كتاب «نجمة أمام الموت أبطأت» الذي صدر عام 1981 كان محاولتي الأولى لتدجين ما لا يمكن تدجينه على الإطلاق: الموت. الموت الفردي الخاصّ والموت الجماعيّ العامّ. وكان هذا الأخير هو الأشدّ شراسة في البلد الصغير الذي كانت تنهشه أحقاد الحرب الأهليّة ويتآكله العنف.
هربتُ باكراً من الحرب كمن يهرب من نفسه الأولى دفعة واحدة، وبدأتْ مرحلة جديدة في حياتي. لكنّي لم أستطع الهروب كلّياً وظلّت أجزاء منّي عالقة هناك. كانت تلك المرحلة مطبوعة بالحنين إلى وطن يدمّر نفسه ويتدمّر، وإلى طفولة - هي بمثابة وطن آخر - حسبتُ أنها بقيت في حديقة الليمون الفسيحة، المطلّة على بساتين الزيتون التي يعبرها النهر، وكنتُ أنظر من خلالها إلى القمر الآتي من وراء الجبال مُحاطاً بِهالَتِه كأنّه عين الكون. ولم أدرك إلا لاحقاً أنّ الحروب لا تُجْهز فقط على الأجساد والعمران، بل أيضاً على طفولات البشر. أولى ضحايا الحروب طفولة الذين ظلّوا أحياء.
غالبية نصوص النجمة المتباطئة أمام الموت كتبتُها في غرفة محاذية لمتحف «كلونيه» المخصّص لفنون القرون الوسطى والذي يتضمّن مجموعة تحف نادرة منها قطعة نسيج عنوانها «المرأة والقارِن» (الحصان الأسطوريّ الذي له قرن واحد وسط الجبين)، وهي تحفة لا أزال أزورها، من حين إلى آخر، حتى اليوم. ذاك الصرح بالتحديد كان بوصَلتي إلى الأماكن الأخرى، خصوصاً بعد منتصف الليل حين يلفحه الضباب الشفيف وتغلّفه الإضاءة الصفراء، فيبدو نائياً، لامبالياً بالوقت.
في تلك الفترة التي تؤرّخ لبداية إقامتي الباريسية، اتصل بي، ذات يوم، رسّام لبناني شاب جاء من بيروت لدراسة الفنون التشكيلية. إنه محمود الزيباوي. التقينا في اليوم التالي، ثمّ صرنا نلتقي باستمرار ونتحاور. يُريني أعماله الجديدة وأُطلعه على قصائدي ونصوصي. وهو الذي شجّعني على النشر بعدما كان أنسي الحاج قد نشر لي عدداً من القصائد في صحيفة «النهار». كان الزيباوي طويل القامة، نحيلاً. ينظر إليّ من وراء نظارتين سميكتَين نظرات متعطشة إلى طَرْقِ أبواب المجهول. وكان، منذ ذلك الحين، صاحب ثقافة موسوعية لا سيّما في مواضيعه الأثيرة الثلاثة: الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر والفنون التشكيلية وجماليات الفنّ الديني، المسيحية منها بالأخص. لكنّي كنتُ أراه دائماً يسبح فوق الأديان، كما الذَّهَب الساهي في الأيقونات التي طالما أَحبَّها.
أعود إلى كتابي الأول اليوم فأجد أنّ الكلمات لا تزال في مطارحها، أنّ شيئاً لا يتحرّك داخل الكتب المغلقة

لم أكن مستعجلاً على النشر، بل كنتُ لا أزال أطرح السؤال حول الجدوى منه، وحول كيفيّة تقديم إضافة ما. وأكثر من ذلك، كنتُ في حالة انبهار مما أرى وأسمع في المكان المدهش الذي وجدتُ نفسي فيه. كنتُ في شغَف ما يُلمَس وما لا يُلمَس من المدينة التي لا تُستَنفَد، مأخوذاً بفرح القراءة وبذلك الحيّ اللاتيني المليء بالحانات والذكريات وصالات العرض، وخصوصاً بالمكتبات: من المكتبات الجامعية، وفي مقدّمها مكتبتا «السوربون» و«سانت جنفييف»، إلى المكتبات الكثيرة الموزّعة بين الشوارع والجادّات والساحات العامة، فتتألف منها كلّها أكبر مكتبة مفتوحة في العالم.
كنتُ مفتوناً أيضاً بلقاء بعض أساتذتي في «السوربون»، وفي «الكوليج دو فرانس» حيث كنتُ أتابع محاضرات مفكّرين وكتّاب تركوا أثراً في ثقافة القرن العشرين، ومنهم، على سبيل المثال، ميشال فوكو، كلود ليفي ستروس، رولان بارت وجاك بيرك. وكنتُ أحسّ، كلّما استمعتُ إلى هؤلاء، كم من الأبواب تُفتَح أمامي، وكم يتوسّع العالم من حولي.
لستُ أدري لماذا كنتُ أظنّ، في البداية، أنّ سنوات الحرب لا تُحسَب وفقَ حساب الأعمار، وأنّ الزمن توقّف عند اللحظة التي سافرتُ فيها قسراً. لكنّ هذا الظنّ سرعان ما تبدّد ليحل محلّه شعور آخر مناقض كلياً، هو الشعور بالولادة الثانية، دون أن يعني ذلك الابتعاد من الأرض الأولى وهمومها التي عصفت في داخلي. كان «روكييم» موزار، حينَها، كأنّه من خاصرتي يَرشح لا سيّما عندما ينطلق النشيج في مرثية «لاكريموزا»، إحدى ذُرى الموسيقى الكلاسيكيّة الغربية.
لم يكن النشر، إذاً، هو الأهمّ، بل كانت الأولويّة هي تعميق فعل القراءة، وتعميق الأسئلة، إذ اكتشفتُ هنا أنّ العالم يُقسَم إلى قسمَين: الذين يعيشون داخل الإجابات الجاهزة التي وفّرتها لهم المعتقدات والإيديولوجيات المختلفة، ويظنّون أنهم يملكون الحقيقة (وهم يمثّلون الأكثرية الساحقة)، وأولئك الذين يمضون حياتهم في البحث عن الحقيقة ويعيشون في قلب السؤال، أي في قلب الشعلة.
في ذلك الوقت، التقيتُ الشاعر إيف بونفوا في منزله في شارع «لوبيك» في الدائرة الثامنة عشرة، وكنتُ أرى في تجربته الشعرية والنثريّة غصناً من شجرة بودلير الوارفة، بل الغصن الأخير بعد رحيل بيار جان جوف. سؤاله الأول كان عن الحرب المشتعلة آنذاك في لبنان. تَحسّرَ على لبنان، ثمّ تَحسّرَ عليَّ عندما عرف أنني أكتب الشعر. كأنني في نظره آتٍ من زمن آخر دون أن أعرف أنّ ثمّة تغيّرات كبيرة طرأت على العالم، وأنّ الشعرَ أصبحَ مصيره في الغرب كمصير اللغة اللاتينية. آنذاك، لم أفهم تماماً سبب تَحَسُّر الشاعر الفرنسي. أذكر فقط أنّ لقاءنا طال وأننا تحدثنا عن بودلير ورامبو ومالارميه، كما تحدثنا عن الفنان الإيطالي جيوتّو الذي عاصرَ دانته أليغييري ورسَمَه على أحد جدران كنيسة قصر «برجيلّو» في فلورنسا، ومضت ستة قرون قبل أن يتمّ التعرّف بالمصادفة إلى وجهه.
في وقت لاحق من العام نفسه، لاحظَ أحد أساتذتي في الجامعة، ويدعى لويس فنسان توماس، أنّ طباعة كتب العلوم الإنسانية، حتى في دور النشر المتخصصة بها، ستتغيّر في العقدين المقبلَين ولن تبقى على حالها. وعندما سأله أحدهم كيف ستصير، كان جوابه مقتضباً وحاسماً: «على شكل روايات». وشرح لنا كيف ولماذا... في صيف ذلك العام أيضاً، وكنتُ، ككلّ صيف، أجيء إلى لبنان لتمضية عطلتي الصيفية مع الأهل في إهدن، أَصَرَّ الزيباوي عليَّ أن أحمل مخطوط كتابي الأوّل. عندما وصلتُ إلى بيروت أخبرته أنّ ثمّة قصيدة ناقصة وهذا ما سيدفعنا إلى تأخير النشر. لكنّه بادرني بالقول إنها ليست حجّة مقنِعة، وإنّ القصيدة الناقصة هي في عِداد القصائد التي يحفظها غيباً. في الواقع، لم أجد هذه القصيدة بين أوراقي حين عدتُ إلى باريس، ولستُ أدري، حتى الآن، ما إذا كنتُ أنا من كتبَها كلّها أم أنّ إضافات أو تعديلات طرأت عليها أثناء نقلها، وهي من توقيع من ادّعى حِفظَها.
أعود إلى كتابي الأول اليوم فأجد أنّ الكلمات لا تزال في مطارحها. أنّ شيئاً لا يتحرّك داخل الكتب المغلقة. تطالعني مجدداً تلك الكلمات التي لا أفهم ما الذي جاء بها إلى هنا، وأين كانت قبل أن تُكتَب. فوجئتُ وأنا أقرأ الكتاب من جديد كيف أنّ المهرّج يقطع شرايينه كجزء من التمارين السابقة لحَفلِه المقبل، وكيف أنّ «ثمة انتحاراً داخلَ أزرار الورد»، وأنّ «الخطأ صوابُ القاتل». ورأيتُ «الثَّور في وقفته الأخيرة، منتصراً ميتاً، غريباً حتى عن موته». لمحتُ «وحشة النّسر، فاقد البصَر، في أعلى الفضاء». وأدركتُ أنها كتابةُ الموت الذي تتعذّر كتابته كما يتعذّر التحديق في نور الشمس.
في مقهى «لوروستان»، قبالة إله الريف وهو يرقص فوق قِربَة من النبيذ، داخل حديقة «لوكسمبور» ـــ وكان المطر يربّتُ على كتفيه البرونزيّتَين ـــ كتبتُ العبارةَ الأولى من ذاك الكتاب: «وحدَها قَدَمُ التمثالِ تَعرفُ إلى أين/ حينَ تقرّرُ الهربَ من الحديقة».
* شاعر وكاتب لبناني مقيم في باريس