بعد نحو عشرين رواية، صدرت أخيراً «ليل العالم» (دار الصدى) للكاتب السوري نبيل سليمان. ولئن تزامن صدور باكورته الروائية «حين ينداح الطوفان» (1970) مع موجات التجريب والتحديث في أساليب الكتابة العربيّة، فإنّ المؤلّف آثر الطرح الفكريّ على الإيغال في اللعب في أشكال بناء عوالمه الروائية، إذ لم يكن منجذباً بقوّة إلى هذا الاتجاه التحديثي بقدر ما كانت الفكرة تستهويه وتغريه. ولعلّه في «ليل العالم» نحا منحىً آخر جديداً يتجاوز به ما أنجزه، ويضيف إليه حين زاوج بين الفكرة وحداثة التشكيل، إذ يذهب بعيداً هذه المرّة في الاهتمام بالتشكيل والبناء، رغم أنّ العوالم التي يتناولها من صميم ما هو متكلّس ومتحجر في الثقافي. يبدو هذا من خلال العنوان «ليل العالم» الذي يعيدنا في مستوى تأويلي أوّل هو عصر الظلام والانحطاط والتخلّف، إلى ما قبل النور والأنوار. هذا ما رسمته الرواية من الراهن الذي أطلق فيه "داعش" سعاره الوحشي على مدينة الرقة السورية، حيث يتمركز فضاء الرواية. بيد أنّ هذا العنوان لا يمكن أن تفكّ مغالقه ويسلم مدلولاته إلّا بعد قراءة الرواية وتنزيلها منازلها من السياق الذي أنتجها. وهو سياق تشكّله مجريات ما يحدث في مشرق العالم العربي ومغربه بما يعمّه من ظلام غلّف الأرواح والعقول مثلما غلّف الأجساد والأمكنة، أسهم في صناعته العالم وبناه بطائراته أو براياته. هذا ما بشّرت به فاتحة هذه الرواية (خنق هفاف) وما آلت إليه الحكاية فيها (إعدام منيب بإغراقه في النهر في صندوق من الحديد)، إذ إنّ كليهما لا يخرج عن أن يكون موتاً مهماً تعدّدت أسبابه واختلفت فواعله وتباينت صوره وأشكاله. من خلال إخراج «ليل العالم» إخراجاً جديداً، عمد مؤلّفها إلى توزيع الحكاية على أقسام، جاعلاً لها ما يشبه المقدّمة، وأطلق عليها «كالمقدمات»، وقسّمها قسمين (الإعلان، وهكذا قتلوا هفاف)، وأردفها بما يشبه الأبواب والأقسام الكبرى وعنونها بـ «كالمتون» ووزّعها على فصول أربعة (فصول من زمن الخنق، فصول من زمن العشق، فصول من زمن التيه، فصول من ربيع أبيض ربيع أسود). وكلّ فصل من هذه الفصول بُني بأجزاء صغرى معنونة. وعناوينه مختلفة المراجع والمدلولات، وتعالقها بالحكاية ليس على حال واحدة ولا تستقرّ على وجه واحد. منها ما هو متعلّق بأسماء الشخصيّات، ومنها ما يحيل إلى صفة من صفاتها أو إلى حالة من حالاتها، ومنها ما له صلة وثقى بالأمكنة التي تأطّرت بها الحكاية أو ما ورد فيها من أشياء، ومنها ما هو موصول بوجهات النظر، معبّراً عن المواقف والاقتناعات، ومنها ما هو مرتبط بالحكاية كاليوميّات أو غير ذلك. ما يمكن قوله في الإخراج المتوخّى لهذه الرواية أمران: الأوّل أنّه طريقة مستحدثة في توزيع المادّة الحكائيّة، تأخذ من سابقاتها وتضيف إليها، منفتحة بذلك على أجناس خطابيّة أخرى، إبداعيّةً كانت أو غير إبداعيّة. وأمّا الثاني، فهو أنّ هذا الإخراج يساير بتقسيمه مراحل تشكّل مشروع الدولة الوطنية العربية ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى الراهن المزامن لفعل الكتابة، وهو الذي يمثّل بؤرة الحكاية المركزية لهذه الرواية.
رغم القتامة التي تميّزها، تبدو عوالم هذه الرواية طريفة ماتعة. تحاصرك لقراءتها رغم طول نفسها الحكائي وضخامة حجمها، بفضل ما يمتلكه رواتها من صنعة وقدرة على التشويق بما يفتحونه من آفاق انتظار بحثاً عن أجوبة لا تنحصر بحدود الحكاية فقط. تفيض على اللحظة التي يعيشها المتلقّي، عساه يظفر بما يزيل عنه المستغلق من واقعه وينزع عنه غلالات اللبس في عالم لا يتضح فيه سوى التوحّش والدمار كما يتبدى أمس واليوم في مدينة الرقة التي جعلها «داعش» عاصمة خلافته.
لا تقتصر طرافة هذه الرواية على عتباتها ممثّلةً في الإخراج الطباعي والعناوين الرئيسية والفرعية، بل يتعدّاها ذلك إلى مستويات عديدة، منها الموضوع الذي تخوض فيه الرواية أو تؤثّث به حكايتها. وهو من الموضوعات الراهنة المتصلة بالمعيش اليوميّ للمؤلّف والإطار الزمني الحاضن لفعل الكتابة المشدود بنقيضين لا يوحّد بينهما إلا فعل الموت وجغرافيا الدمار وفوضى الحضارة، متّصلة كانت بالروحيّ الرمزيّ أو متعلّقة بالماديّ الجسديّ. ذانك هما القدامة والحداثة وفقاً للوعي الذي تلقّفهما أو أعاد تمثلّهما أو تفعيلهما خدمة لأجندات خارج إطار ما يمكن الإنسان به أن يكون إنساناً.
ولم يكن لهذه الرواية أن تصدح بهذا الطرح إلا عبر العناصر التي تكونها. ولا نقصد في هذا المقام العناصر الحكائيّة أو السرديّة فحسب كالحكاية والخطاب، ولكن ما وضعه الروسي باختين كخصيصة جوهرية يتميّز بها الجنس الروائي من سائر الأجناس الخطابية، تلك هي الحوارية، التي تدرك في هذه الرواية من مداخل شتّى، منها ما هو من الخطاب المرويّ، ومنها ما هو من الخطاب الراوي.
الحكايات في هذه الرواية تناوب على سردها رواة كثر، وتحمّل همّ روايتها أعوان مختلفون. وكانت حيناً بضمير المتكلّم، وحيناً بضمير الغائب. تقاسم الرواي فيها السرد مع شخصيّات حكاياته فتحوّلت من فواعل ملفوظ إلى فواعل تلفّظ تروي عن نفسها أو تروي عن غيرها.
لقد امتزج في هذه الرواية الجدّ بالهزل، بل صار الجدّ فيها هزلاً والهزل جدّاً إلى حدّ البكاء، إذ لا فرق فيها بين «الخنق» و«الذبح» و«الشنق». ولا فرق فيها بين الاعتقال والسجن والأسر والسبي. ولا فرق فيها بين ربيع وشتاء وخريف أو ليل ونهار، فكلاهما أصبح «ملتوتاً بالدم» مكفّناً بالليل والسواد في الحفرة الجهنمية الأسطورية (الهوتة) كما في الرقة أو في دمشق أو في بوعريريج الجزائرية أو في تونس «البوعزيزي» أو في العالم.
لقد تشكلت العوالم الحكائية في هذه الرواية بأجناس خطابية مختلفة. داخل النثر جاء الشعر، وامتزج التخييلي فيها بالحقائقي والواقعي بغير الواقعي. إنها عوالم شتّى وتفاريق، مستوحاة جميعها من الحاضر ومشبعة بروحه ومستقطرة منه.
تلك هي «ليل العالم» لنبيل سليمان، وما يمكن أن نلتقطه ممّا تزحمنا به من أحداث وحكايات وشخصيّات وأمكنة وأزمنة حاول مؤلّفها بها أن يؤرّخ لهذه اللحظة الفاجعة من تاريخ العالم العربي تأريخاً روائياً لا يجيب بقدر ما يفتح على السؤال، ولا يكشف بقدر ما يوحي ويلمّح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنسيرت: استندت العوالم الحكائيّة إلى أجناس خطابيّة مختلفة