1
حين رأيت الحرب أول مرة في البوسنة
كنت كسحابة وحيدة في شتاء أجرد
وكانت العيون مقلوعة بمخلب
القبور ما تفعله الأحلام بالاحشاء
والأصابع الندية التي كان يمكن أن تكون بذوراً
للمصافحة وصداقات لذيذة
بعدها بسنوات
قلت أريد جسراً متيناً
أسمعه في الأغاني
وأنام وأحزاني هالات سوداء
لا تخذلها الكريمات المرطّبة للأسى
كان هناك كلب كي يعيش
عليه أن يمضغ فتات طفل على الجسر
صارت كوابيس الرعب تخرج من عينيّ
تقاسمني قهوة المساء وتذاكر السفر
وكلمات الهاربين
«لا تنسني»
سآتي اليك من أعالي الجبال
وحين مررت بمدينة لها أكثر من قلب
انتزعت رحمي مثل بشر غدهم بلا أسقف
وجدت امرأة اسمها «بيبا»
كان التراب أسود ولها قفازات
ولا تنتظر قطاراً في البال
تذكّرت طريق الحرير والسلاح والقطن والطمي
والآلهة التي تشقّ الدلتا
فرسمت لي «الفولغا»
وغبار الكلاشينكوف والايديولوجيا
بعد فوات الأوان
صرت أعشق استنشاق الحنين في زحمة المطارات
وكلّ حين أكنس العالم الذي لم يكن رحيما
مثل دم متيبّس
وكربّة منزل صالحة
أرشّ الملح على الخارطة
وأقول: عليه أن يكون نظيفاً هذا السجاد


2


أحدّث نفسي هذا الصباح
أن أزرع الحرب في خوذات الجنود
الجنود الذين يزرعون الحرب
لأنهم يفهمون جيدا
معنى أن لا يكون لك كفن
في مدينة تشتري الأوجاع
وتلفظها كالعاهرات وإبر الايدز
وغرافيتي «جان كوكتو بعثر الفنّ»
أو «هذه حرب خاسرة لأنها بلا أوهام»
السّلم والسّعادة والحياة
تأتيك دائماً من الذين لا يعبأون بها
كما الكتابة الخالدة
الشعر عمليات اجهاض متكررة
لأشخاص يدّعون أنهم بصحة جيدة
يجب أن تبحث عن مصحّات صموتة
فبين الحروف ينام قيء أخضر
والقصائد أكيد تجيء بلا رحمة
لتجلس على حافة المذبح
قد تفرّق حبوب منع اليأس
فالرجال أيضاً يلدون
وراء كلمات بحجم أقمار كتيمة
ويمسحون دماءهم والدّمع
ليرتّبوا جملا كأنها تنغيمات كمانٍ بعيد
تسرّ الناظرين.

3


يتخلص الناس مما يكرهون
وأنا أتفانى في فعل العكس
أدعو الذكريات الى الصالون
مرات عديدة في اليوم
نتبادل الأحاديث
عن أجمل فيلم بـ «سينما الحمراء»
والدّرج الأسود المكتوب عليه
«يا إلهي ترفّق بالشعراء
فهم أطفال يتعاركون مع الموت
يمزّقون ثيابه
وينهش بطونهم وأحيانا أحباءهم الأعزّ
ويخترعون أسبابا مضحكة للحياة ...»
عن الشعيرات البيضاء التي تهرب كالسنابل
من فم طائرالبلشون
على «باب الكنائس»
حين أتسلّى بعدّها وهي تتناسل على أسنان المشط
وبدل أن أناصب الزمن العداء
أرتّب قلوب الرجال المنهزمين في الحبّ
وأسرّ للذكريات أنّ رأسي مليئة بالثقوب
وعليّ أن أفرغها من الأيام القاسية
مثل أمّ تريد عمرا كافيا
ليحبّها الأبناء والجيران والأقارب البعيدون
ولها مطبخ فيه قطط لا تؤذي
تخرج فناجينها المحبّة
وتحضر القبلات مع توست القهوة والمربّى
وشتلة الحبق
لكن لا أحد يأتي.
* شاعرة من تونس