ياسين رفاعية *كلما نظرت إلى صورة أنسي الحاج على طاولة الكتابة، لا أصدق أن هذا الرجل ذهب بغمضة عين، كان مليئاً بالحياة قبل أشهر. كان يتصل بي وأنا انتظر إجراء عملية خطيرة لي مطمئناً عليّ ولم أكن أعرف أن الرجل كان يحتضر. بعد رحيله المفاجئ، اتصلت بابنته ندى معزياً، فأرسلت لي على هاتفي هذه العبارة: «عزيزي ياسين، كان أبي يحبّك كثيراً». وهذه الشهادة التي لم أمحها عن هاتفي حتى اليوم، كانت قليلة من كثير. إذ امتدت صداقتنا لأكثر من نصف قرن لم أسمع منه كلمة نابية بحق أحد من الناس، كانت أخلاقه مميّزة حتى لتحسب أنها أخلاق ملاك، واذكر بهذه المناسبة عبارة قالتها زوجتي الشاعرة الراحلة أمل جرّاح بأنّ «شعر أنسي الحاج يشبه لغة الرسُل» ولم تبالغ.

لغته كانت تختلف كثيراً عن لغة جيله، وكان منفرداً، حتى في الأفكار السياسية التي كانت يكتبها في ملحق «النهار» التي جُمعت في ما بعد في مجلدين، ونأمل أن تجمع «الأخبار» ما كتبه في صفحتها الأخيرة، في مجلد آخر، لأن كتاباته لا يمكن أن تذهب هدراً.
أذكر في هذه المناسبة أنّ أمل جراح قالت إنّ أكثر ما خسرت في حياتها رسالة من أنسي كتبها لها بخمس وعشرين صفحة، بعد لقائه بها يوم جاءت تتسلم قيمة الجائزة عن روايتها «الرواية الملعونة» في مسابقة «الحسناء».
إنه الموت، يا له من نهاية، برمش جفن، كأن شيئاً لم يكن... يا لها من حياة!

وقتذاك كان أنسي رئيساً لتحريرها، وكان انطباعه عنها ما يشبه الشغف، وعندما عادت إلى دمشق، كتب لها تلك الرسالة، وبعثها عن طريقي لأفهم صدق طويته. لم أفتحها في ذلك الوقت، حملت المغلف الذي جاءني في البريد، إلى أمل، نظرت إليه، فقد كان سميكاً. فدهشت وقالت: ماذا فيه؟ وفتحت الرسالة وأخذت تقرأها فدمعت عيناها، وعندما انتهت قالت لي: هل تقرأها؟ قلت: إنها تعنيكِ أنت. قالت: لا. خذ واقرأها. إنّها لغة رسول من هذا العصر، قرأتها وأشرت إليها في مقالة لي نشرتها في جريدة «الغاوون». إذ اذهلتني في حب خال من الدنس، لامرأة سحر أنسي بجمالها، دائماً، حتى كان أول من اقترح على الاستاذ غسان تويني أن تتبنى جريدة «النهار» إرسال أمل إلى هيوستن لإجراء عملية لها في القلب على أيدي الطبيب اللبناني الأصل مايكل دبغي، وهذا ما كان.
احتفظت أمل بهذه الرسالة، وكات تعيد قراءتها باستمرار. وعندما باع والدها البيت العربي الذي كانت تقيم فيه أمل قبل مجيئها إلى بيروت، اشترته شركة ليحل محله بناية عالية، ففقدت أشياء كثيرة في البيت، من ضمنها صندوق نحاسي صغير أصفر، وله قفل صغير تقفله أمل وتفتحه، لأن فيه كل خصوصياتها. فقد الصندوق مع رسالة أنسي، ومع ما فقد، فكأنها فقدت ولداً من أولادها. عندما ماتت أمل عام 2004، جاءني أنسي معزياً بكلمات عبرت عن صدق محبته لها، دمعت عيناه وبكينا معاً. إنه الموت، يا له من نهاية، برمش جفن، وبطلقة من مسدس كاتم للصوت، كأن شيئاً لم يكن... يا لها من حياة!
* روائي سوري