ترجمة وتقديم: مازن معروفبعد مرورها بحقبات الإدا الملحمية، والسكالدا (skaldic poetry)، واكتسائها طابعاً حكائياً مجازياً في ساغا العصور الوسطى، ومن ثم استيرادها لأفكار نيتشه والرمزيين الفرنسيين مطلع القرن العشرين، أتت الحرب العالمية الثانية، لتعبد الطريق أمام القصيدة الآيسلندية نحو واقع اجتماعي جديد في آيسلندا، وبالتالي شعري. كانت تلك أولى خطوط انعطاف الشعر الآيسلندي بعيداً من الزي الذي ألصق بجسمه طويلاً، والذي اعتمد الجناس والإيقاع والقافية. حتى أن أشهر مترجمي الشعر الآيسلنديين ماغنوس أسغيرسن لم يستطع أن يتنازل أمام هذا العرف الشعري و«الشرط» الثقافي.

لكن «نكسة» الحرب كانت قد وقعت بالفعل على المحافظين شعرياً أمثال دافيد ستيفانسن (1895-1964)، وتوماس غودمندسن (1901-1983). وباتت القصيدة تُصاغ الآن بوعي جديد و«صادم»، قاده ستين ستينَر (1908-1958) مُخرِج الحداثة الأول في الشعر الآيسلندي. إلى جانبه كان هناك يون فور (1917-2000)، المنحرف بدوره عن الشكل التقليدي، من دون أن تحقق أفكاره الشعرية الأثر نفسه. لكن الشاعر الذي لن يَعْدل عن مزاج قصيدته الشكلي وإنما سيطوِّره، هو سنوري هيارترسُن (1906-1986) الذي حملت قصيدته طابعاً تعبيرياً في موضوعات الحب والخسارة والطبيعة والتاريخ، وأحياناً سياسياً بانتقاده اللاذع لوجود قواعد للجيش الأميركي على الجزيرة. ومن أبرز أعضاء حركة الواقعية الاجتماعية في الشعر كان يوهانس كاتلر (1899-1972)، الذي أدخل تعديلاً جذرياً على شعره بعد نشره عشر مجموعات شعرية بالشكل التقليدي. وكتب حتى أواخر الخمسينيات تحت اسم مستعار هو «سيك». فأكثَرَ من التشبيهات والاستعارات الحداثوية في قصيدته.
أما تسمية «شعراء الذرّة»، فقد ابتكرها الروائي هالدور لاكسنس في روايته «محطة الذرّة» كوصف لجيل المحدثين الشباب آنذاك، أمثال ستيفان غريمسن (1919-2002)، إينَر بْرايي (1921-2005)، يون أُوْسْكَر (1921-1998)، هانس سيغفسُّن (1922-1997) وسيغفُس داداسُّن (1928-1996). وهؤلاء عرفوا بالثوريين إزاء شكل القصيدة. وأوجدوا رؤيا شعرية مختلفة عن رعيل المحدثين السابق. إذْ لاحظوا، كلٌ على حدة، أن الشعر الآيسلندي، لا يزال يعاني بمجمله، ورغم كل محاولات تحديثه، من مخلفاتٍ مفسدة في بنيته، وعنوا بذلك تأثيرات كلاسيكية المصدر. فأصدروا مجلة «بيرتينغر» (المنشور) عام 1953 التي ترأس تحريرها بْرايي.
واجه هؤلاء المجرِّبون الجدد، سيلاً من الانتقادات المجحفة، واعتُبِروا تهديداً لشكل القصيدة المتعارف عليه. فتحملوا هذه الموجة المضادة سبع سنوات قبل أن يتم قبولهم مطلع الستينيات. نتاجهم الشعري الضئيل لم يقلل من مكانتهم، فهم كتبوا أيضاً قصيدة النثر متمسكين بالواقع. وخلت قصيدتهم من الحثّ على الوطنية وتشجيع الروح القومية للأمة الصغيرة عدداً، وبالتالي عكس ما عهده الشعر الملحمي القديم.
هذا التحديث فتح الباب لأجيال جديدة لأن تنشر قصائدها بالشكل الذي تراه مناسباً. بين هؤلاء يوهان هيالمَرسُن (1939)، هانس بيترسن (1931) وثورستين فراوهامري (1938) إضافة إلى الشاعرة أرنفريذر يوناثانسدوتِّر (1923) التي يعتبر كتابها الوحيد «عتبة المنزل ملفّ» (1958) أول مجموعة شعرية حديثة لامرأة. وقد انسحبتْ من المشهد الأدبي بعد ذلك. بعد عام 1970، ومع تنوع الأساليب وتفاوت قيم القصيدة، دخل الشعر الآيسلندي مرحلة ما بعد الحداثة. وهنا يحضر تياران:
«الواقعية الجديدة»، الذي قاده جيل تأثر بأحداث الثورة الطلابية عام 1968 وحرب فيتنام والغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، ليأخذ المذهب الفوضوي ورياح التغيير السياسية حيزاً شعرياً لأول مرة، رغم أن آيسلندا لم تشهد أبداً تظاهرات. فاستقرت مواضيع جديدة في القصيدة، ليست الفولكلور ولا نقد العادات والتاريخ وأبطال الملاحم. بل البيئة، وحقوق المرأة والحقوق الاجتماعية للعمال وصيادي الأسماك مثلاً وغيرها. برزت في هذا التيار أسماء كالشاعرة ستينن سيغورذردوتّر (1950) والشاعر ثورارين إلدْيَنّ (1949) إضافة إلى سيغوردور باولسن (1948). وهؤلاء أداروا ظهرهم لكل قصيدة تحمل علامات القومية، وسخروا منها.
أما التيار الثاني: فضم شعراء القصيدة الباطنية، والتي عكست صوت الفرد. وهو التيار الذي لا يزال يلاقي الصدى الأبرز حتى الآن. ويبرز فيه غيرذر إلياسن (1961) وشون (1962) وبْرايي أولافسن (1962) وآذالستين آوسبرغ (1955) وأنتون هيلغي (1955) إضافة إلى عدد من الشاعرات أبرزهن كريستين عمرسدوتر (1962) وسيغوربيورغ ثراستاردوتر (1973) وغيرذر كريستني (1970). وهنا تحضر القصيدة البصرية، التي يمكن لها أن تتمسك بكل التفاصيل وتسترجع ما يحلو لها من رموز أسطورية، يومية، سياسية أو أدبية أو فلسفية. وهو الطبق المفضّل الذي ينهل منه الشعراء الشباب اليوم مثل كرسيتين سفافا (1985) وماغنوس سيغوردسن (1978) وآخرون.
في ما يلي، قصائد لشعراء من آيسلندا تعود إلى أجيال وحساسيات مختلفة:


يوهان هيالمرسُن (1939)

الغابة

الغابة تتجنب يقيني
تمنحني ضمانات
تتحاشى ذهني الهادئ
تمنحني يقظة الأشجار.
أملأ الغابة بأنفاسي
بأغانيَّ وخفقات القلب
والعصافير تغني جذلة كما السماء
سماء الغابة المتطفلة على أحلامي.

عن موت شاعر

غروب شمس الصيف يذرف الأحمر فقط
وها أنذا أمد يدي التي ليس بإمكانها رفع حربة
لكان أفضل لو أن لي سلطاناً عليها
كجندي جسور يستلّ كل أسلحته معاً
لكنني ورثت مفردات غير كافية
وفقدت معظم الكلمات
بينما كنت أتجول حول المبنى
غروب الشمس أحمر وحزني وغبطتي
يصلان إليها
الأزرق لون المسافات التي
صدّأها الغروب في طريقه إلينا.

سيغور باولسن (1948)

حمامات

القطّ في الدور السابع
يظن أنه حمامة
إنه في الدور السابع
مذ كان قطيطاً بعمر أسبوع
لم يرَ القطط أبداً
ولا أية حيوانات، لكن بشراً فقط
والحمائم عبر النافذة
في البدء، ظنَّ لفترة طويلة
أنه من سلالة البشر
محاولاته المخلصة للجلوس
إلى الطاولة
مع الزوجين الشابين
ووضع فوطة
والبدء بتناول المقبلات
كل تلك المحاولات انتهت دائماً
به مطروداً بقوة
وحثّه على أكل
بعض الفضلات في طاسة الطعام
غالباً ما جلس مستغرقاً في التفكير
على حافة النافذة
ينظر إلى الحمائم
في البداية أراد أن يقفز عليها
يلعب معها ويعضها
هذا قبل أن تعصف برأسه فكرة
أنه نفسه كان حمامة!
في اليوم التالي جلس
على حافة النافذة في الدور السابع
دون أن يبالي قط بالزوجين الشابين
أو أي كائن من جنسهما
حدسه المتزايد
بأنه حمامة
جعله يصاب بخيبة كونهما تجنّبا
حمامة ودودة ومؤنسة
على حافة النافذة
في النهاية نسي نفسه
ذات يوم قبيل العشاء
وقفز
وعندما دُفِنَ ليرقد بسلام
في الباحة الخلفية
كان هناك حمامٌ جالس على حافةِ كلِّ نافذة.

بيتي

بيتي لا ينقصه شيئاً تقريباً
تقريباً
لا شيء.
لا توجد مدخنة
لكنك ستعتاد الأمر
الجدران أيضاً مفقودة
والصور على الجدران
عليك فقط تقبل المسألة
لا يفتقد بيتي الكثير
من الأشياء
ليست هناك مدخنة
لذلك لا يمكن أن يرتفع الدخان
ليست هناك جدران أو
نوافذ
أو أبواب
لكنه مريح، بيتي
أرجوك تفضل
خذ مقعداً
لا تصب بالفزع
فلنتناول بعض الطعام
إكسر الخبز وارشف النبيذ
وأشعل ناراً في الموقد
وانظر بعين
لا إعجاب فيها
إلى الصور
على الحائط
أرجوك ادخل
شق طريقك من الباب
أو حتى عبر النافذة
إذا كنتَ تُفضِّل.

آذالستين آوسبرغ (1955)

ترنيم

الصبي بمسجل الكاسيت
جمع أصواتاً، وقطف محادثات
جارته المرأة الثرثارة
ثم أتى كمفاجأة
بتسجيلات لأحداث كل يوم
وكلام طائش.
الأصوات المتلاطمة تتردد
في حفل الجوع في المطبخ
الحياة معلقة بخيط رفيع
تستمر وتتطور
بالصرير وضربات القلب
المستلقية أسفله للأجيال القادمة.

أنتون هيلغي (1955)

الذهاب إلى المنزل
كلما وصلتُ وجهةً ما
اتَّقد شوقٌّ فيّ لوجهة أخرى
أعرف هذا
لقد أخبرتَني بالأمر من قبل.
أعرف أن سير الأحداث لا يمكن إيقافه
أعرف أن المستقبل محجوز مسبقاً
أن أكون واقعياً لم يكن يوماً من نقاط قوتي
لكن العبَّارة لن تنتظر
لن نبطئ المسير أو ننعطف إلى الوراء
أعرف كل هذا
غير أني نسيت أن أوصد الباب الخلفي.
وأنا غير متأكد، ربما الفرن تركته يعمل
لا أتذكر كذلك إن كنتُ أغلقت الحنفية كما ينبغي
وكان يجب علينا حتماً، أن نستقلَّ النوافذ.

غيرذر إلياسن (1961)

المقبرة في يوم صيفي مشمس
سيارة الإسعاف البيضاء
تسير ببطء فوق ممر الإسفلت
بين القبور
كما لو أنه بالإمكان
إنقاذ أحدهم.
في القبر
يجب أن يكون هناك زر
على كل قبر
عندما نكبسه يبدأ عرض الفيلم
على الشاهد
مصوِّراً الحياة التي تقبع في الأسفل
فتتراجع الغيبوبة
عن سهوها.

وصول

مخزون لا ينضب
من مفاتيح الهياكل العظمية
إلى السعادة
قلة منها تناسب القفل
إذا ما أجرينا إحصاء
ربما ليس هناك قفل على الإطلاق
فقط مشبك باب
يطقطق فجأة
منفتحاً
أو ربما، ليس هناك باب من الأساس.

غيرذور كريستني (1970)

انتصار
عبر الإقليم
يقود المزارع شامتاً
بثعلبة قتيلة على سطح السيارة
فرض حصاراً على مخبئها
بسيارته الجيب
حتى غدت للحيوان
رائحة بنزين
لا رائحة بشرية
لا أحد يشير بالذكر
إلى أخيل أو هكتور
وبالنسبة لي، فأنا أعرف
كيف أضبط لساني.

صلاة 

أستذكرك لا أزال
قبل الذهاب إلى السرير
أحياناً
أتلو صلاة
تتضمنُ أنتَ فقط
وأحلاماً عن قارب صغير
أستذكرك أيضاً
وأنا أشحذ السكين
كلانا نعلم أن أقصر طريق
إلى قلب الرجل
تمر مباشرة
بصدره.

سيغوربيورغ ثراستاردوتير (1973)

فشل

مهزولة، في وهج معين
تحت ضوء الحمام
كجدة جدتي
التي كان لديها في مثل سني ثمانية أطفال
وهي متورمة، والطفل التاسع مات
من السل، أستمع من جسم معدني
في غرفة المعيشة، إلى جوان باز
وللتسلية، أُصَوِّر بطريقة مسرحية تجاعيدي
لأنني أعرف أن هذه الأودية
تحت عينيَّ
هي بسبب الجبل فوق كنيسة البلدة
ولجدتي التي بدتْ متورمة
وأمرّغ نفسي بكريمات زرقاء، أقيس
بخيط سنّي طول كفي
ببلاغة،
وأطفئ الضوء
كما كانت تفعل هي
في حالات البخل الشديد.

إصغاء

رذاذ ونهر جليدي كسول
ومناطق استوائية هذا اليوم وبتولا منكوبة
وضفائر على الصخور والكتفين
وفوق، سحابة من الآخرة
وطماطم سمينة حمراء في العشب
وأسنان ولحم مُطَرّى
وعضة حدّ أن الدموع تتمزق
ومصّة وبذور تتنقّل
ومضغة حد أن الغدد تقطر
وجرعةٌ في الحنجرة المُثارة
والبردى والطحالب والشَعر
الوحشي
والكاحلان والأخاديد بعمق ميت
واللحم الرذاذ.

ماغنوس سيغوردسن (1978)

-1-
بدأت أحلم
ليلة بعد ليلة
بأني أسحب شعرة
من حنجرتي.
إنها ربما ذقنك
تنمو إلى الداخل
وتخنقك.
وأنا لا أتمكن من نطق كلمة
بل أسحب وأسحب
وأسحب
(كساحر
في متناوله العديد من المناديل الملونة)
شعرة تلو شعرة
تلو شعرة
من حنجرتي.
حتى أحدس أنني في نومي
توقفتُ عن التنفس.
-2-
حتى المعاناة
مسألة مكررة
وفي نهاية المطاف نحزم حقائبنا
ذاهبين قدماً
نحو تجارب جديدة.
تجارب أفضل
تبرهن الأمر نفسه
مطوية في جوارير جديدة
معلَّقة في خزانات جديدة.
المستقبل جلاد
يتنكر في هيئة أمل.
الأسوأ لا يستمر طويلاً
ما دمنا نقول
«ها هو الأسوأ».

كريستين سفافا (1985)

ساحة أوستورفوتلور ذات يوم صحو

الجمعة، يوم صيفي، الشمس مشرقة.
الجميع خلع جواربه وكنزته وبنطاله. فتيات جميلات فرشن سجاداً على العشب. فتيات جميلات في يوم طيِّب، صيفي. وفي المساء يذهبن للرقص حتى صباح اليوم التالي برفقة شاب أو فتاة، ويستيقظن بصداع الخمر لكن سعيدات بمجيء يوم جديد، يوم صيفي.
ثمة رائحة تُدوّخ لعشب مجزوز حديثاً
ثمة أزهار تتأرجح في أسرّة الحديقة
ثمة دلافين تتقافز عند الخليج
الشمس مشرقة
لا ينقص شيء
الاطفال يبتسمون ولا أسنان لهم بعد في العربات
الأطفال يبتسمون بلا أسنان للشمس ويأكلون الآيس كريم الذي يذوب فوق أيديهم الممتلئة
المفاصل دمامل في الجسد
الطقس دافئ للغاية. لا داعي لارتداء الأسود. لا داعي للبقاء في الظلمة
موظفو المكاتب أغلقوا الأبواب خلفهم
البحر أزرق
الشمس مشرقة
لا ينقص شيء
الناس بدأوا يهزون خصورهم، الناس تواقون لممارسة الجنس وباب الشرفة مفتوح
الناس يبتاعون السلمون، يبتاعون الضأن، سيقيمون حفل شواء الليلة، مبتسمين، مثارين بشدة ويحتسون مشروباً.
يشربون البيرة والليموناضة في المقاهي
الفتيات الجميلات يضحكن ويحتضنّ بعضهن
ومتشردون يدورون حولهن بأرجل مكسورة
غبطة الآن وحسب
والشمس مشرقة
ولا ينقص شيء.

* أوستورفوتلور: ساحة البرلمان الآيسلندي