ترجمة وتقديم: إحساين بنزبيرلقد مات على كل حال في سن الأربعين (1963 ــ 2004). كتب كثيراً. قرأ شعره بطريقة نادرة. راكم الجمل. عجن اللغة الفرنسية كما لم يعجنها أحد قبله. فَبْركَ الشعر. لم يترجم لأحد. ترجموه بالأحرى. علم العروض صار غباراً في دواوينه. والذين يبحثون عن معنى ما في شعره، عليهم التسلح بتمتمة الميتالغة أيضاً. شعره عنيف. لصيق بما هو مسطح. يكوّر اللغة. ويجعلها تفقد التوازن كالعصا: النص المترجم. وترجمة تاركوس تجعل اللغة العربية في مأزق. لأننا أمام ما تستحيل ترجمتـه. والسؤال الذي ينبلج هو كالآتي: كيف نترجم شاعراً يعيش لغته كلغة غريبة حيث جدة nouveauté تراكيبه تزعج الذوق العام؟ تاركوس يتمتم لأن هذا الفعل لزوم لديه. لا يتصنّع التمتمة. إنه يكتب في الورم، أي إن لغته لغة متورمة langue tumorale. وانطلاقاً من هذا تصبح الكتابة التاركوسية مواجهة للحاضر ضد الاجترار النوستالجي والخوف من الجديد. مرة أخرى، يصبح هدف الشعر شن حرب ضد البحث عن المعنى في الأشكال. وما علينا سوى النظر في رفوف المكتبات كي نستنبط الآتي: أدب يعج بالحقيقة والمعاني وشرح العالم، أدب يريد واقعية رخوة، إلخ... والشعر الحقيقي عكس ذلك؛ اللهمّ الخطاب السائد الذي يرى في الشعر ترجمة الواقع وما جاوره. إن حرب اللغة في شعر تاركوس تتجسد في الواقعي le réel وليس في الواقع la réalité. للمزيد من التوضيح، سنحاول زيارة الواقعي في الكتابة. كلمة واقعي تعني "ما يبدأ حين المعنى يتوقف" حسب لاكان Lacan. والشعر يواجه العالم رمزياً عبر عناصر كالبيت والإيقاع ومسرحة الفضاء... وحين أتكلم عن الإيقاع، أعني ما نستشعره كشيء يجعل الشعر نسخة غير مطابق عليها، أو بقليل من الجرأة أقول مع الشاعر إيسبيتاليي J.M Espitallier إن الشعر في مواجهة الواقعي يصير objet littéraire non identifié : OLNI. هذا هو الشعر المعاصر الذي يذكرني بأشخاص لا يقرأون الشعر الذي يحبون.
عندما نقرأ تاركوس نتأكد أن الشعر ليس حلاً، إنه ما لا يمكن احتواؤه. كلمات تاركوس بسيطة إلى حد الغثيان. تنفلت وتتزحلق في الصفحة كأنها شرغوف têtard. وبسرعة نفكر في كتابته، نعيد النظر في ما نعتقده شعراً ونسقط في لغته التي تُفرغ العالم من وضوحه.
جميل هذا التاركوس الذي يستخرج من نسق الفرنسية جملاً بسيطة ومعقدة في نفس الآن ليرسم شكلاً وصوتاً وإيقاعاً. حين قراءة نصوصه، كأننا نجري. نلتف ونتدحرج داخل اللسان. لأن كتابة تاركوس ليست إشهاراً تلفزيونياً في الحداثة أو ظلاً لخطابات جاهزة للأخذ. إنه غير هذا. يركب السوليكس solex عوض الهارلي دافيدسون Harley Davidson.
من دواوينه التي تقلقني صراحة أكثر مما تعجبني، أذكر:
ــ عن دار POL: صناديق، 1998. علامة، 1999.Pan 2000،.
ــ عن دار Al Dante: نعم، 1996. العصا، 1998.
هذا الصنف من الكتابة يُزعج في طبيعة الحال. ولحسن الحظ. كفى من كتابات تطمئن على أن كل شيء بخير. هنا أعود إلى البعد السياسي للشعر المعاصر. لقد فجر تاركوس السياسة من خلال مشاركته في عمل جماعي حول المهاجرين السريين. والنتيجة كانت كتاباً مهماً في المتن الشعري الفرنسي المعاصر تحت عنوان ouvriers vivants. شارك فيه العديد من الشعراء الشباب من فرنسا. أرأيتم إفراغ الكلمات من المعنى يؤدي إلى التورط الذكي في القضايا والأشياء. لم تكن هناك كتابة ميكانيكية أو سريالية متأخرة، بل معايشة الواقعي الذي شاط. والتمتمة دائماً وأبداً.


* الشعر ذكاء


الفكر الإنساني شعر.

الشاعر ذكي. يهيّئ صعوبة الفكر. الفكر مخنوق، يابس ودبق، الشاعر يمسّده، يلينه، يستثيره. والشاعر، مرة أخرى، يجذب الذكاء من سباته، يحرّض على الخروج رأسه، أعضاء مخيخه، قفاه وأصابعه العشرة. يزيل الرواسب عن نفسه. يقشر الفم ويكبل الذراع الأيمن لسيده. ويتمرن على تحريك الرأس داخل الفكر.

الشاعر يهيّئ فكره.


الذكاء لا ينبثق من نفسه. يرطب الجمجمة، يجرف رؤيته نحو النظر فيما وراء، منزوفاً، لزقاً، ناشفاً، في طيات الفكر، يمزق بطنه، لا يندفع دون استعداد. الشاعر ذكي، يلج صعوبة الفكر. الشاعر يرتحل في الحيّز، يتمرن على الكينونة، وهو يفكر، يهيّئ نقل الصور.

الشاعر يتهيّأ كي يفكر.

يستسلم إلى السقوط في الدرج، يتخلى عن شبكة أرز رشيق، عن شبكة كعكة سحقها الدبوس، يفاجأ، يترك كيلوغرامات من الجوارب هباء، يسقط من الكراسي، من الموائد، من الأشجار، يسترسل في السقوط. الشعر في حقيقة الأمر ذكاء، إنه يولد.

الشاعر يصرخ.

الشاعر يمتطي في هيئة ثعلب محتال سفوح الجبل المشجرة، من الفوق، وبسرعة ينزل مهابط مثلوجة، يزلق، يتدحرج، الشاعر ليس مهماً، لا يستطيع التحفظ، يزدرد الأرض، يضطرب في الرواسب، ينزوي في كتلة النهار، يتخبط، لا يرى النهار إطلاقاً، هامته طأطأة، يغطس، يباشر الغوص في قلب الفكر، الشاعر يمزج.

الشاعر يهيّئ رأسه.

من الصعب استخلاص الفكر من الفكر. يشد رأسه بين يديه، يجسه، يعاضده، يجحظ عينيه، يستخلص اللسان، يغير عظام جمجمته ويحفر فيها ثقوباً، يقتطع في الشكل، يضغط، يشتم النصب، يقلع ضرساً، يرسم أخاديد بعرض وجهه، يضحي بنفسه، يقصّ قطعاً، يغير شكل رأسه، حيث يأخذ أجزاء، يطويها، ينقلها إلى موضع آخر، ثم يخيطها، ويشبكها، بشريط السكوتش الشفاف يضع نفس الأجزاء على الرأس.

الشاعر يتمرن على التفكير.

يداعب تمثّل الأشياء. الشاعر مرة أخرى يدجّن الذكاء الذي يمكث في الفظاظة. يلعق الحجر، إنه يتقدم في درب الفكر. يدور حول نفسه، يسخن عضلاته، يجري وراء قفاه، رجله حول صدره، ويشرع في اللعنة والتفل، ينتحب، يتملص الشعر، يصفع نفسه، يتهدم، يسخر من نفسه، يرسب. الشاعر يهيّئ صعوبة الفكر.

الشاعر يتهيّأ.

الشعر ذكاء. الشاعر يهيّئ شروط الذكاء. يطهر قلبه. يحاول، لا يهتم بقواعد. بري ميت نتن في دائرة من طباشير، يفكر، يكتب سره بقلم لبدي أصفر، على لوح خشب ملطخ بمنيّ رجل فتيّ وبدم فأرة يانعة ليحرقها فيما بعد، من الشجرة يقضم خوخاً ناضجاً، الهامة مطأطأة، يشرع في السخربة من جهاز الأنابيب للتدفئة، من الضحك لوحده، يضرب بالكف، يضحك بأعلى صوته، يضحك، يضحك، الشاعر يتخلع، يضحك بكل حرية.

الشاعر يصطلي.

الفكر إنساني وبطيء. الشعر يثقب المناخير. الشاعر في حالة ذهول. يسترخي، يتعود على، لم يعد يعرف شيئاً، عن الكلام، يدندن، إنه صبي المذبح، يوجد هنا، يتيه. الشاعر يتعرى يدخل في الماء الجامد، على قناع الجليد يضع محياه، والحديد المضطرم، ينسلخ، يدخل في نفق عليق ليخرج منه مخدوشاً، منهوكاً، ينهدّ في آخر الأمر.

تحضير الفكر.

يعبر، لا يبالي، يعبر كما لو أنه أضاع وقته سدى. يطلق الرصاص على كل ما يتحرك، على الحائط كما لو على امرأة جالسة قرب عشب أخضر، يحب الأست، يهشم الحائط، يفتح الحائط، التراب، السقف، إنه سكران، لا يعير أي اهتمام إلى ما يفعل وهو يفكر من جديد. يهشم الكراسي والموائد. يستطيع الكلام.

الشاعر يحمل الفكر.

إنه في العالم الملون للفكر. يسكن الذكاء. يشرب كأس ماء، يستحم، يأخذ الشفرة ويحلق ذقنه، من النافذة يتطلع على السماء المضيئة. يتحرك في الحيز، يكتسي ويمشط شعره، يمرر الماء على جفنيه. الشعـر، الذي يتهيأ، تعقيد لذكاء صعوبة الفكر.

الشاعر يتدرب على التفكير. الأمواج ترسو.

إلى الفكر يضحي. لا يهتم. يذهب إلى حاله. يموت. يغتال نفسه. يتلوى من شدة الضحك. سلفاً يمزح من ذلك. يباشر الوقوف، يلوك، يتهوع، يلهث، يدمدم ويستنشق، يهنف، ينبح، يصطك أسنانه، ينحنح، يقطب وجهه، يصرف، يكز على أسنانه، ينعق. إنه يطبل.

الشاعر يستعد.

يبتر رأس القلفة، ممزوجاً بلباب الموز، ثم يبلعه في بيضة. يلتهم أيضاً رأس صوص، يقضم الحلزون ورخويات حيية. يقتلع من الفكر، فكر التدبير. يبتلع النيء. الفكر يشتغل. معجوناً بالذكاء الغامض للفكر.

الشاعر يفكر.

يجلس، ينظر، يتحرك، يخرج، الشاعر، من التفكير. ثم يصمت.

يبتسم داخلياً إلى الفكر القادم. الشاعر يعلو إلى السماء. الشاعر يصوغ العالم.

* المقاطع من ديوان "لساني شعري" الصادر عن دار Al Dante