ندرة الكتب النقدية الرصينة التي تناولت تجربة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1896- 1977)، برغم فرادة شعره، وخصوصية حياته، وعزلته، شجّعت محمد مظلوم على نبش تراثه الشعري وفحص نصوصه عن كثب، في قراءة نقدية منصفة، وعميقة، وشاملة، بعنوان «أحمد الصافي النجفي: الغربة الكبرى لمسافر بلا جهة» (دار الجمل). يضع الشاعر والناقد العراقي تجربة هذا الشاعر الشّريد في صلب الحداثة الشعرية العربية، مستغرباً إهمال منجزه النوعي الذي يتفوّق على مجايليه وما تلاهم من تيارات استحوذت على ما عداها من تجارب لافتة، وإذا بشاعرنا المحاصر بين جيلين، جيل الكلاسيكيين، وجيل الحداثيين «ملك العزلات المتوّج بشتّى نعوتها وسيميائها». هكذا يخترق عزلة النجفي مرتين: عزلته الكبرى في حياته، وعزلته بعد موته، متوغلاً في متن نصوصه الإشكالية، بقصد إضاءة المناطق الأشدّ عتمةً في تجربته (التمرّد والاغتراب والعصيان).
لا تقل السيرة الشخصية لهذا الشاعر البدوي الذي لم يتخلّ عن زيّه التقليدي إلى آخر حياته، بكوفيته وعقاله، سواء خلال وجوده في العراق أم دمشق أم بيروت التي كانت آخر محطاته في غربته الطويلة، عن غرابة شعره وفتنته الجمالية. تحمل سيرة صاحب «شرر» كل النقائض في إطارٍ واحد، فهو الأعجمي في العائلة، والضائع في شيراز، والغريب في العراق، والشّريد في دمشق، والمنفيّ في بيروت، ما خلق منه نموذجاً فريداً في الموروث الشعري العربي، وشخصية نافرة «غير قابلة للانحناء أمام العواصف». وهذا ما تشير إليه سلمى الخضراء الجيوسي في دراستها عنه، إذ رأت أن نمط حياته أضفى «وزناً وقوة روحية على شعره». لكن صفة «المنشقّ» كلّفته كثيراً، على دروب الحريّة الفردية، منذ أن خلع «لباس المشيخة» في النجف، في خطوة مبكّرة للتمرّد على محيطه الديني، معلناً خصومته مع العالم. وقد وجد في أبي العلاء المعرّي لجهة العزلة والتشاؤم واللايقين، والمتنبي في قلقه وترحاله وغربته، ملاذاً فكرياً صلباً، قبل أن يقارب تجربة عمر الخيام روحيّاً.
رثا الكلب ووجه هجاءه نحو الجماعة، والنخبة، كنوع من القطيعة مع سلوكيات حياتية

في دمشق التي استقرّ فيها طويلاً، بناءً على نصيحة طبيبه في استنشاق هواء بساتينها، أخضع نفسه إلى عزلةٍ أخرى، في غرفة بائسة، لطالما وصفها في قصائده، لكن الانخراط في اليومي، وقصيدة الأشياء، والقضايا الشخصيّة، التي سيتبناها الحداثيون، بعد عقود، بوصفها فتحاً في الشعرية العربية، لم ترقَ لبعض نقّاد عصره، مثل مارون عبود، نظراً لإسرافه في استخدام جماليات مغايرة، مستلّة من مشهديات الحياة، فيما وجد صلاح الأسير أن النجفي «فوتوغرافي الشعر العربي الحديث»، ويلفت جلال الخيّاط إلى زاوية أخرى بقوله عنه إنه «أول شاعر عربي يخرج على طوق الأغراض الشعرية المقنّنة، كما يجوب مفازات غريبة غير مطروقة». يزاوج محمد مظلوم خلال نبشه في تراث هذا الشاعر شبه المجهول لقرّاء اليوم، بين سيرته الشخصية المفعمة بالأسى والترحال والتجاهل، وكيمياء شعره، إذ «أحال هذا البدوي ذو الحواس المستنفرة المثقفة، كلَّ مشاهد الواقع من حوله إلى نوعٍ من الأسطورة». هو إذاً «المختلف في عصرٍ مؤتلف»، ذلك أن ديوانه الأول «الأمواج» (1932)، أثار آراءً نقدية متباينة، تؤكد على نبرته الجديدة المتمرّدة على الأغراض الموروثة، فهذا شاعر لم «يتورط» في مدح الملوك والحكّام، كما فعل بعض مجايليه. وبالكاد نجد شعراً غزليّاً بين قصائده. وحين يلجأ إلى الرثاء، فهو يرثي كلباً، لكنه سيسرف في الهجاء، من دون أن يذكر أشخاصاً بعينهم، إنما يوجه هجاءه نحو الجماعة، والنخبة، كنوع من القطيعة الكاملة مع سلوكيات حياتية، يرى ضرورة هتك مستورها، وإدارة ظهره لها تماماً، نحو فردانيته الطليقة في عراء العزلة، معزّزاً ذلك برفض أي ملكيّة طوال حياته، أو الانتساب إلى حزب، أو مؤسسة، في نزوع دائم إلى «الانشقاق». وهذه ما نجده في مقدمة ديوانه «شرر» بقوله «عندي لكل جديد لذة، وحسبي لذة الكشف، إن فاتتني لذة المُكتَشف». بهذه الروح المتمرّدة أنشأ عزلته المختارة، بعيداً عن الحشود والزحام، إلى درجة التحرّر المطلق من فكرة الوطن بمعناها المتداول: «أقولُ: مالي وطن واحد/ فموطن الشاعر كلُّ الجهاتْ». ومن هذا الباب سيبني مدينته الشخصيّة التي لا تشبه مدينة أفلاطون، أو السيّاب، أو بودلير، وفقاً لما يقوله مظلوم، بل تنهض على طبائع البشر، مؤكداً على الخراب الإنساني في المقام الأول.
أصدر الصافي النجفي عشر مجموعات خلال حياته، فيما صدرت في بغداد المجموعة الكاملة لأشعاره غير المنشورة، بعد رحيله، وتضم خمسة عناوين. وسنعثر في هذا الكتاب على مختارات وافية من أشعاره، في طواف جمالي آسر، يعيد الاعتبار إلى شاعر متفرّد حقاً، بإمكاننا أن ننظر إلى منجزه، من دون تردّد، كأحد آباء الحداثة الشعرية العربية بامتياز، وتالياً، إعادة اكتشافه نقديّاً، من منظور مختلف.