مازن معروف *عزيزي أنسي،
كَوني أكتب لك هذه الرسالة بوصفك ميتاً، سأدخل مباشرة في القصة:
في صغري كان خطي رديئاً. لم يكن أبي يفهم أي شيء مما أكتبه، ولا أمي. كذلك الأساتذة. واجهوا صعوبات جمة في المدرسة. ولأن ذاكرتي ضعيفة، فقد أضحيتُ أنا نفسي عاجزاً عن تذكّر ما أكتب. أنظر إلى الورقة ساعات وساعات في البيت، وأبي يصفعني على رأسي من الخلف، وأمي واقفة بصمت ويداها على خصرها لكني لا أتهجأ سوى اسمي وبعض الكلمات القليلة.

ثم وجدوا قملاً في شعري وأوساخاً في سرّتي، فطُردتُ نهائياً من المدرسة. لم يُحدثْ الأمر فرقاً كبيراً، فبسبب خطي الرديء لم يكن عندي صديق واحد في المدرسة، لكنني أودِعتُ بعدها «دير الصليب» لأن الصفعات على مؤخر رأسي تركت فيّ خللاً.
أبي أحبِطَ كثيراً، وأصبح منذ تلك اللحظة يعاني آلاماً في صدره، لكنه لم يصب بنوبة قلبية على الإطلاق حتى الآن على الأقل. فهو أرادني أن أصبح شاعراً. ولم يسجّلني في تلك المدرسة بالذات إلا لأنّ عدداً لا بأس به من خرّيجيها صاروا فيما بعد شعراء. وأنا لأنني أحبُّ أبي، رغم قسوته، عقدت العزم على أن أمتهن، بعد خروجي من «دير الصليب»، مهنة تكون قريبة من الشعر. إيجاد تلك المهنة لم يكن صعباً في الواقع. فالشعر يشبه تماماً أي شيء آخر لا نعرفه جيداً. وأنا محاط بالأشياء التي لا أعرفها جيداً. هذه الحقيقة عندما أدركتُها أصبتُ بالإحباط. فعدَّلتُ خطتي قليلاً. وصممتُ على أن تكون مهنتي لا قريبة من الشعر وحسب، بل أيضا قريبة من شعر يكون جديداً. جديد ومختلف تماماً. شِعرٌ لم يُكتب مثله من قبل.
لا يمكن لنصّاب أن يبكي تأثّراً وهو يمارس حيله على الآخرين

ولهذا كان عليّ أن أبحث عن مهنة لم تحدث من قبل على الإطلاق. صحيح أن بعض الناس يعتبرونني في ما أفعله مختلاً ونصّاباً.، لكنني لا أكترث. فأنا أتحلى بالأمانة بينما أقوم بعملي. حتى إنني أبكي أحياناً تأثراً. لا يمكن لنصّاب أن يبكي تأثّراً وهو يمارس حيله على الآخرين. أليس كذلك؟ المهم أنني وبسبب تعرضي للصدمات الكهربائية في «دير الصليب»، أصبحت حين أغمض عينيّ لا أرى سوى أطفال. أطفال كثر وبأعداد هائلة يتحلّقون حولي. ليس هذا فقط، بل أحدس أنهم صنف آخر من الأطفال. صنف لم يفكر فيه أحد أو يُتوقع رؤيته في أي يوم. فهؤلاء هم الأطفال الذين كان يفترض بهم أن يُولدوا لكن ذلك لم يحدث أبداً.
إما لأن الناس قذفوا داخل واق ذكري أو تناولوا حبةً لمنع الحمل أو لأنهم ببساطة كانوا عاجزين عن إلانجاب أو أجهضوا الطفل. وهكذا وجدتُ مهنتي التي كنت أبحث عنها، إذ إن ما أفعله في الواقع هو أن أجعل الناس يرون هؤلاء الأطفال.
ليس هذا فقط، بل أن أدلّهم من بين الحشد الهائل على الأطفال الذين كان يفترض بهم أن يولدوا من صلبهم. وهذا شيء لم يراودهم حتى في أكثر أحلامهم تألقاً. أعترف بأن الأمر يصيبهم بصدمة. بصعقة تحت أظافرهم تشلّهم للحظات، فيفقدون القدرة على الكلام رغم الألم الهائل الذي يعتصرهم، كما لو أن أحداً سكب خطأً، حساءً ساخناً فوق قلوبهم. يشعرون لدقائق بأنهم مختلفون تماماً. بأن يداً امتدتْ وحرَّكتْ أرواحهم بالملعقة كما لو أنها «جِلو». أفعل ذلك بأن أغمض عيني، وأمد يديَّ الاثنتين، والناس يفعلون مثلي، يغمضون عيونهم ويمدّون أيديهم وحالما تتلامس أصابعنا، تلمع صورة أطفالهم في رأسي وتسيل إلى رؤوسهم. رجال ونساء بجميع الأعمار والمهن، أبدوا اهتماماً برؤية أطفالهم. كان من بينهم رجال شرطة حتى. بعضهم كان مراهقاً، مطلّقاً أو عازباً. عجوزان متزوجان منذ سبع وأربعين عاماً، كان لديهما صبي وحيد فُقِدَ في بئر، خرجا من بيتي يذرفان الدموع، إذ لم يسبق لهما رؤية طفلهما الآخر الذي أجهضاه بُعَيد ولادة الأول. ولأول مرة عرفا أن الطفل الذي أجهضاه كان فتاة. كما أن حبيبَين متخاصمين خرجا في غاية السعادة بعد رؤيتهما دزينة الأطفال التي أهدراها، لكني لم أعرف إذا تزوجا بعدها. أتمنى ذلك.
بعض الأزواج رأى أطفالاً من زيجات سابقة لم تتم أو علاقات عابرة وسبَّب ذلك أحياناً شجاراً حاداً بينهم. وآخرون لم يلمع في رأسي أيُّ أطفال من أجلهم. هؤلاء أسفت لحالهم.
كنت أريد لأبي أن يأتي ويغمض عينيه ويلامس بيديه يدي، بل وأن يبقى وقتاً طويلاً على هذه الحال، كي يتسنى له تأمّل كل الأطفال الذين كان يفترض بهم أن يكونوا أشقائي ويصبحوا شعراء ويتحلوا بخط لا يكون رديئاً طبعاً فيكفّ عن صفعي على مؤخر رأسي ولا أدخل «دير الصليب» فترة طويلة ولا ألوذ بعدها
بالفرار.
هذه مهنتي الآن. وأنا لا أتقاضى أي نقود. إطلاقاً. لكنني أضع بين أيديهم بعد التجربة مرّبعاً جلدياً صغيراً مخيّطاً بإحكام وبداخله ورقة.
أطلب منهم أن يحتفظوا بها حتى في القبر، إذا ما كانوا فعلاً راغبين بلمّ شملهم مع أطفالهم المفترضين في الفردوس. وهنا يقدّمون لي مالاً. عرفان بالجميل، كما يقولون. أعترف بأنني في هذا الجزء نصّاب. فالورقة التي داخل المربع الجلدي ليست إلا قصاصة من أوراق دفاتري المدرسية التي لا أزال أحتفظ بها. وعلى الورقة ليس هناك أي شيء بالطبع سوى كلمات بخطّي، كلمات أنا نفسي عاجز عن قراءتها أو فهمها. هذا كل شيء عن مهنتي التي أحب أن أعتقد أنها تشبه شعراً لم يُكتَب مثله من قبل.
* شاعر وصحافي فلسطيني