لياسمينة ريزا (1959) بصيرة اجتماعية حادة. لها أيضاً ذلك الشغف الاستثنائي في التربّص بالعلاقات الإنسانية التي يرتّبها الحاضر، وصَدْمِها. ليست ثمة ركيزة ثابتة في أي علاقة. الحب، السعادة، الصداقات، العلاقات التي تربط الأقارب ببعضهم، كلها أشكال اجتماعية أو خلاصات تكشف لنا الكاتبة فداحة اهترائها، وضعف نسيجها.في روايتها الأخيرة «طوبى للسعداء» («دار هارفيل سِكر ــ لندن»، ترجمة: سارة أرديزون)، تقترح ريزا على القارئ ثماني عشرة شخصية، موزَّعة في ثمانية عشر مونولوغاً منفصلاً. لكل شخصية فصل مستقل معنون باسمها، ولكل منها رؤيتها الذاتية التي تنفذ منها إلى «الخطأ» في حيوات الآخرين. لنكون بذلك، أمام ثماني عشرة وجهة نظر مختلفة في نسيج روائي محكم ومعقّد في آونة واحدة. ما يُذَكّر بعمليّ الكاتبة «فن» (1994) و«إله المجزرة» (2006) اللذين أبرزا ريزا ككاتبة تحفر عميقاً في المسرح الفرنسي المعاصر.

عملُها هذا نموذج مُوسّع شكلانياً لكل ما كتبته في السابق. سليلةُ موليير، والمُشارِكة تمثيلاً في بداياتها في بعض مسرحياته، لا تسحب التهكم غطاءً لفصول روايتها. المجتمع مادة ضاجّة بالنسبة لها، تواجهه بصور من إنسانه المكسور، وتفنّد فلسفته المعاصرة وظواهره وأنماط حياته. فالأحكام التي يعتقد بها، مجرّدة وزائفة، إنها محض ماكياج نفسي للبقاء. الأمر ذاته بالنسبة إلى القيم الكبيرة، كالسعادة أو الحب.
في أواخر الثمانينيات، كُرِّس اسم ريزا بعد عرض مسرحيتها «حوارات بعد دفن». غير أن أسلوبها في نسج شبكة متقاطعة من العلاقات البشرية، ظهر جليّاً في «فن». لفتت الأنظار يومها بكتابتها المكثفة وحواراتها الدينامية، وإحكام قبضتها على الشخصيات. فلا يمكن لأي منها أن تنزلق، وهي مشدودة دوماً إلى منطقها الوجودي، وإن كان على حساب ما يربطها بالآخرين. في «فن» تنفضح هشاشة الركائز التي تحكم صداقة ثلاثة رجال بعد شراء واحد منهم لوحة باهظة، فيختلفون حول قيمتها الفنية أولاً قبل أن يتحول النقاش مسألة دفاع شخصي. والأمر نفسه بالنسبة لـ «إله المجزرة» (قّدمت أخيراً في بيروت بعنوان «مجزرة»/ إخراج: كارلوس شاهين)، وتصوّر أربعة أزواج في حوار مأزوم، ينفتح على أسرار خاصة، بعد تضارب ولدَيْهما.
تمثل الرواية نموذجاً للأدب المعاصر وقدرته على الانغماس في الواقع

«طوبى للسعداء» تشبه في هيكلها، عملَي ريزا هذين، من حيث نظامهما الكتابي. فاشتباك الشخصيات ببعضها، والتصاقها بالحاضر، يجرّها لاستنطاق ذاتها والآخرين، ليس هناك ما هو سري أو مقدس. الحاضر هوية الإنسان العصري، وهي هوية ممطوطة. تنضوي على فراغات وأثقال. من حوار «سخيف» في سوبرماركت بين روبرت الصحافي وزوجته المحامية أوديل، ننفتح على شخصيات أخرى متصلة بهما، أبرزها عائلة هاتنر المنغمسة في جملة من الادعاءات الاجتماعية الكاذبة. في موازاة ذلك، فإن ريزا تحاول رسم بورتريه للعالم، المتداعي والضعيف. الإنسان نموذج مصغَّر لكوكب تتلاعب به قضايا المال، الطقس، والكوارث الطبيعية (تسونامي) والأزمات النفسية والمرضية، أيضاً السياسية. الكاتبة التي تحمل أصولاً إيرانية، روسية ومجرية، وهوية يهودية، لا تحيّد إسرائيل بوصفها دولة إشكالية بالنسبة لبعض اليهود الأوروبيين. في أحد الفصول، تطرح ريزا، عبر شخصية فينسنت زوادا مدى تجانس إسرائيل كدولة «مؤسَّسة» وديانة اليهود وهويتهم وارتداداتها السلبية على المجتمع اليهودي في الخارج. مسألة تسهم في انهيار عائلة، بعد اختلاف الزوج وزوجته اليهوديين بشأنها. فينهي هو أعماله ويهاجر إلى الدولة المحتلّة.
لكن تصميم هذا العمل الأدبي المحكم، لا ينفي حقيقة أن كتابة ريزا الروائية، أشبه ما تكون التفافاً على كيانها المسرحي المُلِحّ. كما لو أن ريزا تكتب في ظل صورتها المسرحية. فالرواية، تُشعِرُك بأنها مكتوبة بشكل يمهّد اقتباسها للخشبة أو حتى التلفزيون. بهذا المعنى، فإن نص الرواية - وإن سمتها ريزا رواية - قابل لإعادة النظر فيه. وهو ما قد يُحسب في صالحه كونه يعكس نزعة الكاتبة للتجريب. إنه أشبه بتجهيز اجتماعي. صبّته ياسمينة في قشرة الرواية، إلا أنها أبقت لحمه ممسوكاً بعظم القصة القصيرة، وتركت دم الكتابة المسرحية متدفقاً فيه.
لُزوجة الأجناس الكتابية في هذا العمل المستهل بجملة لبورخيس، وتماسّها ببعضها، من حيث طيف الموضوعات المتناولة والمونولوغات المشغولة ظاهرياً بنفس واحد، يجعل من «طوبى للسعداء» نموذجاً للأدب المعاصر، من حيث احتوائه على رؤيا تتعلق بموقع الأدب اليوم ومدى قدرته على الانغماس في الواقع، والتذبذب في بنية الحاضر نفسها، من دون أن يخسر كينونته. إنه بذلك أدب مفاهيمي إذا صح القول. كما أن هذه الدينامية ووفرة الشخصيات، تتآلف تماماً مع دينامية ريزا نفسها في ولوج كل شخصية على حدة، ثم الخروج منها. كما لو أنها كاتبة تتفرّج على العالم، كما هو، بكليشيه إشكالياته الفردية التي لا تلبث أن تتكرر بحلّة جديدة في كل أزمة كبرى. حتى إن كل تفصيل يبدو كأنه إشارة اجتماعية. ولو قُيِّض لبريشت أن يشاهد الرواية مسرحاً، لصفّق طويلاً وربما بعينين دامعتين أيضاً.