«وقائع ذات سوداوية مُنْهَكة»، هذا هو عنوان الديوان الأخير، للشاعرة الدنماركية ماريانا لارسن (1951) الذي تنقل لنا وقائعه من أماكن مختلفة، بمستويات شتى وبنغمات متغيرة وبمفردات غريبة مغايرة، فـ «لوف أون» (Love-On ) هو اسم واحدة من المصابغ المفتوحة التي تُدار غسالاتها بحشوها بالعملة النقدية، ولا يخل الاسم من روح تهكمية تتكرر عبر الديوان كعنوان ترصد عبره الشاعرة أثناء انتظارها وقائع زبائن آخرين:«شاعرٌ يدفع باللامقفّى فيه/ إلى أقصاه ويبذّره مثل صابون على الأرض». مجاميعها الشعرية تجاوزت الأربعين؛ ومن عناوين بعضها مثل «بلاغ من عبد» (1976)، و«الوحدة اللاأخلاقية» (1985)، و«مقصورة الطفولة؛ حلم» (1994)، و«شعورٌ كتابيٌ» (2002)، يمكن أن نتخيل ذاتها التي تشبهها حينما تنبثق من الشعر، بين أقصى الخيال وبين الواقع الأشد مرارة، الكلمات تترى عبرها بوصوفات متوترة تصل الى حد «البارانويا» كما وصفها أحد النقاد، متوترة ترتطم مثل كرة منضدة بحواسنا، وفي أماكن أخرى مثل يد أم تمسّد ظهر صغيرها ساهمة؛ «الوجه بسوداوية في عيونٍ حادةٍ يستدير/ نحو الأزرق بشكل المحار/ يمتدّ صوب لا أعرف ماذا».

العزلة ظاهرة واللغة عالمها، تعيش وتتنفس عبرها، اللغة وحدها ساحة لعبها حياتياً؛ «هناك صدعٌ في مرأى الزجاج لمنظري على الزجاج/ بحبوب اللقاح على زجاج النافذة التي يتعذر عليّ فتحها/ لا، ها هي تنفتح». لارسن نشرت في سن الثامنة عشرة وحازت مبكراً على منحة الدولة في التفرغ مدى الحياة (بعمر 37 سنة). تناصر المظلومين، تقسو في انتقادها لمجتمعها ولكنها تدافع عن انسحابها بشدة: «احتفظ بحقي في أن أكون خجولة». بدأت حياتها ناشطة سياسية يسارية واللغة لاحقاً سوطها (وإن كانت النبرة خافتة والحس النقدي الساخر كما في أغلب الأدب الدنماركي مبطناً ساخراً)، سوط لجلد مجتمعها، القوى المهيمنة في العالم، النفوس الجشعة، التمدن الخاوي، وهو جلدٌ لذاتها أيضاً وذواتنا أجمع. وإن كانت موضة الأدب الملتزم السياسي الناقد قد عادت وانتعشت عند عدد من الشعراء الدنماركيين فإن لارسن لا تتبع الموضة لا شكلاً ولا كتابة.
لارسن لها لغتها وأسلوبها فهي لا تشبه أحداً بكتاباتها ولكنها تجيب منصاعة على جواب قطعي تمتاز به الصحافة الدنماركية ربما دون غيرها عن مصدر الإلهام والتأثر؛ منهم الشاعر الصيني لو شين الذي أعادت كتابة أشعاره باللغة الدنماركية، الشاعرة الدنماركية انجر كريستنسن، والتشيكي فرانس كافكا.
القارئ الوحيد الأعزل الذي يتوق الى التخلف عن المسار الحتمي الذي تقوده سياسات الدول الكبرى واقتصاديات أسواقها سيجد له ملاذاً في وقائع غير منظورة تماماً تغذي الحاجة الى التفرد بخصائص إنسانية صغيرة، في انتقاد ظواهر حديثة كالسيلفي، أو في فرح اكتشاف نسيج عنكبوت وقطرات ندى؛ «اكتمالٌ تحت المصباح أعلى الباب/ وأخيراً أنا وحيدة جداً مع أي شيء آخر». وبما يخص الترجمة فهناك ما قد يربك القارئ، وقد يُعزى ذلك إلى ترجمة بعض النصوص التي تأتي الجمل فيها أصلاً متشظية مبتورة والكلمات بلا جسر أو قاعدة. والأمر الآخر الذي لا يخلو من استحالة حين تشتق الشاعرة أفعالها وتستنبط بنفسها صفاتٍ لا يضمها قاموس، كما وصفها أحد النقاد «تطير تحت الرادار»، ففي حاشية القصيدة «ما بين أنواع الحيوانات ما بعد الذكية» تكتب لارسن سطراً كاملاً تشتق فيه وعلى هواها أفعالاً مقاربة صوتياً لفعل واحد بمعان مختلفة لا يمكن اشتقاق مثيل لها بالعربية كما في الجملة النثرية التالية: «الآن أنا أكثر نعومة دموية زرقة تبجحاً رحمة توريقا من العمل». «وقائع ذات سوداوية منهَكة» لا يشذّ عن الدواوين الشعرية التي سبقته وتجاوز عددها الـ 40، بحكم الاستمرارية التي نشعر بها مثل تيار خفي يحكم كتابتها للشعر كممارسة يومية عبر أكثر من أربعة عقود، هي سلسلة متتالية ضمن عملية بحث وتأمل مستمرة في اللاوعي بتفاعلها مع الواقع بأقصى الحساسية، وفق لارسن هي مراحل تطور عملية الكتابة ذاتها حيث كل كتاب يفترض بولادته الكتاب الذي يليه. بقي أن ننوه إلى مستويات النص وأبعاده فقد تضمنت بعض القصائد نصين منفصلين يسيران متوازيين أحدهما في الأعلى والآخر في الأسفل، يميزهما نوع الخط والمسافة الفاصلة في فضاء الصفحة.
هنا ترجمة لقصائد من الديوان:

في المدينة قريباً من ضباب البحر

في واحدة من نوافذ البنايات السفلى في المدينة
قريباً من ضباب البحر يملأ وجهُها كلَّ شيء
الوجه بسوداوية في عيونٍ حادةٍ يستدير
نحو الأزرق بشكل المحار

يمتدّ صوب لا أعرف ماذا.

رصد

ماذا في التصدعات التي تتخلّق على بلاطات الرصيف العارضة؟
هل رأيت يوماً أحدها صار شيئاً؟

بينما أطرافُ ريشِ أقصى الذيلِ لطاووسٍ تنفرشُ
بين بضعةِ شقوقٍ سودٍ كامدة في تلك الرمادية

وبعد ثانية ترى الرصيف يتفجّر من حولك
ذرات بكل ألوان الطيف من بينها الطاووس.



ما أحب فينا، أنت وأنا أننا لسنا أسياد أنفسنا

Love-On

امرأة ترقص
مع مناشفها الاثنتي عشر المغسولة للتو

شاعرٌ يدفع باللامقفّى فيه
إلى أقصاه ويبذّره مثل صابون على الأرض

لعبةٌ قطنية مطبوعٌ عليها دِين
تسقط من علوٍ في الغسالة

متشردٌ متطرف يمدّ يديه
ويغسلها من الوجود

في مصبغة يسمّونها
Love-on
رأيتُ الوجع جراء
تقريباً حيمنٍ اصطناعيٍ في عيني فردٍ مذعورٍ على مصطبة

وحياةً لا لون لها أصلاً
تدخل وتخرج عبر الباب

في الفلم الصامت بشر ينتزعون
أنفسهم بحركة بطيئة كلٌ من انتظاره

رأيتُ شفاهاً تحاول تقبيل نفسها
بمعونة آخرين

لما انطفأ الضوء واشتعل ثانية
من دون أن يحدثَ أدنى فارق.

في مصبغةٍ يسمونها
Love-on.

صوت الفضاء

الصوتُ من نجمةِ صبحٍ مستترةٍ في السماء
بلغَ بتأخيرٍ كبير شقتي

مزجَ هناك دمدمته المحترزة المجهولة بالصوت
مثل بضعة ملايين من خطواتي على مرّ الزمن

مرسلٌ من مكانٍ ما عند المدخل.

المساء متخمٌ بالندى

أقفُ خارج البيت حيث أسكن
على وشك أن أفتح الباب

حين تجمّع بخار الماء من الهواء
قطراتٍ كرويةٍ عقب المساء على نسيج العنكبوت

مشدود بين الزاويتين العلويتين لإطار الباب
كما لم يحدث من قبل

لا قلب لي لتدميره
وقد تألقت الحياة أخيراً

اكتمالٌ تحت المصباح أعلى الباب
وأخيراً أنا وحيدة جداً مع أي شيء آخر.

خدعة

أنا كما في معركة كلاب على الحشيش
مع الملايين من كلمات السر
التي اشتبكت ببعضها

الممرات بعيداً عن كل عشبة
تبدو محجوبة في صور الساتالايت
وحركة المرور لذا توقفت في حالة تأهب

جندي في طريقه لتسليم نفسه
كجثةٍ في يوم محدد من الشهر
يضيع ويستنشق معصميه

مستثمر كبير بعد الجراحة يتجرأ
بجعل نفسه مضاداً للرصاص
للقاءِ قمةٍ مدروسةٍ مع أناه

في معركةٍ مستمرةٍ مع الكون ليصير الأكبر
حيث الظلمة رغم شحوبها تكوّن أخاديد
في حقول الكواكب.

مخلوقات التوق

تتباين ملابسهم بمقاسات مضبوطة
وتصبّ في ذكرياتِ غابةٍ في فلم

الشَعر مسرّحٌ عند الصدغين
عامر بجينات البلدان تلك حين تضيء

عظامهم بكامل حيويتها
داخل البناطيل بأعضائهم الجنسية

مع الأحذية بأقدامهم
بجيوبهم مع الظلمات

في الآذان بزئير الماموث
بُقَعهم التي تغشي البصر تختفي ليلاً

حشودهم تجرفني معهم.



حلقة من أسياد معترف بهم الحديث يدور عند أبواب تحت بناء ومواد تذكّر بفن الرشّ

ما بين أنواع الحيوانات ما بعد الذكية

جراثيم زغبيّة مسجلة تسقط مترنحة في طبيعةٍ
حيث الفاكهة قد أفرغ جوفها تتعلّق مثل هياكل مركبات
قيعانها في الهواء

أسفلاً في القمة ما بين السماء السابعة وبيني
حيث كان من قبل هناك هواءٌ عادي يمكن الرؤية عبره

البعض ليس له ذيل في الخلف أو الأمام
آخرون أكثر لا واقعيةً من أعوام وزرائهم

تحت لحاء الحور هناك تلك الحيوانات الأخرى
التي تمسك بالصمت لئلا ينمو
وترسل نظرات غريبة إلى بعضها



الآن أنا أكثر نعومة دموية زرقة تبجحأً رحمة توريقأً من عمل

بمناسبة النهر

البناتيّات عند النهر يتصارخنَ يلعبن
أنهن أجساد اصطناعية بأكملها
الرجوليون يبحرون في قارب
المحليون يتذوقون الماء

الجسمانيون يدعون أنهم تحولوا إلى صعبين
يودون أن يمسكوا بأيدي
الولاديون ينضون ثيابهم عنهم ويغسلون بعضهم

ما بين البردي يقف الواقعيون ببله غريب مائلين
البناتيّاتُ يتصارخن يلعبن أنهن أجساد اصطناعية بأكملها

الأموميات يرفرفن بشعورهن وأطرافهن والمربوطون بالوقت ينسحبون
النسوانيات يبحرن في قاربٍ
الغريبون يظهرون

بأجزاء أجسادهم العليا العارية المناخيون يتحدون بالصافي
الولّاديّون يصيرون أكبر سناً الموتى يبتسمون منذرين بالخطر

المتساوون يتبادلون النظرات برجل النهر الجنسيّون يتهيأون
الانسانيون بالإمكان أن يكونوا آخرين

الخطيرون يعتنون بكبار النهر
الهشّون يرتعدون بأفخاذهم
البناتيات يلعبن أنهن أجساد اصطناعية بأكلمها المحتفلون يصيرون
في أواخر الليل
بمناسبة النهر النهر والنهر من جديد.

عند النافذة

هناك طريق إسفلتي على الزجاج. الحياة تتبع الطريق صاعداً نازلاً على الزجاج.
هناك زاوية من بناية صفراء كبيرة على الزجاج بزجاجِ نوافذٍ أخرى.
مضبّبة بفعل الرطوبة عقب التقاء الليل بشمس الصباح قبل قليل على الزجاج
هناك هالات سود تحت العينين على الزجاج
هناك جدران في طريقها لأن تشبهني على الزجاج.
هناك مئات من الألوان المتفجرة للأشهر وآثار
لغيومِ أم أربعٍ وأربعين على الزجاج.
هناك صوت مثل فلين يُدعَكُ على كريستالٍ حين يظهر راكبو الدراجات
على الزجاج.
أضواء وحشية من أعضاء جديدة ومتبرعيها تبدو وكأنها
قيد الاستخدام دوماً على الزجاج.
هناك زرقة تامة في الأعلى على الزجاج.
هناك زجاجة بيرة فارغة على سلّمٍ كما يقترب جامع الزجاجات
على الجانب من الزجاج.
هناك صدعٌ في مرأى الزجاج لمنظري على الزجاج
بحبوب اللقاح على زجاج النافذة التي يتعذر عليّ فتحها.
لا، ها هي تنفتح.

Love-On

أنا فكٌّ بيضوي
معرّض لمنتجي الخوف

انذارات ببراءة اختراع
تضغط على شفتيّ

أنا مادة مرآتية
مذرورة مثل صبغةٍ على وجهي وجسدي

أجلس وأتصور
أنني لست إنسانة.




حيوان زجاجي يشبه نوافذ متنوعة، يرمز إلى أنها عند نغمة عالية خاصة ستتشظى


في حالة رقمية
صفر



حدث إني اليوم شعرت ببلوزتي وقد صارت رائحتها من رائحة صديقي ذاتها بعمر السبعة الثمانية التسعة سنوات

هي لا تودّ أن يظهر اسمها

أقرأ مقالاً في الجريدة عنها ( هي لا تود أن يظهر اسمها) التي اخترعت نفسها وتتفحص الآن رغبات الوجوه.
مبكراً جداً عودة إلى الوراء مذ كانت في حوالى السادسة من عمرها أدركت أن هذا هو ما تريده.
وبدلاً من اللعب مع الأطفال الآخرين كانت مستغرقة بأفكار وانشاءات عن نفسها والرغبة في الوجوه التي تقابلها في يومها وفي المرآة.
لم تشعر أن أحداً من عائلتها قد ضغط عليها لتسلك هذا الطريق.
جاءت من بيئةِ طبقةٍ متوسطة من ممرضة وحرفيّ.
اختراعها أي أنها ذاتها التي أثارت ضجةً في حلقات ذوي الأجناس المختلفة المتخيلة والتي كانت قد خطتْ بقدمها داخلها لاحقاً كنوافذ إدارية.
تم سؤالها أخيراً عن مصدر اهتماماتها
كل تلك الغرائز في الوجوه ولا بد من الصعب ضبطها. والتوق أيضاً.
صمتٌ لزمن. بينما هي تشير من الجريدة إليّ.



أي تجمعٍ كان بالأمس هذا ضيوف الشاشة المسطحة أشباه البشر

حاجباي

حاجباي حياتان دقيقتان بشعيرات قصيرة
ذاتها كما في الطفولة

يتعاليان فيما عداه على ما
يدعوني لأن أخفي وجهي بين يديك.

لأني كنت هناك كما لو أني قد كنت هناك


متآكلة من صورِ صورِ الصور
أنهض خارجة في صورِ صورِ الصور

أخوض عبر صورِ صورِ الصور
إلى الطائرة وأحطّ وأطير إلى صور جديدة

من صور الصور التي ألتقط لها صوراً
صور الصور لــ .. وأشارك على النت

من صورٍ أثناء الالتقاط بصورٍ مني
أنا أدخل وأخرج في وألتقط صوراً لـ..

لأني كنت هناك كما لو أني قد كنت هناك
وأقذف بها إلى النت كتوثيق

من صورِ صورِ الصور للصور
التي تكسب صور الصور عبر كونك معهم

صورٌ حيث أصورني ل على صور الآخرين
لأني كنت هناك كما لو اني قد كنت هناك
دائماً.

Love-On

صوت أكثر حدة من صوت طفل يملأ مقهى آمن
«أنت تشربين العتمة الآن»
يقول لكِ يا من لا تشربين القهوة مع الحليب.
«أنت تشربين ضباباً بنياً الآن»
يقول الصوت أكثر حدة من صوت طفل يريق البياض
في الأسود عندما لا يكون هناك غيره

لكل جرعة تأخذونها من كل كوب من دون أن تعرفوا
من أين يأتي الصوت يظهر الصوت
أكثر حدة وحدة في الحديث من صوت طفل

أحدهم نجح يوماً في أن يحصل عليه




مَنْ هو فائق الحساسية تم ازعاجه