في الذكرى الثالثة لرحيله، يُفاجئنا إبراهيم أصلان (1935 – 2012) بهديتين ثمينتين، الأولى هي رواية بعنوان «صديق قديم جداً»، والثانية نصوص قصيرة كُتبت أثناء ثورة «25 يناير» بعنوان «انطباعات صغيرة حول حادث كبير».
في الكتابين، يُكمل صاحب «مالك الحزين» (روايته الأشهر التي تحولت إلى فيلم «الكيت كات» بإخراج داوود عبد السيد) جملته السردية الآسرة التي اهتدى إليها مبكراً. جملة تلتقط ما هو استثنائي وجوهري في نثريات الحياة اليومية، وتعاقب مشهدياتها وأخبارها العادية. جملة وضعته في صدارة أبرز تجارب جيل الستينيات في القصة والرواية المصرية مع عبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، ولكنها قبل ذلك احتكّت طويلاً بالظلال الخصبة التي صنعتها جُمل ثلاثة آباء كبار، هم: يحيى حقي، نجيب محفوظ، ويوسف إدريس. كان أصلان أقرب إلى جملة حقي ونبرته في العثور داخل العادي على غير العادي، وتحويل أي حركة أو فكرة أو حادثة عابرة إلى حكاية متماسكة وجذابة. الحكاية أو الحدوتة هي الأساس في سرديات أصلان الذي بدأ منذ باكورته «بحيرة المساء» أواخر الستينيات، بالالتفاف على الفكرة أو الحدث، ومقاربته من زاوية منحرفة ومواربة، مازجاً النكهة الشعبية والعادية لما يحدث بتأملاتٍ شخصية تُبطئ المجريات المألوفة (القليلة على أي حال) لكي تحظى بكتابة ثانية يتخلّد فيها الحدث ويصبح – ببساطة – قصة بإمضاء أصلان الذي صرنا نعرف أن قوة قصصه تكمن في هذه «الكتابة الثانية» التي يحصل فيها الواقع على حياةٍ متخيلة وإضافية. الآن، يمكن الاستئناس بالعنوان الموفّق لأحد كتابيه الجديدين «انطباعات صغيرة حول حادث كبير»، لنقول إن أصلان كتب دوماً «انطباعاته» الصغيرة والأخاذة عن حوادث لم يتجاوز أغلبها حدود «إمبابة» و«الكيت كات»، المنطقة والحي اللذين عاش فيهما، ولم تذهب أبعد من الناس الذين عرفهم عن قرب في حياته العادية في الشارع والمقهى والوظيفة. نتذكر كتابه «خلوة الغلبان» الذي تألّف كله من حكايات قصيرة حول حوادث وأشخاص حقيقيين، التقط فيها أصلان ما يتحرك وراء تلك الحوادث، وما يتنفس خفيةً في جوار هؤلاء الأشخاص.
كل تلك الصياغات الدقيقة والالتقاطات العذبة التي لا يُنتبه إليها، تعود إلينا بكامل دسامتها الأسلوبية في روايته الجديدة «صديق قديم جداً». في غياب الكاتب الذي اشتغل بوسطجياً في شبابه، وألهمته التجربة مجموعته القصصية «ورديّة ليل»، تُعيدنا الرواية إلى مناخات تلك المهنة من بوابة استذكار صديق قديم. كأن أصلان في أواخر حياته، أراد أن يستأنف افتتانه بعوالمه القديمة، وأن يُرينا أن ثمة إمكانية دائمة لكتابة قصة أو رواية فاتنة من تفصيل أو حدث عابر لا يلفت النظر. «وصفة» مثل هذه كانت موجودة وممتدحة لدى الآباء الثلاثة الذين ذكرناهم، وخصوصاً لدى المعلم الكبير يحيى حقي، ولكنها تحولت لدى أصلان إلى مقتنيات شخصية وفن خاص. نعم، لقد تربّت جملة أصلان مع آباء الحكاية المصرية، قبل أن يصبح صاحبها نفسه أباً لحكاية جديدة ضمن جيله الستيني، وتصبح جملته فضاءً تتربّى فيه جُمل جديدة وشابة لكتّاب من الأجيال التالية.