يعدّ محمد خير من الأسماء المعروفة في سماء الصحافة أكثر من الوسط الأدبي. ربما يعود ذلك إلى تميزه الصحافي ومقالاته التي غالباً ما تبحث في زوايا يغفل عنها كثيرون، وربما لأنه مقل في النشر الأدبي. لخير اصدارات سابقة في الشعر والقصة القصيرة والرواية، لكننا لا نعرف إن كان يصح أن نطلق عليها منجزاً أدبياً أم لا. هذا لا يمنع أن نميز صوت محمد خير الشعري من بين أبناء جيله والأصوات المصرية، بتجاوزه المبكر لخامة الاشتغال على القصيدة اليومية، أو القصيدة المبنية على التفاصيل اليومية، التي تتميز بها «قصيدة النثر المصرية» عموماً، باستثناء أسماء اثبتت زاويتها الخاصة في الاشتغال على القصيدة. قليلة هي الدواوين الشعرية التي تبدأ بها ولا تستطيع تركها.
يحدث هذا مع «العادات السيئة للماضي» (الكتب خان) الذي صدر أخيراً في مناسبة «معرض القاهرة الدولي للكتاب». حالما يبدأ القارئ بالقصيدة الأولى، يدرك أن الشاعر قد وضع له طُعماً لا يقاوَم للدخول في عالمه وعوالم عزلت، وللتعامل مع تشنج ذاكرته وقراره بالتخلص منها قصيدة بعد قصيدة. لا نعرف مدى علاقة خير بالسينما، لكن الديوان يتضمن نصوصاً مشهدية متكاملة شخوصاً واضاءة وحركة وتأثيرات صوتية وخدعا بصرية وفق أوامر الشاعر، كما نقرأ «اتخذتُ فندقاً بحرياً/ وجعلت شرفتي/ منخفضة جداً/ وقريبة/ حتى إنني/ كلّما قلّبت صفحة/ كنت أبلل إصبعي/ في الموج». كان هذا مدخلا لعوالم خير الشعرية، التي بدأت بالبحر، ولن تنتهي بغرفة متداخلة معه. ليس بالضرورة أن تكون الغرفة غرفة، ولا أن ما يتحدث عنهُ هو الاصبع المبلل بموج البحر، ولا أحد يعرف ما هو الكتاب الذي يقلّبهُ، لكنها الصورة التي استطاع أن يلتقطها بصبر كبير، عبر تجميع عناصرها المبعثرة في ركن التصوير الضيق، ومقدرته على تثبيتها لحين اقتناص الومضة المناسبة للقصيدة.

يبدع في اختزال الجملة للحد الأقصى من التكثيف
يقتنصها في توقفات قصيرة تُعدّ مفصلاً من مفاصل صراعنا مع الاسئلة، وتشبه كثيراً توقفات نيرودا أو بيسوا، نرددها من دون علمنا بأسباب نزولها، ولا ما يجب علينا فعله بعد قراءتها، حين يقول «كشرطيّ مرور/ أشيرُ للأيام/ كي تمرّ»، أو عندما يطرح حيرتهُ من عدم معرفته سبب تفكيره في الموت، بمجرد شعوره بحبه لها: «وجهي عابس؟/أحبك/ فأفكر في الموت/ ولا شيء يفسر ذلك».
في معظم النصوص القصيرة، كان العنوان بيتاً ضمنياً لبداية مشهد، لا اشارة إلى مضمون القصيدة في العموم. وهذه التقنية أيضاً جاءت متجانسة تماماً مع الحوارية الذاتية التي بدأها الشاعر مع نفسهِ وذكرياته وموجوداته الآنية التي عليه أن يتعامل معها في غياب الماضي. يبدو ديوان «العادات السيئة للماضي» امتداداً لديوان «هدايا الوحدة» (دار ميريت ــ 2010) للشاعر، مع ارتفاع «أنا» المشهد لصالح الجو العام للقصيدة. لم يختلف نَفَس خير الشعري كثيراً عن ديوانهِ السابق سوى أنه أصبح أكثر إدراكاً لأدواتهِ والتقاط اللحظة المناسبة لصوره القصيرة. ساعدته كثيراً في ذلك شعريته الغنائية التي يبدع بها، اسوة بـ «قصيدة النثر»، في اختزال الجملة للحد الأقصى من التكثيف. ومن الملاحظ أن التكثيف في القصيدة لا علاقة له بمرجعية الشاعر سواء أكان سارداً أو ناثراً. وربما يساعد اتقان السرد الشاعر، في كثير من الأحيان، في تجاوزه ذلك في القصيدة والعكس يحدث أحياناً. ولكن هل التكثيف هو الغاية الوحيدة للكتابة الشعرية، للوصول إلى جماليات اللحظة الشعرية؟ هذا يعتمد أساساً على قدرة الشاعر نفسه في توظيف هذا التكثيف والاختزال ليكون مدخلاً ضيقاً لعالم أوسع بكثير مما نهيئ أنفسنا له. فهل نجح خير في ذلك!؟ بلغة سلسة وصور مزدحمة بالألوان والتفاصيل الحركية، جاءت «العادات السيئة للماضي» لصالح العادات الجيدة في الشِعر. لن يدعنا محمد خير ننام وهو ينقلنا من قصيدة إلى أخرى مثل بيت البحر تماماً: «أنقل الغبار من غرفة لأخرى/ أضبطٌ الساعات/ من وقت لآخر/ أفاجيء الأدراج والخزائن/ أزعجُ الأشياء/ كي لا ينام البيت».