عزيزي أنسي ..مرت سنة كاملة على انقطاعك عن المجيء إلى الجريدة التي نعمل أنت وأنا فيها. واسمح لي أولاً، وقبل أن أكمل هذه الرسالة، بأن أتأمل هذه الجملة الاستهلالية التي كتبتُها للتوّ، لكي أتفحص مجدداً فكرة أننا عملنا في جريدة واحدة، فهذه الجملة التي تحولت مع الوقت ومرور السنوات إلى مجرد بداهة يومية يفرضها العمل الصحافي اليومي، لا تزال صعبة التصديق وتدعوني إلى التأمل والامتنان الغامض لمسألة ربما تكون قد خطرت في بالك أو لعلها لم تخطر، وهي مسألة أن يأتي شاعر شاب من الأطراف إلى بيروت.

أن يأتي دفعة واحدة، وأن يجد نفسه في قلب المدينة التي كان قد حفظ مغامرتها في الحداثة وفي الشعر وفي النظر إلى الحداثة وإلى الشعر أيضاً، وأن يكون قد تدرّب على هذا المجيء بقراءة ما كُتب في هذه العاصمة الذهبية، وما خاضه شعراؤها وكتّابها وفنانوها في مجلاتها وصحفها.
نعم يا عزيزي، لقد حلم هذا الشاعر بمدينتك وبمزاج مدينتك التي حظيت بموهبة أن تتسع لشعراء يأتون إليها من الجوار، أو يكتفون بإرسال قصائدهم لتنشر في صحفها، أو يرسلون دواوينهم لكي تُطبع لدى ناشريها. مدينة ظلت تغوي الآتين إليها من بعيد، وتحتضن نصوصهم وأفكارهم وطموحاتهم، بل إنها سمحت لهؤلاء «الغرباء» بأن يعشقوها ويمتدحوها أكثر من شعراء المدينة «الأصليين»، إلى أن أصبحت للمدينة ذاكرتان وصورتان، واحدة للمقيمين فيها، وأخرى لمن جاؤوها من الخارج.
أفسدْتَ الجملة العربية في
البدايات، ولعبت بمصائر الاستعارات، وقدّمتَ التلعثم على الفصاحة


إلى هذه الذاكرة، وإلى هذه الصورة، كان الشعراء يأتون إلى بيروت. الصورة التي كانت قد تكسرت في الحرب الأهلية وعبث الحروب التالية لها، ولكن الشاعر الشاب كان يحلم بالانضمام إلى فضائها، ومعه مخطوطة ديوانه الأول الذي أجّل نشره في بلاده، آملاً خروجه من مطبعة بيروتية، لأنه اعتقد طوال الوقت أن بيروت ستمنح المخطوطة حياة أفضل تتنفس فيها، كما أن أغلب قصائدها كان مكتوباً بمخيلة شاعر شاب يضع قدماً في أرض البلاد، بينما قدمه الثانية تتأهب للقفز إلى بيروت. وبيروت كانت تعني أشياء وأسماء كثيرة. كانت تعني «مجلة شعر»، و«الآداب»، و«حوار» و «ملحق النهار». وكانت تعني لائحة طويلة من الشعراء الذي صنعت المدينة أسماءهم، وصنعوا هم اسمها أيضاً. وكانت تعني «لن» باكورتك الشعرية التي كان عنوانها وحده مجفّلاً وغريباً مثل أي كتابة لا تأتي من الماضي أو من المتداول.
أصارحك بأني، وكثيرين من أبناء جيلي، كنا منحازين إلى عدد من الشعراء الذين جاؤوا بعد الحداثة التي بدأتها مع أقرانك، وأخذوها إلى حساسية شعرية ملموسة وجزئية ومادية وواقعية أكثر. ولكن ذلك ما كان كافياً لتجنّب الهالة المشعّة التي أحاطت بأسمائكم ولا تزال. ما كان ذلك كافياً لتجنّب تأثير «لن» وقيمتها التأسيسية في قصيدة النثر. أتذكر الآن «لن» بنسخة «الدار الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع» التي لا أعرف بأي طريقة وصلت إلى مسقط رأسي، أو لعلها وصلت إلى حلب، حيث كنا مجموعة شبان سوريين يفكرون في قصيدة لائقة بالمستقبل. أتذكر بيان قصيدة النثر في مستهلّها. وأتذكر الدواوين التي تلته، ثم «خواتم» التي نُشرت أولاً في مجلة «الناقد». كل ذلك كان جزءاً من صورتك كشاعر خلط الرّقة باللعنة، وحلم بكتابة قصيدة كاملة من الكلمات المنفردة، ومن الكلمات المزحزَحَة عن معناها القاموسي، ومن أشباه الجمل، ومن التأتأة والتلعثم، ومن االسطور الناقصة. قصيدة تدين للتعذُّر لا للاستطراد.
كانت «لن» تسبقك إلينا، وتحوّلك إلى هالة خالصة، لا إلى شاعرٍ تطوّقه مثل هذه الهالة فقط. كنتَ كذلك حين كنت تتردد كرئيس للتحرير إلى مكتبك في الطابق الثامن لجريدة «النهار». إلى هناك، سيصعد الشاعر الشاب، ويُفاجأ باستقبالك له على الباب. سيهديكَ نسخة من مخطوطته التي كانت قد صدرت وقتها. أنت تتصفحها بسرعة، وتمتدح سطوراً فيها، وهو غارق في فكرة أنه جالس بصحبة الاسم الذي قرأه برهبة البدايات.
نعم هي صحبة الاسم التي ستحدث لاحقاً، وستستمر ثماني سنوات في الجريدة التي أنتَ وأنا عملنا فيه معاً. وهي ما بدأتُ به هذه الرسالة على أمل أن أكملها، ولكن ليس قبل أن تعرف كم أنا مدينٌ لتلك الصُّحبة بأشياء قد لا تخطر لك. نعم لا يزال صعباً تجنّب إحساس الشاعر الشاب الآتي من الأطراف تجاه معلم كبير. إحساسٌ حرصتَ أنت على أن تطرده دوماً في أحاديث (قليلة على أي حال) تبادلناها في أروقة الجريدة ومكاتبها.
«إنني حقاً متلعثمٌ»، كتبتَ هذه الجملة في «لن»، وها أنا أستعيدها لتلائم تلعثمي. «أنسي وأنا عملنا في جريدة واحدة»، أقولها الآن لذاك الشاعر الشاب الذي يكتب لك هذه الرسالة لكي تكون مدخلاً لاستعادتك في الذكرى الأولى لغيابك. سأستعيد عبارتكَ المتعذّرة والشاقة في «لن» و«الرأس المقطوع»، وأصادقُ على وصف عباس بيضون بأنهما كانا «ورشة شعرية» لم تُستنفد إلى اليوم، إلى جانب أنك بعدهما تجاوزت «تعذّر القول» إلى قصائد أكثر تخففاً واستطراداً وفيها قليل أو كثير من الغناء والطراوة. سأقول كما قال كثيرون إن «ماضي الأيام الآتية» هو كتابي الشعري المفضّل، وإن «الشيطان» الذي كنتَهُ في دواوينك الأربعة الأولى غلَبَتْهُ «الرِّقة» في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». الرِّقة التي ستجعل قصيدتك المتوترة والضارية تنكسر وتتصدع في بعض المواضع. التصدعات والشقوق كشفت الأحشاء الثمينة لنبرتك الهجومية والشرسة، بينما راح يعلو الغناء الخافت الذي لطالما أجّلْتَهُ. غناءٌ سيسهل تحويله لاحقاً إلى نثرٍ مشعّ في «خواتم». لقد غلبتْكَ الرِّقة، ولكنها لم تفلح في انتزاع لغتك المتوثبة ومخيلتك المتوهجة ونظرتك الشابة إلى العالم. كانت «خواتم» أشبه بقصائد مسترخية ومسترسلة من دون أن يغيب عنها غضب الشاعر وشخصنته وانحرافاته عن السياقات العمومية. كانت نصوصاً في الحب والشعر والسياسة واللغة والموسيقى والتاريخ والجمال… والموت، ولكنها لم تكن يوماً حكمةً باردةً أو قولاً مأثوراً. في «خواتم»، تحدثتَ مع القارئ/ القارئة كصديق/ صديقة. أفسدْتَ الجملة العربية في البدايات، ولعبت بمصائر الاستعارات، وقدّمتَ التلعثم على الفصاحة، والركاكة على الجزالة، ثم خطر لك أن تكشف هشاشتك وضعفك وإنسانيتك المعطوبة.
نعم عزيزي أنسي. لقد مرت سنة كاملة على انقطاعك عن المجيء إلى الجريدة، وسنة مماثلة على انقطاعك عن كتابة «خواتم» كَ الأسبوعية، ولكن جملتك لا تزال محتفظة بشبابها ومشاكستها وهجوميتها. جملة تحتفظ بحق الصمود أمام الزمن. جملة طرية ومتوهجة سيظل بُخار الجودة يتصاعد منها كرغيفٍ ساخن.