قرية من لحم ودم يسكنها بشر ما زالوا يصنعون حياتهم رغم كل شيء.