يُعيدنا شعر محمد الفيتوري (1936 ــ 2015) لا إلى الزمن الذي كُتب فيه في خمسينيات القرن الماضي واستُكمل وتم تطويره في ستينياته وسبعينياته، بل إلى زمن أسبق من ذلك بكثير، إلى زمنٍ كان فيه الشاعر صوت القبيلة والجماعة، ومؤرخ مزاجها الجمعي والثقافي والاجتماعي والوجودي، إلى زمن كان الشاعر فيه نوعاً من نبيٍّ أو زعيم اعتباري تكفل له موهبته وفحولته الشعرية أن يكون على حدة داخل قبيلته، وأن يكون واحداً منها في الوقت نفسه، مع استبدال القبيلة بالوطن السوداني، والجماعة بالأمة العربية وبالعالم الأفريقي.
الفيتوري يشبه ذاك الزمن، ويشبه شعراء تلك الأزمنة القديمة، ولا نحتاج إلى شواهد كثيرة، وهي متوفرة بكثرة لافتة، للدلالة على نوعية الشعر الذي كتبه: «الملايين أفاقت من كَراها/ ما تراها ملأ الأفق صداها/ خرجت تبحث عن تاريخها/ بعد أن تاهت على الأرض وتاها/ حملت أفؤسها وانحدرت/ من روابيها وأغوار قراها/ فانْظرِ الإصرار في أعيُنها/ وصباح البعث يجتاح الجباها/ يا أخي في كل أرض/ عريت من ضياها/ وتغطت بدماها/ يا أخي في كل أرضٍ وجمتْ شفتاها/ واكفهرت مقلتاها/ قمْ تحرر من توابيت الأسى/ لست أعجوبتها/ أو مومياها/ انطلق فوق ضُحاها ومساها».
كانت هذه القصيدة، وغيرها أيضاً، تُدرّس ضمن المناهج الدراسية، وكان التلاميذ يستظهرونها غيباً، وهم يتلونها بحماسة وبسالة تشبه أيضاً الزمن الذي كان يُطلب فيه من الجباه أن تكون عالية، ومن القبضات أن تكون مرفوعة في وجه الاستعمار والظلم والفقر وغياب العدالة. كان الشاعر يخاطب الجموع ويجدها جاهزة وقريبة وملتفّة حوله. وكان الفيتوري ذلك الشاعر الساحر الذي بهر تلك الجموع بإلقائه الجهوري ومهارته في الحصول على إصغاءٍ كامل منهم، بل إنه كان قادراً على استنهاض هممهم وتعزيز آمالهم وجعلهم يصدقون أن غداً أفضل ينتظرهم. كان الفيتوري، مثل سلفه الشاعر الجاهلي، يخاطب قبيلته، ولكنها قبيلة حديثة الآن، ولا يزال باستطاعة الشاعر أن ينطق باسمها وأن يكون لسان حالها. وكانت تلك القبيلة بلده السودان تارةً، وشعباً عربياً تارةً أخرى، وزنوج أفريقيا تارةً ثالثة.
لقد ظل شعر الفيتوري، أو لنقل أغلب شعره، موجوداً هناك. رحيله قبل أيام هو الذي أعاد ذلك الشعر إلى أذهاننا، أو دفعنا لاستعادته، والتلذذ مجدداً بقيمته الغنائية والإيقاعية، ولكن قبل ذلك كله، جعلنا ننتبه أن القبيلة الحديثة التي كان يخاطبها تغيرت وانقسمت وتصادمت مكوناتها، وباتت مهددة بالتشظي والتذرر المذهبي والطائفي. السودان نفسه صار اثنين، والعرب منقسمون، وفلسطين شبه منسية، أما أفريقيا نفسها فصارت مكتفية بحضورها في عناوين دواوينه: «أغاني أفريقيا» (1955)، «عاشق من أفريقيا» (1964)، «اذكريني يا أفريقيا» (1965). جزءٌ من قوة شعر الفيتوري جاءت من الخلطة العربية والأفريقية التي اتقن مزجها في قصائده. دعوته للتحرر من ظلم اللون الأسود عثرت صلتها المباشرة مع دعوته للتحرر، وكان مقطعٌ مثل: «جبهة العبد ونعل السـيدِ/ وأنين الأسود المضطهدِ/ تلك مأساةُ قرونٍ غبرت/ لم أعُدْ أقبلُها لم أعُدِ»، يجد صداه ومساحته في مقطع مثل: «لقد صبغوا وجهك العربي/ آه... يا وطني/ لكأنك، والموت والضحكات الدميمة/ حولك، لم تتشح بالحضارة يوماً/ ولم تلد الشمس والأنبياء». وكان ميسّراً وطبيعياً لكل ذلك أن يحضر في «نشيد الموتى» الذي غناه مارسيل خليفة وفرقة الميادين.
عاش شعر الفيتوري على القضايا الكبرى، وخاطب الجماهير العربية. وعاش هو نفسه في مدن هذه الجماهير، فتنقل بين الخرطوم وبيروت وطرابلس الغرب والقاهرة ودمشق، وألقى قصائده في عواصم عربية عديدة. لقد تضمنت تجربته شيئاً من الصوفية وشيئاً من تأريخ الذات الفردية، واشتغل الشاعر فيها قليلاً على تطوير لغته وتوسيع معجمه الواسع أصلاً، ولكن صاحب «ابتسمي حتى تمر الخيل» (1975) ظل شاعر الغناء العالي والدراما المتصاعدة. لن نحاسب شاعراً من جيل أسبق بمعايير الشعر الذي كُتب بعده أو بما يُكتب اليوم، ولكن الفيتوري حتى بين مجايليه ومن سبقوه من الرواد، كان شاعراً من الصف الثاني. نتحدث هنا عن القيمة الشعرية العارية، وليس عن انتشار شعره وذيوع صيته في مرحلة معينة. الفيتوري لا يُقارن بالسياب أو بلند الحيدري أو صلاح عبد الصبور لناحية الجودة الشعرية. ربما يكون أقرب إلى نازك الملائكة التي لجمت تجربتها بنفسها وأوقفتها عند بدايات «شعر التفعيلة».
الفيتوري جزء من شعرنا، وجزء من وجداننا الشعري. كان حاضراً إلى جانب شاعرين آخرين من السودان هما: محي الدين فارس (1936 – 2008)، وجيلي عبد الرحمن (1931 – 1990)، ولكنه تفوق عليهما في الشهرة والحضور الجماهيري.
نتذكر الفيتوري في لحظة رحيله، ونتنبه إلى أنه رحل في زمن تخلّى عنه وعن شعره، ولعل هذا يضيف طبقة من الأسى الإنساني على غيابه، إلا أن ذلك لا يسري على تجربته الشعرية التي عاشت في مكانٍ آخر، وتنفست في زمنٍ سابق، وربما «رحلت» قبل رحيل صاحبها.