«كان المراسل يخطط لإقناع المشاهدين على الضفة الأخرى من العالم بأن هذا الاحتلال أزاح الغبار عن المواهب التي طمرها النظام السابق وأن بغداد اليوم تنهض مثل «عنقاء ضاقت برقادها الطويل...». عبارة تنتمي بمضمونها إلى الواقع الثقافي العراقي، نقرأها في رواية «سرير في مومباي» (دار ميزوبوتاميا) للعراقي طامي هراطة عباس. تبرهن العبارة كثافة المنتوج الروائي العراقي الذي سجل حضوره المؤثر بعد الاحتلال (2003) حتى الآن، وما «سرير في مومباي» إلا واحدة من هذه الروايات. «سرير في مومباي» التي تتناول مكابدات الإنسان العراقي بمختلف مستوياته الفكرية والاجتماعية، ضمن زمن سردي يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، لا تحاول المقارنة بين زمنين؛ زمن الديكتاتور وزمن الاحتلال. تحاول دراسة التحولات الشخصية الحادة التي طرأت على الشخصية العراقية تأثراً بالتحولات السياسية والتقلبات التي شهدها العراق.
يقدم لنا المؤلف دراسة مكثفة حول التحولات الشخصية لشخوص روايته، من دون أن يضعها تحت مجهر الانتقاد أو التقييم، بل يعرضها للقارئ كما هي منذ بداياتها، وإن بشكل مقتضب، ليصل بها إلى حالة الذروة في التغيير. وهو بهذا يقدم لقارئه نماذج تندرج في دراسة أنثروبولوجية مبسطة لتطورات الإنسان العراقي على مدى ثلاثة عقود. الرواية بواقعيتها، تكشف عن مكنونات وتحولات بطلها عباس هادي الذي كان شيوعياً، وموظفاً صحياً في أحد مستشفيات كربلاء الذي كان متزوجاً بامرأة عاقر يحبها.
صار الرجل سمسار عقارات بعدما ترك وظيفته، وتزوج امرأة أخرى بذريعة الذرية، لكنه بقي متمسكاً بإنسانيته وأفكاره السابقة، وإن كانت محصورة ضمن تفكيرة الداخلي. تظهر أفكار هادي حديثاً داخلياً كأنه يعيش غربة عميقة. هو الذي كان يحلم بسقوط نظام الديكتاتور في العراق، ليقتص عن طريق القانون، من قاتل والده الرجل العجوز الذي مات في السجن نتيجة التعذيب من قبل ضابط الأمن خيون. لكن بعد سنوات من سقوط النظام، يتنازل عن حقه وحق أبيه مجبراً، لأن خيون صار عقيداً مسؤولاً عن أمن الحُكّام الجدد. «الظلم أصبح أكثراً ظلماً، والإنسان البسيط صار أكثر ضعفاً» إشارة تجود بها الرواية في أكثر من مكان.

مكابدات العراقي على مدى أكثر من ثلاثة عقود

«سرير في مومباي» عنوان مؤلم، خصوصاً حين يكتشف القارئ، أن ما من عراقي سبق أن هُجَّرَ من العراق وعاش المنفى، ثم عاد إلى بلده، إلا وأصيب بصدمة الواقع العراقي المزري حال عودته إلى بلده، ليعود ثانية بقرار مكسور وروح خائبة وقد اختار منفاه مكاناً يقضي فيه سنوات عمره الخائبة. هذه الصورة نتلمسها في أكثر من شخصية، تحديداً محسن كريم الذي عاد إلى بلاده فرحاً بعدما عاش المنفى لأكثر من ربع قرن، وما هي إلا فترة بسيطة حتى يقرر الفرار مجدداً ليكتفي بسرير على سطح بيت قديم وسط مدينة مومباي الهندية. وبهذا تشير لنا الرواية وبشكل واضح إلى أنَّ عراقيي المنفى، ممن كانوا مناهضين للنظام الزائل بفعل الاحتلال، تلمسوا غربة مضاعفة حين عادوا إلى بلدهم. في السابق كانوا محاربين، أما اليوم فهم أكثر من مهمشين. «هناك عصابة «حزب الدعوة» التي تسيطر على زوايا الحياة والسياسة في العراق ولا مكان لعراقي آخر بينهم...»، كما جاء على لسان أحد شخوص الرواية. هذ الحالة الطاردة لأبناء العراق ممن عاشوا المنفى، أثرت أيضاً في العراقي الذي ظل داخل العراق ولم يغادره، وها هو عباس يعيش حواراً داخلياً يحاول إقناع نفسه بالتأقلم مع عراقه الجديد.
عواصم ومدن عدة توزع في مشاهد الرواية التي ينتمي خطابها السردي وفكرتها الأساس إلى مصطلح «الوجع العراقي» روائياً. في مومباي، وبغداد، وكربلاء، ثم لندن وطهران وغيرها، عراقيون يحمل كل منهم همومه وقصصه المؤلمة والكوارث التي عاشها، دعاهم المؤلف كي يشاركوه «متعة» العيش داخل العراق الجديد، وليتلمسوا أحلامهم المؤجلة التي ادخروها لزمن يشهد سقوط الديكتاتور. يكتشف القارئ أن كل من يرفض الانتماء السياسي إلى حزب السلطة يكون الترحيل الطوعي مصيره، كأن الزمن يعيد نفسه، باستثناء أزهار هادي شقيقة عباس اليسارية السابقة وزوجة الشيوعي الهارب من نظام الديكتاتور. انضوت أزهار تحت عباءة حزب ديني في لندن وارتدت الحجاب وأقامت الصلاة وجاءت إلى العراق لتكون مرشحة عن حزب إسلامي. هكذا تظهر الرواية فوضى العراق، والموت في زمن الديكتاتور ثم فوضى مضاعفة وموتاً مضاعفاً في زمن الاحتلال. موت العراقي بات ماركة مسجلة تمكن قراءتها بوضوح في عيني وملامح الإنسان العراقي، ولكن يبقى سؤال الرواية قائماً بمرارته وهي تتحدث عن عراق جديد، هذا البلد المصاب «بسفلس القوميات وسيلان الطائفية». بلد لا يعرفه حتى أبناؤه، الذين لطالما سألوا أنفسهم «كيف انزلقنا إلى هذا المصير، أي نمط من الرجال الصامتين كنا، ومن يرمم هذا الخراب المخيف!؟».