يكاد يبدو أيّ إنجاز أدبيّ في ظل الحرب فعلاً عبثياً، فكيف لو كان الإنجاز سورياً في حرب تكاد تكون بدورها الفعل الأكثر عبثية منذ عقود. الإنجاز ليس روائياً، وهذا يُضيف درجةً من الجنون إلى العبثيّة في ظل الشّبق الروائيّ المهيمن على الساحة الأدبية السورية والعربية في آن واحد. الإنجاز شعريّ: هذه هي قمة الجنون دون أدنى شك. الشعر رديف الغناء، وهما فعلان مناقضان للحرب بالضرورة. وحين يكون عنوان إحدى القصائد «حب .. و(راء) طارئ»، مترافقاً مع مقطعٍ يهمس بألمٍ يعادل ألف صرخة: «مرةً.../ لن نغني عن الحب،/ كي نوقف الحرب.../ بل كي نغنّي، فحسبْ»، سنكون أمام موقفٍ واضحٍ من هذه الحرب وهذا العبث. موقفٌ شديد الوضوح، وإنْ كان يبدو مُكرراً للوهلة الأولى، من شاعرٍ أوقف النشر ثلاثة عشر عاماً، ثم عاد يغنّي في الحرب. تنبع أهمية مجموعة صهيب عنجريني الشعرية «ليس عليك معانقة العشب» (دار «الحوار») من أنّ مؤلّفها لا يدّعي تقديم «فَتْحٍ شعريّ» في الكتاب. تبدو القصائد كأنها نشاط حياتيّ آخر في أيامنا. نشاط كالأكل والشرب والبكاء والضحك. ولو أضفنا الروح العبثيّة الساخرة التي تميّز كاتبها في الحياة الواقعية، سنكون أمام نشاط حياتيّ قد يبدو اعتيادياً، لكنه يكتسب ألقه من كونه مُضاداً للموت اليومي المجانيّ. كلّ حياةٍ في الكتاب (وفي الواقع) هي محاولةٌ لهزيمة الموت.
نقل الشاعر روح قصيدة النّثر إلى التفعيلة
ستختلف قراءة كلّ متلقٍّ لهذه المجموعة بالضرورة، لأنّ القصائد تُعيدنا إلى مشاعر شخصيّة تخصّ كاتبها ولكنّها ستتّحد أثناء فعل القراءة وبعدها بمشاعر تخص المتلقّي، وهنا يبدأ تأثير جرعة الشعر المضبوطة بإتقان. هنا يعود الشعر إلى وظيفته الأساسيّة كفعلٍ ينطلق من الخاص إلى العام. من المشاعر الشخصيّة إلى المشاعر الجمعيّة. من الألم المُفرَد إلى القهر الذي يسكن الجميع. من التفاصيل اليومية إلى «القضايا الكبرى». ينطلق جمال الكتاب من ذائقة الشاعر الشخصيّة التي ستجذب القارئ بنعومةٍ إلى جوّ القصائد فتنتقل دفقة الشعر (وهذه المجموعة تضجّ بالشعر الحقيقيّ الذي افتقدناه منذ زمن) إلى القارئ بحيث تصبح القصائد ــ تدريجاً ــ قصائد تخص قارئها، يصبح عالمُ الشاعر عالمَ القارئ، كونُ الشاعر كونَ القارئ: «أفهم الكون،/ أفهمه مثل ما أشتهي:/ النجوم صديقات أمي،/ الصنوبر ظلّ أبي،/ زقزقات العصافير رجع صداي».
تنبع أهمية المجموعة كذلك من كونها مثالاً على التطوّر التدريجيّ للقصيدة السوريّة من التفعيلة إلى النثر. سيلاحظ القارئ اختلاف اللغة والمفردات والجوّ والروح بين القصائد «القديمة» والقصائد «الجديدة». اختلاف يكاد يصل إلى حدّ التباين التام. تمتد المجموعة على 13 عاماً من الكتابة، وبذا ستكون مثالاً نموذجياً عن التقلّبات الشعريّة التي وسمت المشهد الشعري السوري المتميّز بتوازي قصيدة التفعيلة مع قصيدة النثر. ما يميّز محاولة عنجريني عن غيره من الشعراء السوريين هو أنّه نقل روح النّثر إلى التفعيلة. يكاد الوزن يتلاشى ــ برغم وجوده ــ في القصائد المكتوبة في العامين الماضيين بحيث تصبح القصيدة نثراً لولا القافية التي تُباغت القارئ أحياناً. «ليس عليك معانقة العشب» ديوان شعريّ يضجّ بالتفعيلة في زمن النثر، ويحافظ ــ في الوقت ذاته ــ على تميّز قصائده عن قصائد الآخرين، وهذا يكفي، ولو كمقدّمة، كي يفرض اسم شاعره بين الأسماء الشعرية المهمة السورية التي حافظت على عددها المذهل رغم طغيان زمن الرواية.
تتناوب قصائد المجموعة بين الحب والحرب. حضور مدينة حلب يطغى على جميع المدن الكثيرة التي كُتبت فيها القصائد. يكفي مجرّد قراءة تنوّع المدن كي يُدرك القارئ مدى الفجيعة السوريّة التي تشظّى سكّانها بتشظّي مدنها وعوالمها وأيامها، ليبقى الألم والموت حاضرين فحسب في الحاضر والمستقبل. أما الماضي فيحاول الابتعاد عن الجوّ الكئيب الخانق، لكنه يبدو هنا بمثابة إرهاص أو مقدّمة لما سيأتي. حضور حلب يبقى موجعاً ولو كانت الصور تقليديّة: «وتُشرق في كلّ فجرٍ/ كأعذب ما ينبغي للأميرات،/ تهمس: طالت جدائلي اليوم خمس أصابع،/ واللون زاد بهاءً،/ فـ"بالنار يصفو الذهب"/ تردّد: في البدء كنتُ/ تعال أعلّمك يا موت سرّ الحياة،/ أنا الأم، والبنت .../ واسمي حلب». هنا تنفض الفجيعة كلّ التقليديّة العالقة بالكلمات فتبدو متجددةً بألمها الحارق. وهذه سمة يمكن تعميمها على معظم القصائد القديمة في المجموعة، لكنّها تبقى مع هذا طازجةً بسبب الحساسيّة العالية في روح القصيدة بذاتها، بحيث ترتدي الكلمات رداءً جديداً.
يمكننا ببساطة التقاط تأثير محمود درويش في قصائد عديدة، وهذا أمرٌ متوقّع ويكاد يكون طبيعياً في قصيدة التفعيلة العربيّة المعاصرة. المهم هنا هو محاولة الخلاص من القيد الدرويشيّ الطاغي، وهذا ما يتقنه صهيب عنجريني بدرجاتٍ متعددة في قصائد المجموعة، وبخاصة في قصائد الحب الجديدة التي أبقت تأثير درويش ولكن بصيغةٍ جديدة تخصّ كاتبها. ربما ليس ثمة مفاجأة لو انتبه القارئ إلى أنّ قصائد الحب هي الأفضل والأجمل في الكتاب، لا لأنّ روح القصيدة تتباين عن القصائد الأخرى فحسب، بل لأنّ الحب لا يزال هو الفعل الحياتيّ الأعظم في مواجهة الموت السوريّ اليوميّ. ما يميّز «ليس عليك كمعانقة العشب»، أخيراً، ليس أنها تخاطب قارئاً مفترضاً، بل في أنها همسةٌ لا تخصّ سوى شاعرها، ولكنّها تتسلّل بخفّة إلى أرواح الآخرين لتصبح الهمسة ذاتها همستهم المقهورة.