إدراك أهمية هذا المؤلف تقتضي التوسع، ولو قليلاً في توضيح بعض معاني هذا الفرع العلمي المسمى أنثروبولوجيا. الأنثروبولوجيا علم دراسة الإنسان أو الجماعات الإنسانية وسلوكها عبر التاريخ إلى الحاضر، ويرتكز إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية أو السوسيولوجية. لكن ما يهمنا هنا هو الأنثروبولوجيا التطبيقية، فهذا المؤلف معني بهذا الجانب من الدراسات الانثروبولوجية التي هي دراسة الغرب لبشر بقية العالم بهدف فهم آلية تفكيرها وكيفية تصرفها، وبالتالي كيفية التحكم فيها. هذا الفرع الإنثروبولوجي نشأ منذ الحرب العالمية الثانية، موضوع مؤلفنا، حين اضطرت الدول المستعمِرة للتخلي عن المستعمرات، ونشأت الحاجة إلى العثور على آليات أخرى للتحكم بالبشر «الأقل تطوراً». هذا الجانب يغطي مجالات متعددة من الإنتاج البشري الاجتماعي، ويمكن للمهتم متابعة الأمر في المراجع ذات العلاقة.
مشروع علمي اجتماعي يرمي إلى الحقيقة بالدقة والشفافية

أما كاتب هذا المؤلف، الثالث والأخير في موضوعه، البرفسور دفيد برايس، فهو عالم أنثروبولوجيا درس المادة في «جامعة شيكاغو»، ثم أصبح أستاذ المادة في «جامعة سانت مارتِن» في واشنطن. هذه الخلفية الأكاديمية ضرورية لمعرفة مدى قيمة هذا المؤلَّف، بعيداً عن الانطباع الإثاري الذي يحمله العنوان. ذلك أنه يتناول بالبحث المفصل والمعمق علاقة الأبحاث الأنثروبولوجية في الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية بمختلف الأجهزة الاستخبارية هناك منها «وكالة الاستخبارات المركزية» و«مكتب التحقيقات الاتحادي»، أي الـ «إف. بي. آي»، وكذلك مختلف أجهزة الأمن العسكرية الأميركية. يضاف إلى ذلك حقيقة أن الكاتب معروف بآرائه السياسية التي يلقي بعضهم عليها صفة الراديكالية. أحد زملائه كتب: راديكالية دفيد برايس هي أفضل أنماط الراديكالية لأنها تنبع من التزام فكري وضيم شخصي.
من الصحيح عدّ هذا المؤلف التاريخ الاقتصادي للأنثروبولوجيا، ذلك أن الكاتب يكشف فيه، بالأسماء ارتباط خريطة الأبحاث الأنثروبولوجية في أجندة وكالات الأمن الأميركية التي كانت تهيمن عليها وتفرض عليها السير في اتجاهات محددة تخدم أهداف واشنطن المعلنة والمخفية. بهذا، فإن البروفسور دفيد برايس يوضح أن تلك الأبحاث كانت سلاحاً في يد تلك الأجهزة، وأن العاملين في مختلف حقول الأنثروبولوجيا قبلوا أن يتحولوا إلى جند في جيوش الاستخبارات الأميركية.
أهمية المؤلف تكمن أيضاً في أنه يحدد بالاسم الأفراد والمؤسسات التي قبلت تلقي الدعم المالي من أجهزة الاستخبارات الأميركية، المعروفة والخفية، بل حتى أسماء العلماء الذين قبلوا المبالغ المالية، ومقاديرها (انظر مثلاً ص 44 التي تحوي أسماء مستشاري وكالة الاستخبارات المركزية في برنستن. وفي ص 80-81 ثمة لائحة بأسماء العلماء الذين قبلوا الهبات المالية من إحدى الهيئات الأنثروبولوجية المتخصصة في شرقي آسيا، التي عملت لصالح أجهزة الاستخبارات وهي المسماة CIMA). أخيراً وليس آخراً، لائحة بأسماء الهيئات التي شكلت واجهة لوكالة الاستخبارات المركزية في حقول الأنثروبولوجيا ولائحة إضافية بالمنح التي تلقتها بعض الهيئات.
انطلاقاً من الحقائق الكثيرة التي يحويها المؤلف، المرتكز إلى الوثائق الأصلية التي حصل الكاتب عليها بموجب قانون حرية الإعلام (Freedom of Information Act - FOIA)، يتجلى أن نظريات حقل الأنثروبولوجيا المرتبطة بالقوة والاقتصاد والإثنية مرتبطة بأجندات وكالات الاستخبارات الأميركية التي مولتها، سراً. أي أن نتائج الأبحاث التي أنجزت مرتبطة بمشروع الهيمنة السائد في الحرب الباردة.
أما المقصود بالقول «التوظيف المزدوج» فإنه ـ وفق الكاتب ـ مأخوذ من التعبيرين العلوم البحت والعلوم التطبيقية. كم المعلومات الوارد في هذا المؤلف، والسابقَيْن له قد يعطي الانطباع بأن الكاتب غاب في تفاصيل الوثائق، لكن الاستنتاجات التي يوردها والحقائق المرتبطة بتلك الأبحاث المذكورة توضح أنه تمكن من رؤية الصورة كاملة، علماً بأن المؤلفات الثلاثة تبقى مرجعاً أساساً لكل دارسي تاريخ الإنثروبولوجيا.
مؤلف «أنثروبولوجيا الحرب الباردة» مشروع علمي-اجتماعي قصده الوصول إلى الحقيقة عبر الدقة والشفافية.
كلمة أخيرة، لعل هذا المؤلف يوضح الأهداف الحقيقية لكثير من الهيئات البحثية الغربية التي تعمل في بلادنا، من دون رقيب، وأن الحديث عن عِلم محايد يعكس هبل المروّجين له. فليس ثمة من شيء مجاني في الحياة، سوى الجبن في مصيدة الفأر.