جلبير الأشقر: متى ينتهي «الشتاء العربي»؟

  • 0
  • ض
  • ض

في كتابه الجديد «أعراض مَرَضية: انتكاسة الانتفاضة العربية» (2016 ـــ دار الساقي ــ ترجمة عمر الشافعي)، يطرح الباحث والمحلل السياسي اللبناني جلبير الأشقر (1951) إشكالية «وصول» المجتمعات العربية إلى الحالة التي هي عليها اليوم. برزت أهمية الأشقر الأكاديمية البحثية منذ أن أصدر كتبه الأولى «صدام الهمجيات» (2002) ثم «الشرق الملتهب» (2004)، ليعود ويغوص في ذلك الإطار البحثي في كتابه المشترك مع المفكر والألسني الأميركي نعوم تشومسكي «السلطان الخطير: السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط» (2007)؛ وصولاً إلى كتابه الحالي.

يعدّ أعراض مَرَضية» محاولة «للإحاطة بجذور الانتفاضة وخلفياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد كتابه السابق «الشعب يريد» (2013 ــ دار الساقي) وفق ما يقول لنا الأشقر، مضيفاً: «هذه المرّة أنا أضيّق نطاق البحث. في السابق، غطينا البلدان الستّة التي حدثت فيها الثورات. أما اليوم، فأركّز على بلدين بصورةٍ خاصة؛ نظراً إلى أهميتهما البالغة. صدر الكتاب الأول بعد انتهاء «المد الثوري» الأوّل. أما كتابي هذا، فجاء بعد مرحلة «الردّة»».
لا يقصد الأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في «جامعة لندن» أبداً بمصطلح «الردّة» الصراعين الإسلامي والعلماني، إذ يراه «إسقاطاً للرؤية الغربية على الصراع في المنطقة». ما يقصده بالضبط هو «مثلاً، النظام السوري يحارب معارضةً دينيةً أكثر منه، ولو أنّ لديه حلفاء دينيين مشابهين لمن يحاربهم». فالنظام ليس حامياً للدين. إذاً هي «ردةٌ» رجعية بحسب الباحث، فـ«مثلاً، النظام المصري السابق الذي جاءت الانتفاضات كي تكنسه، عاد مرتدياً عباءةً جديدة، هي عباءة السيسي، لكن مع الوجوه نفسها أو حتى السلوكيات القديمة». يناقش الأشقر هنا فكرةً إشكاليةً للغاية أن الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي كان رئيساً «ثورياً»؛ بمعنى أن الثورة أحضرته، ثم عادت و«خلعته»، ولا يعتبره «مثالاً عن الردّة» أبداً؛ «فالقوة التي أفردتها الأنظمة الحاكمة في هذه الدولة لا تقل رجعية عنه، لا بل إن بعضها يفوقه رجعية». إذاً تأتي الردّة بهذا المعنى؛ أي ردّة إلى «الرجعية» الأولى التي ثار عليها الشعب في المقام الأوّل.
يقسم كتاب «أعراض مَرَضية» إلى فصلين كبيرين مع مقدمةٍ قصيرةٍ نسبياً وخاتمةٍ تقدّم نوعاً من «الأمل» رغم عنوانها القاتم «الشتاء العربي والأمل». في البداية، يأتي غلاف الكتاب للفنان السوري علي فرزات موضحاً كثيراً من «هواجس» البحث كما الباحث. يبدأ الأشقر بطرح أفكاره في مقدّمة الكتاب عن «سيرورة» الثورة، مؤكداً أنَّ هذا الكتاب جاء بعدما أراد إكمال ما بدأه في «الشعب يريد». يطرح الأشقر إشكالية «الدولة الميراثية» الموجودة بكثرة في الوطن العربي. هي تمتاز «بأنّها دول ميراثية حقاً، ملكية أكانت أم جمهورية وهي تشبه النظام القديم بالمعنى التاريخي الدقيق، منها إلى الدولة البرجوازية الحديثة» مؤكداً على ثلاثية السلطة المتمازجة بين «جهاز عسكري ومؤسساته العسكرية» و«طبقة رأسمالية محددة سياسياً (برجوازية دولة)» و«المؤسسات السياسية الحاكمة» بالتأكيد. ويشير مثلاً إلى أن السعودية التي يسميها «قلعة الرجعية العربية» وفي الوقت عينه «حليفٌ أساسي للغرب»، هي نموذج صارخ عن هذه الفكرة. ينطلق بعد ذلك إلى شرحٍ «سيرورة» الحدث: «إذا أراد أحدنا تلخيص المرحلة بكلماتٍ شديدة البساطة نقول: في البداية كان هناك زمن من الديكتاتورية المرتبطة بالتنمية، بعد ذلك دخلنا في مرحلة إلغاء التنمية وإبقاء الديكتاتورية، وما هو مطلوب حالياً هو إلغاء الديكتاتورية وتجديد التنمية». طبعاً هنا هو لا يخفي نهائياً رأيه «أنّ هذه الأنظمة القائمة حالياً لا يمكنها القيام بذلك البتة، فالتغيير يجب أن يكون جذرياً، وإن لم يحصل فإننا نتجه ناحية كارثة».


عاد النظام المصري السابق
بعباءة السيسي


في الفصل الكبير الذي يتناول الشأن السوري (تقريباً نصف الكتاب)، يتحدّث الأشقر بوضوح، محللاً ما وصلت إليه الأمور، «لقد تعمّد النظام السوري إغراق الثورة السورية بالجهاديين». وهو ما يشير إليه الكتاب صراحةً حين تحدّث بالأسماء عن شخصيات كانت موجودة في السجون، ثم تحوّلت لاحقاً إلى قيادات في «الحركات الدينية المعارضة» كجبهة «النصرة» أو سواها. طبعاً لا ينسى الأشقر التأكيد على تقاعس الولايات المتحدة الأميركية عن «نصرة» المعارضة السورية بأسلحةٍ «دفاعية» كان من شأنها أن تحدث تغييراً كبيراً على أصعدةٍ عدّة، مؤكداً في الوقت عينه أنه «لا يدعو إلى تسليم سلاح هجومي للمعارضة عينها». كان «الأميركيون يسعون منذ اللحظة الأولى إلى تسوية على الصعيد السوري، ولكنهم في الوقت عينه كانوا يعتبرون أن هذه التسوية لن تحدث إلا إذا استقال بشار الأسد، لكن خطأ الإدارة الأميركية ــ وتحديداً أوباما ــ اعتقاده بأنَّه يستطيع الحصول على التسوية من دون خلق معارضة قوية». لا يخفي الكاتب «شكه» الكبير بأنَّه قد «يطرح البعض تساؤلاً حول نية الإدارة الأميركية في تدمير سوريا كما دمّرت العراق بالسابق، نظراً إلى أهمية هذه البلاد كدول مواجهة». ورغم أنَّ الأشقر يأخذ الجانب المناوئ للنظام السوري، إلا أنَّه يفضّل الحل «السلمي/ الاتفاقي» كي «يبقى هناك سوريون أحياء، وتستمر هذه البلاد».
الفصل الثاني مخصص للشأن المصري الذي يغوص فيه الأكاديمي، الذي وإن اختلف مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أمورٍ تتعلق ببعض سلوكات الحكم، إلا أنّه لا ينكر أنه «أنعش الحالة التقدّمية على الصعيد العربي». يلخّص الأشقر الوضع الداخلي المصري بأنّه «جمهورية السيسي» التي فصّلت على مقاسه. مع ذلك؛ يؤكد أنّ «نظام السيسي هش وضعيف رغم كل المظاهر، واتكاله الوحيد هو على السعوديين والإماراتيين بصورة أساسية، وهو مستعد للقيام بأي شيء لإنقاذ نظامه»، مشيراً إلى أنّ «السياسات الاقتصادية» لا تزال هي نفسها منذ أيام مبارك. «المحاسيب» لا يزالون في مكانهم، بالتالي فإن النتيجة الحتمية هي عودة الثورة، من دون نسيان أنَّ النظام نفسه لا يستطيع «التصرّف مع التحركات الشعبية/ الاحتجاجية بنفس الطرق القمعية التي سنّها هو نفسه من قبل، لأن الوضع الاجتماعي متفجّر وقابل للتفاقم أكثر، فالثورة في النهاية قامت بتضافر بين أسباب اجتماعية واقتصادية» وهذه الأسباب لا تزال قائمةً حتى اللحظة.
يغوص الكتاب في تفاصيل أكثر من غيرها، ويركّز على جبهات بعينها أكثر من غيرها، ربما لأنّها توافق في النهاية الفكرة التي يريد التركيز عليها وتناولها. في الإطار عينه، هناك بعضُ الأمور التي تحتاج ربما إلى نقاش أكبر ونفس أطول. يشير مثلاً إلى أنَّ جريدة «الأخبار» هي «منحازة» إزاء ما يحدث في سوريا، مع العلم بأنَّ الجريدة لا تدخل سوريا ولا توزّع هناك. في الشأن المصري، بدا الأشقر دقيقاً «كجراح»، مفصلاً الشارع/ الحدث المصري بدقةٍ كبيرة، ومورداً كثيراً من التفاصيل التي تصعب على قارئ عادي مشاهدتها. في الختام، يبقى السؤال المصاحب للكتاب: هل كان الأشقر بحاجة إلى رؤية الأمر من زاويةٍ أخرى؟ أي كما يقول نيتشه «أن أسمع داخلي، رأي أعدائي»، فهل كان ذلك سيجعل كتابه أكثر أكاديمية ومنهجية؟ إذ بدت نزعة الزاوية الواحدة للفكرة جافةً في مكانٍ ما، من دون أي استماع إلى رأي معارض/ مخالف للصورة التي يوردها الكتاب.

  • عاد النظام المصري السابق بعباءة السيسي

    عاد النظام المصري السابق بعباءة السيسي

0 تعليق

التعليقات