ترجمة وتقديم محمد الحموي
في هذا اليوم 24 نيسان (أبريل) من العام الماضي، توفي الشاعر البولندي تاديوش روجيفيتش عن اثنين وتسعين عاماً أمضى جلّها في الكتابة عن ويلات الحرب العالمية الثانية التي لازمت شعره ومسرحه ومقالاته. ولد روجيفيتش عام 1921 وبدأ بنشر مجموعاته الشعرية منذ أربعينيات القرن الماضي، إضافة إلى مسرحيات عدّة أشهرها «بطاقة العضوية» التي تنتمي إلى مسرح العبث، وفيها تأثيرات واضحة من صموئيل بيكيت ويوجين يونيسكو. كان جندياً في الحرب العالمية الثانية، وحارب ضد ألمانيا النازية، ونشر بعدها مباشرة مجموعته الشعرية الأولى «أصداء الغابة». توالت مجموعاته عبر أكثر من خمسة عقود، مانحاً الشعر البولندي شكلاً جديداً، وخصوصاً بعد مأساة مقتل شقيقه على يد الغوستابو عام 1944، وهي «المحنة التي لا يمكن لأي كان أن يكتب شيئاً أصيلاً بعدها»، بحسب ما قال قبل رحيله بعام واحد. اتُّهم روجيفيتش بالعدمية، وبالتأثر بالشعر الغربي وتحديداً بإليوت وباوند ورسل، إلا أن هذا لم يمنع النقاد من اعتبار مجموعتيه الشعريتين: «قلق» (1947)، و«القفاز الأحمر» (1948) من الأعمال التي أحدثت ثورة حظيت بالاستمرار لدى أكثر من جيل شعري، وخصوصاً أن الحداثة في شعره لم تكن مرجعيتها في التجريب المعرفي والنظري الواعي، بل كانت كتابة واضحة لامستْ خشونة الواقع ولم تتهرب من التقرب للناس.

يعد تاديوش روجيفيتش من أشهر شعراء بولندا إلى جانب تشيسواف ميووش (1911-2004)، وزبيغنييف هيربرت (1924 – 1998)، وفيسوافا شيمبورسكا (1923 – 2012). ويوصف شعره بالبساطة والسوداوية معاً، وهما عنصران ساهما في ترجمة أعماله إلى أكثر من خمسين لغة حية، وفي حصوله على جائزة «الشعر الأوروبية» (2007) وجائزة «غريفين» (2012).
هنا ترجمة لعدد من قصائده:
الناجي الوحيد
عمري أربعة وعشرون عاماً
قادوني إلى الذبح
ونجوتُ.

■ ■ ■

ما يأتي ليس أكثر من مقاربات فارغة:
الإنسان والوحش
الحب والكراهية
الصديق والعدو
الظلمة والضوء.

■ ■ ■

طريقة قتل البشر والوحوش هي نفسها
رأيتُ ذلك بأم عيني:
شاحنات متروسة بأجساد مقطعة
لرجالٍ لم ينقذهم أحد.
الأفكار مجرد كلمات
الفضيلة والجريمة
الحقيقة والكذب
الجمال والقبح
الإقدام والجبن.

■ ■ ■

للجريمة والفضيلة نفس الوزن
رأيتُ ذلك بأم عيني:
رأيتُ رجلاً فيه من الجريمة بمقدار ما فيه من الفضيلة.

■ ■ ■

أبحثُ عن معلمٍ ومُلهم
يردّ لي نظري وسمعي ونطقي
يعيد لي تسمية الأشياء والأفكار
يفصل لي الظلمة عن الضوء.

■ ■ ■

عمري أربعة وعشرون عاماً
قادوني إلى الذبح
ونجوتُ.
إثباتات
لن يصحح الموت
بيتاً شعرياً واحداً
لكنها ليست مراجِعةَ نصوص
ولا متعاطفة
هذه السيدة المحرّرة.

■ ■ ■

التصوير الشعري الرديء لا يموت

■ ■ ■

الشاعر الرديء الذي يموت توّاً
هو شاعر رديء ميت.

■ ■ ■

الشاعر المملّ ممل حتى بعد موته
والأحمق يواصل ثرثرته
حتى من تحت القبر.

■ ■ ■

في منتصف الحياة
بعد نهاية العالم
وبعد أن متُّ
وجدتُ نفسي في منتصف الحياة
خلقتُ نفسي
كوَّنتُ حياتي
كوَّنتُ الإنسان والحيوان ووجه البسيطة.


■ ■ ■

هذه طاولة كنت أقول هذه طاولة
وعلى الطاولة خبزٌ وسكين
وظيفة السكين أن تقص الخبز
بينما يقتات الناس على الخبز.

■ ■ ■

على المرء أن يحب أخاه الإنسان
هذا ما كنتُ أعلمه لنفسي ليل نهار
ماذا على المرء أن يتعلم؟
أجبتُ الحب.

■ ■ ■

هذه نافذة كنتُ أقول هذه نافذة
وأمام النافذة حديقة
في الحديقة أرى شجرة تفاح
تزهر شجرة التفاح
تتساقط البراعم
تتشكل الفاكهة
تنضج بينما يلتقط أبي تفاحةَ
الرجل الذي يلتقط التفاحة يكون أبي
كنتُ جالساً على حافة البيت.

■ ■ ■

العجوز التي تجرُّ عنزةً بحبل
هي ضرورية أكثر
بل وأغلى من عجائب الدنيا السبع
وكل من يشعر أنها غير ضرورية
متهم بجريمة ضد الإنسانية.

■ ■ ■

هذا رجل هذه شجرة
هذا خبز.
يأكل الناس كي يعيشوا
كنتُ أكرر على نفسي
الحياة البشرية شيء مهم
الحياة لها قيمة عظيمة
قيمة الحياة
تتجاوز قيمة كل ما صنعه الإنسان
الإنسان كنز عظيم
كنتُ أكرر على نفسي بعناد.

■ ■ ■

هذا ماء كنتُ أقولُ هذا ماء
كنتُ أمسِّدُ على الأمواج بيدي
وأحادث النهرَ
الماء
يا هذا الماء الطيب
هذا أنا.

■ ■ ■

تحدّث الإنسان إلى الماء
تحدث إلى القمر
إلى الأزهار إلى القمر
تحدث إلى الأرض
إلى الطيور
إلى السماء
كانت السماء صامتة
كانت الأرض صامتة
وكان إن سمع صوتاً يطير من
أرضٍ من ماءٍ من سماء
يعرف أنه
صوتُ إنسانٍ آخر.
صوت
يتكاثرون ويعذب بعضُهم بعضَهم الآخر
أحياناً بالسكوت وأحياناً بالكلام
كما لو أن لهم أن يَحْيَوا
حياةً أخرى.

■ ■ ■

يفعلون ذلك
كأنهم نسوا أن
أجسادهم محكومة بالموت
وأن أحشاء الإنسان
تعطب بسهولة.

■ ■ ■

لا يرحمون بعضهم البعض
هم أضعف من نباتات وحيوانات
وتقتلهم كلمة
تقتلهم ابتسامة أو نظرة.
تحولات
يدخل ابني إلى الغرفة
ويقول
«أنت نسرٌ وأنا فأرة»

■ ■ ■

أضعُ كتابي جانباً
أجنحة ومخالب
تنمو مني.

■ ■ ■

الظلال المشؤومة تتسابق على الجدار
أنا نسرٌ
هو فأرة.

■ ■ ■

«أنتَ ذئب وأنا عنزة»
مشيتُ حول الطاولة
وأنا ذئب
تلمع النوافذ كالأنياب
في الظلام.
بينما يركض صغيري
إلى أمه
رأسه مخبأٌ في دفء ثوبها.
زيارة
لم أستطع التعرف إليها
عندما أتيتُ إلى هنا
أفهم تماماً لماذا أستغرقَ
ترتيبُ الزهور كل ذلك الوقت الطويل
في هذه المزهرية الغبية.

■ ■ ■

«لا تنظر إليَّ بهذه الطريقة»
تقول لي
بينما أمسدُ شعرها المعقوص
بيدي الخشنة
«قصّوا شعري» تقول
«أنظر ماذا فعلوا بي»
هذا الربيع الذي بلون السماء
يخفقُ مجدداً تحت
جلد عنقها الشفيف
بينما تحبس دموعها.

■ ■ ■

لماذا تحدّقُ على هذا النحو
ربما يجب أن أذهب
أصرخُ بكلامٍ أقل.

■ ■ ■

أغادرُ
وفي حلقي
ورمٌ.