في موعدٍ وصفته الصحافة التركية بالاستثنائي، وقّع أورهان باموق روايته الجديدة «Kafamda Bir Tuhaflık» (غرابة في عقلي) بعد 15 سنة على آخر توقيع له في إسطنبول، وبعد ست سنوات على صدور آخر رواياته «متحف البراءة» (2008). الحدث الذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات في جادة متفرعة عن شارع الاستقلال الشهير، وشكّل فيه قراء الكاتب التركي طابوراً طويلاً للحصول على نسخٍ تحمل إهداءً بأسمائهم، كان مناسبة لدردشة سريعة ومتقطعة وصف فيها حامل نوبل لللآداب (2006) عمله الجديد بأنه «ملحمة وقصة حب حديثة»، وأنه قضى ست سنوات مع بطلها «مولود» الذي يترك قريته ويلتحق بوالده المقيم في حي شعبي فقير في إسطنبول.
هناك سيدرس ويساعد والده في مهنة بيع «شراب الحبوب» أو «البوظة» كما يسميها الأتراك. من الدراسة والعمل الجوال إلى الخدمة في الجيش وقصة حب مع «رائحة» التي سيكتشف إثر زواجها بها أنها شقيقة الفتاة (سميحة) التي دبّج لها رسائل غرام طويلة وملتهبة. داخل هذه الخريطة الشخصية لحياة بطل الرواية، يؤرخ باموق الحياة السياسية والاجتماعية التركية من أواخر ستينيات القرن الماضي حتى عام 2012، حيث الانقلابات العسكرية، وصراع اليمين واليسار، ثم الصراع الدموي الذي عاشته تركيا في السبعينيات، وحيث كانت آثار تلك الأحداث تنزل بطرق مختلفة على حياة الشرائح الفقيرة الممثلة في بطل الرواية ومجتمعه الصغير. ستموت زوجة مولود، وسيُقتل زوج سميحة، وسيلتقي الحبيبان مجدداً، ولكن مهمة باموق تتجاوز هذه الحبكة الغرامية إلى التغلغل مجدداً في نسيج مدينته المفضلة إسطنبول التي كانت بطلة كل أعماله السابقة باستثناء رواية «ثلج».
إسطنبول هي مسقط رأسه، وليس بعيداً عن الحي الذي ولد فيه، جلس صاحب «اسمي أحمر» ليوقع روايته التي يقول إنها «تسرد تطور المدينة، وحياة الوافدين الجدد إليها، وحياتها اليومية»، والتي يبدو أنه أضاف إليها طبقة جديدة من بحثه المضني والشغوف عن طبقات العيش التي شهدتها المدينة سواء في حقبتها العثمانية، أو في زمنها الأتاتوركي الجمهوري، وما تلا ذلك من حظرٍ معلن وغير معلن للذاكرة العثمانية، وسعيٍ لاهث للتشبّه بأوروبا والغرب، وهو ما رواه باموق بطريقة آسرة حين كتب أجزاءً من ذاكرته وسيرة مدينته في كتاب «إسطنبول/ الذكريات والمدينة»، ورسم فيه صورة إسطنبول التي أُجبرت على جعل نسيان كل ما يتعلق بماضيها العثماني في بؤرة إيديولوجيا تأسيس الجمهورية التركية. إسطنبول هي المدينة الجريحة والحزينة التي لن تنهض من حزنها وكَدَرها أبداً بالنسبة إلى باموق، وبالنسبة إلى كل هؤلاء الكتّاب المصابين بـ«عقدة إسطنبول» الذين استعادهم في كتابه المدهش، إضافة إلى صورتها كما جاءت في رحلات كتاب مثل لامارتين ونرفال وأندريه جيد وفلوبير وتيوفيل غوتييه ودوس باسوس إليها. ولعل هذا الكتاب هو الخريطة السرية أو الأصل التخييلي لما حدث ويحدث في رواياته التي انقسم القراء حولها، واشتكى البعض من صعوبة بنائها، ومن إغراقها في التاريخ التركي القديم، ومن التبدلات السوسيولوجية التي تظل غير أليفة بالنسبة إلى القارئ الأجنبي.
إنها إسطنبول التي يختار باموق هذه المرة بطله من خارج طبقتها الوسطى، ويجلبه من الريف لكي يندسّ في جروح المدينة وأحزانها وحيرتها بين ماضيها الإمبراطوري الشرقي وحاضرها الغربي المتقلب.