في عمله الجديد «زهرة الصمت» (دار العين ـــ 2016)، يثير رؤوف مسعد الكاتب المصري الاشكالي المقيم في هولندا تساؤلات لا تقتصر فقط حول موضوع العمل الذي يدور بصورة رئيسية حول الهوية المصرية في طبقاتها المختلفة، لكنه يمتد للتشكيك في الشكل الروائي المهيمن على السرد العربي المعاصر.لا توجد حكاية بالمعنى المتعارف عليه في روايته الجديدة، وانما بضع صور وأطياف وشذرات تروي قصصاً متفرقة عن شخوص وأزمنة مختلفة، أراد كاتبها خلق جدارية لمسيرة أمة تعاني اليوم بعض صور التمييز، لا سيما ما يختص فيها بالشأن القبطي الذي تحول من شأن عام الى شأن يتعلق بهموم "أقلية" ينتمي اليها الكاتب المؤمن بالأساس بـ "هموم الوطن".
وشأن نصوص مسعد الأخرى التي يعرف القارئ منها "بيضة النعامة "(1994)، مزاج التماسيح (2000)، و«غواية الوصال» (2005)، و«ايثاكا» (2007)، ثمة ممارسة انتهاك واضح لبعض ما تم التوافق عليه وقبوله، ولا يذهب به هذه المرة إلى "الجنس" كموضوع مركزي في كتاباته.
بالسن والتجربة، ينتمي مسعد لجيل الستينيات، وبسبب ظروف هجرته الى هولندا واقامته قبلها في بيروت، لا يوضع في ذات الاطار، وهو "فخور" بعبوره بين الاجيال وانتقاله بين انواع أدبية متعددة تيسر له انتهاك "الصور الراسخة"، ومنها ما تم التقاطه لوطن يقاوم انقسامه وتمزقه.
هنا حوار معه حول عمله الجديد وعن رؤاه الادبية فيما يخص تجربته في سياق جيله الادبي الى جانب نظرته التحليلية لما يجري في "سوق الادب".


* لنبدأ من اهداء العمل الذي يبدو إشكالياً في ظرف سياسي معقد ينظر فيه البعض الى مؤسسات مثل الجيش والشرطة بقدر من الالتباس؟
ــــ الاهداء اشكالي نعم، لكن لا تنسَ أنني مصري أنتمي الى الاقلية القبطية، ومن المفترض أن أتمسك بأي شكل من اشكال الدولة، ووجهة نظري أن وجود الدولة ضروري للاقليات العرقية والدينية باعتبار أن الدولة هي المظلة الشاملة التي تحمينا جميعاً اقلية واغلبية. لذا أبجل الشهداء من الشرطة والجيش على خط المواجهة اليومية ضد القوى التي تريد هدم الدولة، وأعتقد جازماً بأن الشهداء يعيشون بيننا ويذكّروننا بتضحياتهم يومياً. ومن ثم فإن موقفي في النص هو إحياء ذكراهم وكذلك إحياء ذكرى الاسلاف الذين صمدوا بمواجهة العسف وصبروا وواصلوا بقاءهم في مصر. وفي النص، يلاحظ القارئ سطوة موضوع التمييز الدين حيث يعود الكاتب لازمنة سحيقة لرصد صوره منذ دخول العرب لمصر (20 هجرية) انطلاقاً من اعتقاد راسخ لديه بأن «التمييز الديني لم يأت من الدين لكن من الدولة الدينية ومن مواقف الحكام والخلفاء والولاة الذين تعاقبوا على حكم مصر».

* على الصعيد الفني، يتصف النص بسمة تركيبية غريبة الى حد كبير من حيث اختفاء عملية التخييل السردي تقريباً، والتركيز على عملية صهر لمادة قوامها نصوص تاريخية عالجت شخصية مصر الحضارية، فلماذا كان اللجوء لهذا الخيار؟
ــــ «زهرة الصمت» تقوم على كولاج كبير لموزاييك سردي ضخم يستعيد ذاكرة منسية لا أريد أن تتوارى، وهي ذاكرة رفض الآخر. ومع ذلك، يوجد جزء كبير من المتخيل في النص مثل كاهنة ايزيس، والكاهن الذي رحل مع رهطه الى نقادة والبرديات النقادية. وبالطبع "زهرة الصمت" في ماسبيرو حيث أعالج ما حدث للاقباط في ماسبيرو (9 أكتوبر 2011 ) فيما عرف وقتها بـ "مذبحة ماسبيرو" في خضم احداث الثورة المصرية وهو حدث أقرب لـ "تراجيديا اغريقية" بامتياز أحلتُها في النص إلى فعل أسطوري باختراع فكرة الزهرة التي لا تموت.

* لكن يبدو النص مثقلاً الى حد كبير بالاجزاء التوثيقية المأخوذة من مراجع تاريخية؟
ــــ الجانب التوثيقي ليس ثقيلاً، لكن من الوارد تخفيفه في الطبعات الثانية. وقد انتهز الفرصة لكي اضع في النص ما اضطررت لحذفه لدواع مختلفة، وأقلل من النصوص التاريخية وأكثفها. فأنا لا أحب التعامل مع الوثائق التاريخية لكني اضطررت الى ذلك لحساسية المادة التي تتعامل مع المواطن القبطي باعتباره "رعية" و"ذمّياً" وليس مواطناً.
جيل الستينيات له منجزه
المميز، لكنه انتهى مع الثمانينيات إلا قلة قليلة مثل صنع الله ابراهيم، وجميل عطية ابراهيم الذي لم يُقرأ جيداً

* لماذا عدت لروايتك "مزاج التماسيح" التي نشرتها في عام 2000 واعتبرتها نص "نبوءة"؟
ــــ تنتهي "مزاج التماسيح" كما تعرف حينما تقتل رصاصة من مبنى التلفزيون المصري الراهب أبحافي الذي جاء تنفيذاً لأوامر السيدة العذراء كما يتخيل لكي يفصل بين المتقاتلين، ويعرف المتابعون لمذبحة ماسبيرو كيف حرّض التلفزيون المصري ضد الاقباط المعتصمين، وكان بهذا المعنى المجازي يطلق الرصاصة الاولى على هؤلاء المعتصمين في ماسبيرو لذا اعتبرته فعلاً تراجيدياً.

* هل يمكن النظر الى شخصية "النقادي" في النص كقناع سردي لشخصية الكاتب رؤوف مسعد؟
ــــ هذا صحيح جداً. فالنقادي رمسيس يتلبسني وأتلبسه. هو ظلي (كما أشرت الى الظلال في فصل الظلال)، هو أنا الآخر شبيهي "بارانويد" وشكاك ونفور ومقبل على الحياة، يضيع أولاده أي ذاكرته وجزء منه لكنه يجدهم مرة أخرى في فصل بعنوان "وداد".

ثمة اجماع نقدي على أنّ لديك شغفاً بـ «الانتهاك» حيث لا تقيم اعتبارات للشكل الروائي أو الاعراف الاجتماعية في أحيان كثيرة بما في ذلك تناول موضوعات الجنس، وحتى التعامل مع اسرائيل إذْ كنت من أوائل الكتاب المصريين الذين كسروا الموقف الجمعي الرافض للتعامل مع اسرائيل؟ فكيف تفسر لنا هذا الشغف بالانتهاك؟
ــــ بالنسبة لزيارتي إلى إسرائيل، كانت فعل تحدٍّ مقصود مني للثوابت السياسية الناصرية، وها هو مجلس الشعب الحالي يعلن أنّ لا مانع من أن يستقبل وفداً سياسياً اسرائيلياً. لكن أرجو ألا تنسى أنّني كتبت بعد عدوان عام 2006 مقالاً عنوانه «ليتني جندياً في حزب الله»، رفضا للعدوان وتأكيداً على النظر لاسرائيل بطريقة مغايرة.

*أيضاً لا تفوت على القارئ الرؤية التي يتبناها نص "زهرة الصمت" من النظر في العروبة كغزو لمصر بمعنى ما، وبالتالي تعيد طرح السؤال مجدداً عن عروبة مصر التي حسمها التاريخ والجغرافيا؟
ــــ لا شيء يمكن حسمه عزيزي. كل الاشياء تبقى موضوعاً للمساءلة من وجهة نظري، هوية مصر اشكالية يجب أن نضعها في حسباننا لأن المصري هو مزيج من اختلاط لهويات عربية وافريقية شمالية وجنوبية مثلما أشار اليها بذكاء جمال حمدان في "عبقرية المكان"، أي أن هوية مصر بالاساس جغرافية مرتبطة بموقعها التاريخي الجغرافي. وكذا بمصير الديانتين التوحيديتين ايزيس والعذراء والسيدة زينب وعين حورس التي ما زالت بيننا نقوم بها (من شر حاسد اذا حسد)، أي الشر الذي كان يمثله الاله ستْ.
وفي اعتقادي أن ثمة فارقاً بين جيش الغزو العربي الاسلامي في القرن السادس الميلادي الذي جاء غازياً ومستوطناً وبين العروبة الحالية التي هي هوية سياسية ضرورية في مواجهة الاعداء الخارجيين، حتى لو لم يحملوا سلاحاً حربياً، لكنهم يريدون استعبادنا اقتصادياً وانسانياً.

* في البوتقة النصية التي يقترحها العمل اطاراً لصهر الاشكال والنماذج والنصوص، تسمّي أحد فصول الرواية أو أول فصولها بـ "تحنيط الروح"، مما يكرس الاعتقاد بأن دخول العرب إلى مصر كان يعني تجفيفاً لمنابعها الحضارية وهو تصور صادم الى حد كبير؟
ـــ استعرت تعبير "تحنيط الروح" من توفيق الحكيم كاتب "عودة الروح"، لكني هنا جعلت الروح تنتظر محنطة حتى كبح الجامحين في الكون كما قلت في فصل يحمل هذا العنوان، والجامحون هنا كل من يريد سوءاً بمصر المحروسة بالاولياء والقديسين وارواح الشهداء.

* وماذا عن الانتهاك الاجتماعي في الشغف بالايروتيكا وكتابة الجسد، وهو بالمناسبة يكاد يكون منعدماً في العمل الجديد؟
ـــ وجدتْ نصوصي الايروتيكية العديد من القراء، لكنها أخافت الكثير من النقاد، فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منها خاصة أنّها تناقش التابوهات المعروفة. هذا لا يزعج بل تناول ضروري. كان ينبغي على كاتب مثلي أن يدخل بقدميه الى هذه المتاهة، وقد اثبتت الايام صحة موقفي لأن نصوصي الايروتيكية أعطتني صفة خاصة ككاتب لم يحظ بها سوى قلة من الكتاب العرب وهذا يثلج قلبي.

* أليست مفارقة أنّ بعضهم يرى أنّ نوع الكتابة الذي تكتبه لـ "أجل الترجمة"، فيما يشير الواقع الى انك ربما أقل كتّاب جيلك حظاً في الترجمة، رغم أنّك تعيش في الغرب أيضاً وتعرف معايير الترجمة؟
ـــ نعم هي مفارقة، لكنها لا تشغلني. ليست هناك معايير محددة سوى تلك التي يضعها المترجمون وأصحاب دور النشر التي تبحث عن المكسب. هناك مترجمون لهم ذائقتهم الخاصة مثل هارتموت فندريتش المترجم الالماني المتخصص في أعمال الكاتب الليبي ابراهيم الكوني. وهذا بدون السقوط والدخول في النوايا الشخصية والمالية، وأعطيك مثالاً من تجربتي عند ترجمة "بيضة النعامة" التي تمت عبر برنامج اوروبي اسمه "ذاكرة المتوسط"، وقد عرفت بعد استقصاء أنّ مجموعة من المترجمين ارتبطوا في برنامج له علاقة بالاتحاد الاوروبي، واقترحوا برنامجاً للترجمة، بشرط أن يتفق ثلاثة من المترجمين من جنسيات مختلفة على رواية ما، وكان السؤال: من يقترح الرواية لكاتب غير معروف مثلي آنذاك؟ بالصدفة البحت، اقترح صاحب «مكتبة ابن رشد» الباريسية الرواية على المترجم الفرنسي الذي رشحها لاثنين آخرين، أحدهما ايطالي والآخر اسباني، لكن الالماني والانكليزي قالا إنّها رواية تتحدث عن الجنس وإنّهما غير مهتمين بهذا النوع. اذن نحن هنا امام اختيارات عشوائية، لكن ما أن يبيع الناشر كتاباً ما لكاتب معين، حتى يواصل ترجماته على حسابه عبر المترجمين الذين يرشحون أعمالاً معينة ترضي سوق هذا الناشر، ما يعني أنّه ليست هناك خطة ولا اتجاه محدد سوى "الايكزوتيك" وتثبيت الصور النمطية التي شغلت الغرب منذ ترجمة بريتون «الف ليلة وليلة»!

* لكن بعضهم يفسر هجومك على كتّاب الجوائز والأعلى مبيعاً انطلاقاً من الحرمان من الفرصة نفسها؟
ــــ (يضحك). «كتاب الجوائز» اصطلاح جيد وطريف لأن معظم هؤلاء ــ عدا قلة قليلة ـ لا يستحقون أي جائزة. ما أكتبه يعبر عن ذائقتي وأحكامي ولا أُلزم به أحداً. لكن إذا حاولنا أن نفهم سبب اعطاء الجائزة لكاتب من هؤلاء، لن نجد سبباً مقنعاً سوى "الكلام المرسل". فالجائزة يجب أن تعطى لعمل ريادي مثل "المتشائل" لاميل حبيبي أو "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف. وأتحدى أن يذكر لي أحد عملاً ريادياً نال جائزة في السنوات العشر الأخيرة، وأعني ريادياً في المضمون أو الشكل.
هذه حقيقة مؤسفة لكنها موجودة، وبدون الدخول أيضاً في النيّات، أرى أنّ الجوائز تكرس في معظم الاعمال التي حظيت بالجوائز نمطاً من الكتابة والافكار أقل ما توصف به هي أنّها متوسطة لا تغني ولا تسمن.
وفي اعتقادي أنّ الـ «بيست سيللر» العربي ظاهرة مزيفة وكاذبة، وأسال دائماً: هل حظي نجيب محفوظ ويوسف ادريس وغسان كنفاني أو سهيل ادريس أو اميل حبيبي بـ «البيست سيللرز»؟ بالطبع لا، لكن إعطاء نوبل لمحفوظ مثلاً نقله من قراء محدودين الى جمهور أوسع، أما بقية الآباء الكبار للرواية العربية فلا تحظى أعمالهم حتى الآن بالمبيعات. هذه لعبة من الناشر للسوق حيث يطبع عادة بضع مئات من النسخ ثم يعلن نفاد الطبعة الاولى ليوهم القارئ والكاتب معاً، وهكذا يتحول الكتاب الى «بيست سيللرز» وتبدأ سلسلة من الاكاذيب. واذا افترضنا أنّ عدد المهتمين العرب بقراءة الرواية العربية في العالم العربي كله خمسة أو سبعة ملايين، فهل هذه الملايين القليلة بشكل مؤسف بالنسبة لعدد السكان ولعدد المتعلمين؟ هل هؤلاء يشاركون فعلياً في شراء البيست سيللرز إياها؟ بالتأكيد هذا لا يحدث، وسوف تجد أنّ كاتباً مثل كويللو رغم بساطته، يبيع الملايين من ترجماته العربية أكثر من إميل حبيبي مثلاً!
لا أعتقد أنّ أحداً كتب عن التمييز الديني والجنسي مثلاً في الرواية العربية قبلي

* نظرياً تنتمي لجيل الستينات الادبي، وعملياً لا تحظى بما حظي به كتاب هذا الجيل من فرص فكيف تنظر لهذا الجيل الآن؟
ــــ بالتأكيد هو جيل له منجزه الأدبي المميز، لكن هذا المنجز الابداعي انتهى مع الثمانينات الا قلة قليلة مثل صنع الله ابراهيم، وجميل عطية ابراهيم الذي لم يُقرأ جيداً، والقليل من بهاء طاهر وبعض أعمال فؤاد حجازي المنفي في المنصورة وغير المعروف في القاهرة. والسبب في خمود وذبول شمعة الستينات أنهم لم يطوروا أنفسهم أو أدواتهم، وكانت أهدافهم بسيطة ومحددة في الرؤيا الاشتراكية والطبقية وقليل أو كثير من اليسارية. وقد خرجتُ هارباً من عباءة التطبيق الاشتراكي إياه المتعلق بالابداع، وأفادتني دراستي في بولونيا، إذْ رأيت التطبيق الاشتراكي القامع للابداع عملياً. وأفادتني أيضاً معرفتي باللغة الانكليزية، فتوسعت مداركي وقرأت أمهات الروايات بالانكليزية بدون تدخل من المترجم أو رقابة الدولة، وتعلمت وتطورت كثيراً. ولا تنسَ أنني نتيجة لوضعي الديني في مصر والعالم العربي، رغم اني غير ممارس، جعلني أهتم بالمهمشين لكن ليس طبقياً أو اقتصادياً، ولم أنشغل بالطبقة الوسطى التي شغلت كتّاب جيلي أو اهتم بفشل ثورة اليمن مثلاً أو انهيار الماركسية والدول الاشتراكية. ومن ثم كان اهتمامي انسانياً وبحثي عن البشر وعن قيودهم الدينية اساساً وعن تابوهاتهم الجنسية المرتبطة بالدين. كتبت عن الايروتيكا وعن المثليين (إيثاكا) وعن السادو مازوخيزم وعن الفيتشيزم، ولهذا نفذت بجلدي!
واليوم أعتقد أنّ المنجز الإبداعي لجيل الستينيات توقف متجمداً بعد حراك هام، واذا تأملنا في الكتابات الأخيرة لمن تبقى من الستينات مثل بهاء طاهر وصنع الله ابراهيم فهي لا ترقى الى بداياتهم، أما أنا فلم أكف مطلقاً عن القلق وعن محاولة ايجاد اشكال جديدة للكتابة بغض النظر عن ما يقوله او يصنفه النقاد والمحللون!
ولا أعتقد مثلاً أن أحداً كتب عن التمييز الديني والجنسي مثلاً في الرواية العربية قبلي. ولذلك كلما قرأت عن هذا الجيل، أردد ما قاله الشاعر الفخور بنفسه: "أنا من نظر الأعمى الى أدبي... وأُسمعت كلماتي من به صمم". وأنا بالمناسبة متحصن ضد التواضع الزائف!