عدنان محسن


«الآن/ عندما يقيم المساء حفلة للغياب/ ويمضي الآخرون،/ خطواتهم موشومة بانتظارات فسيحة/ سأعود إلى نفسي/ مشياً على الأقدام/ أنصبُ فخّاً لأحلامي./ الآن/ أترك وجهي في خزانة الغرفة/ أو في سلّة المهملات/ أغمض عينيّ/ لعلني يوماً أراني./ الآن/ أكتبُ تاريخ العالم في سطرين/ أكسرُ وزنَ القصيدة/ ولغيرِكِ أقرأ أشعاري./ الآن/ ما أوحش هذه «الآن»!.
ولدتُ في محلّة «الكسرة» في بغداد في أواسط القرن الماضي. و«الكسرة» هذه محلّة بغدادية شعبية وكدتُ أقول شعرية بكلّ ما يملك هذا التوصيف من دلالات جمالية تتعلق بالحياة وبالشعر على حدّ سواء.
سُميّت هكذا لأنّ نهر دجلة في أحد فيضاناته انكسر عند الوصول إليها. ورغم قربها من مركز العاصمة ومؤسسات الدولة والسفارات الأجنبية، ليس من المستغرب أن يرى المرء في شوارعها اختلاط الماشين بالماشية. ويعيش فقراء المحلّة في بيوت من الطين تشبه زرائب الحيوانات ويعيش الأقل فقراً في بيوت من الطابوق. أمّا الأثرياء فيكفي أن تعبر الشارع الرئيسي لتطأ قدماك أرقى أحياء بغداد وأجملها: الوزيرية.
كانت «الكسرة» صورة مصغّرة لبلاد بكاملها: يعيش أهل بغداد الأوائل مع خليط من الناس قدموا إليها من جنوب العراق وشماله. فيها تختلط الطبقات والأديان والمذاهب والجذور الإثنية، ومنها بدأتُ تشييد قاموسي المعرفي ووضعت الحجر الأساس لمفردتي الشعرية.
في صباي كنتُ أسمع أحد الجيران يقسم ببستان أبيه. ورغم أنّ أبي لا يملك بستاناً صرتُ أحلف أنا الآخر أيضاً ببستان وهمي لم يمتلكه أبي بتاتاً. وكانت هنا رحلتي الأولى مع السخرية من الأشياء والدعابة السوداء وعدم حمل الأمور على محمل الجدّ وعدم الاكتراث بأيّ مجد مهما كانت درجته. وفي دجلة غرق صديق صباي زياد. كنّا نتسابق للوصول إلى جزيرة في منتصف النهر عوماً. وذات يوم ذهب إلى النهر وحده ولم يعد. وجدوا جثته طافية قرب الجزيرة إيّاها. وقضيتُ شطراً من صباي أرمي الجزيرة بالحجارة احتجاجاً على موت صديقي.
وهكذا صار البستان والغرق والنهر وكلّ ما تعلق بالحياة من حقول دلالات مفردتي الشعرية، وقطعت عهداً على نفسي أن يكون كلامي مرادفاً للحياة وحدها.
لم يكن بوسعي أن أطبع مجموعة شعرية على نفقتي الخاصة ولم تكن دور النشر لتأبه بنصوص كُتبت بسرعة البرق وكانت كلمات من نوع شذرات أو ومضات أو النصوص الأقرب للهايكو تثير امتعاض أغلب الناشرين. وعندما تحولّ العراق نفسه إلى سجن كبير بفعل الدكتاتورية وجبروتها وحماقاتها، هاجرت إلى بيروت أولاً حيث قضيت فترة قصيرة ثمّ إلى المغرب العربي لاستقرّ نهائياً في باريس منذ عام 1981.
في باريس صدرت لي مجموعة بالفرنسية بعنوان «ذاكرة الصمت»، وهي قصائدي التي كتبتها في تلك الفترة مترجمة للغة الفرنسية، وصدر الكتاب عن «دار لارماتان» الباريسية، ولم أفرح بصدوره البتة فكأنّي بدأت حياتي الشعرية بالمقلوب.
وذات نهار، كنتُ في بيت الصديق الشاعر عبد القادر الجنابي في باريس، ومعي دفاتري الشعرية. في ذلك الوقت لم أكن أملك حاسوباً وكل نصوصي مكتوبة بقلم الرصاص.
طلبتُ من عبد القادر تنضيد نصوصي على حاسوبه، وفعل ذلك على الفور بكرمٍ جعله من أقرب الناس إليّ في فترة زمنية في حياتي الباريسية. واقترح عليّ أن أصدر ديواني وأضع عنواناً له وعندما قلت له «إلى آخره» ضحك كأنّه يقول لِمَ لا. وعند خروجي من بيته صادفتُ الفنان العراقي صلاح جياد وهو رسام بارع وبيننا مودة قديمة، فطلبت منه أن يرسم لي تخطيطاً أجعله غلافاً لمجموعتي، وفي اليوم التالي كان التخطيط بين يدي. أما تصميم الكتاب فذهبت إلى صديق آخر هو الشاعر العراقي الراحل محمد سعيد الصكار، وهو خطاط كبير ومصمم محترف، فأنجز لي التصميم قبل أن ينتهي النهار. وهكذا بما يناهز اليومين فقط توفرت لدي مخطوطة جاهزة للطبع، وبعد أسبوع كانت في حوزتي 500 نسخة من «إلى آخره». هذا الكتاب المصنوع منزلياً كان على حد تعبير الراحل محمد سعيد الصكار ثمرة من ثمار المحبة.
نفد الكتاب في ثلاثة أشهر! لأنني توليتُ مهمة توزيعه على الأصدقاء والمعارف والصحف.
نضّد عبد القادر الجنابي النصوص، ورسم الغلاف الفنان صلاح جياد، وحمل تصميم المجموعة توقيع الشاعر العراقي الراحل والخطاط محمد سعيد الصكار

وكان استقبال الكثير له مفاجأة كبرى لي، وبعد صدوره وبعد الأصداء الايجابية التي رافقته عقدت ما يشبه المصالحة بيني وبين «ذاكرة الصمت» وصرت أنظر إليهما كتوأمين خرج أحدهما قبل الآخر ببضعة شهور.
بعدها صدرت لي «نصوص عن الغير»، و«على هذه الشاكلة»، وستصدر لي في الخريف القادم مختارات شعرية من هذه الكتب الأربعة عن «دار الجمل في بيروت»، تتويجاً لثمار المحبة بطلها في هذه المرّة شاعر عراقي آخر، هو خالد المعالي.
كلّ ما بوسعي قوله إنّ الاصدرات اللاحقة تلتقي بالسابقة لأنّ الاثنين امتداد لبداياتي الأولى حيث رجمت الجزيرة بالحجارة وأقسمتُ ببستانٍ لم يمتلكه أبي.
ماذا تبقّى من هذه التجربة؟ لعلّ صديقي الشاعر عبدالكريم كاظم الذي قرأني قبل أن يقرأ نصوصي وجد الجواب بالنيابة عنّي بقوله: «هو يكتب على هواه، حتّى أنّه يتشبّث بعذرية المفردة الشعرية أو بعفويتها. يكتب على هواه بامتياز من المعنى حتّى الدلالة. والنص الشعري بالنسبة له هو ضرب من سلوك جمالي أو طريقة حياة». نعم أكتب على هواي! ولم أصدّق الأكذوبة الشائعة التي تقضي بأنّ قصيدة النثر رمزٌ من رموز الحداثة وأنّ قصيدة التفعيلة شكلٌ من أشكال العودة إلى الماضي ينبغي أنّ تحلّ محلها كتابات الشذرات والومضات واللقطات الخاطفة، فالشعر بقيمته وليس بشكله. لا يكفي أن تكتب قصيدة خارجة على العروض كي تمسك بمفاتيح الحداثة، وبالمقابل لا يكفي أن تكتب قصيدة تحتفظ بكامل قيافتها العروضية كي تطرق أبواب الشعر. وهكذا لم أضع تجربتي في قفص المصطلح ولم تقع نصوصي اللاحقة في فخاخه.
في كلّ ما سعيت إليه في الشعر ونجحتُ في القليل وأخفقتُ في الكثير منه لم يكن سوى ترتيب العلاقة بين الأنا والآخر، وقد قبض الناقد العراقي علي شبيب ورد على هذا المسعى عندما رأى في نصوصي: «محاولات للغور في ثنايا النفس البشرية، بمداهمات كاشفة لخفاياها بحثاً عن المخبوء في دهاليز الأنا والآخر». ووضعت كوليت مرشليان يدها على مربط كلّ خيولي عندما أعلنت: «السؤال كبير في فضاء شعره وأمام خيارات البحث الفلسفي الوجودي وإمكانياته. يقف هو والقصائد في يده، قليلة الكلام وينتقي من مخزونها الصور الأبهى».
ما زلت وأنا في الستين من عمري أدرّب روحي على صياغة الأسئلة. أعرف جيداً أنّ المهمة صعبة. كي تطرح السؤال المناسب عليك أن تعوم في بحر من الشكوك وعدم الرضى وكي يكون للسؤال معنى عليك أن تعيد طرحه على نفسك بألف صيغة وصيغة ثمّ تعيد انتاجه عن طريق الكلام العادي شعراً.
هذا هو بحثي الشعري في السابق لكتابي الأول وفي اللاحق. وليس مبالغة القول إنّ «إلى آخره» في نهاية المطاف لم يكن كتابي الأول بالعربية، بل هو آصرة بين ما كتبته في مرحلة من مراحل حياتي وبين ما لم أكتبه لحدّ الآن. الروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي وضع حروفه على نقاط هذه الآصرة، حين كتب: «قصائد عدنان محسن قصيرة مكثفة، وجاء قصرها لا جرياً وراء موضة شعرية سائدة بل لأنها هكذا، قالت ما تريد، وأرجأت البعض الآخر، ألقت بتبعته إلى آخره».
باختصار... أكتبُ على هواي!