ليس غريباً أن ينبثق الشعر من أرض العراق عربياً، ولكن الغريب أن تنطلق أصوات متميزة من ثقافات مجاورة للهيمنة العربية شعرياً هذه المرة. فقد فتحت أحداث «داعش» وفعاليات الابادة والتهجير القسري أبواباً لظهور الاثنيات والهويات الهامشية في المجتمع العراقي بشكل مباشر لم يكن ليحدث لولا المتغيرات الجسيمة التي حصلت ما بعد 2003 وحتى الآن. كانت أحداث الطائفة الايزيدية أخطر وأشرس ظاهرة للعنف في العراق منذ أن احتدم الصراع الطائفي، وتصدرت مشاهد سبي وقتل النساء الايزيديات وأحداث جبل سنجار، الصحف العالمية. من هنا، جاءت هذه الأصوات الشعرية لتقول كلمة من وجهة نظر ثقافية مختلفة، تحمل بين طياتها نزعة التفرد، في ضوء قيمتها الاختلافية رغم أنّها مكتوبة باللغة العربية، بدءاً بالمرموزات الدينية وانتهاء بطبيعة الواقع المعاش وحتى الأماكن الجغرافية والممارسات الاجتماعية.المجتمع الايزيدي يميل الى العزلة، فديانتهم ليست تبشيرية ولا يقبلون بدخول الآخرين. يعيش أغلبهم قرب الموصل ومنطقة جبال سنجار في العراق، وتعيش مجموعات أصغر في تركيا، وسوريا، وألمانيا، وجورجيا وأرمينيا، وهم ينتمون عرقياً إلى أصلٍ كرديٍ ذي جذور هندو أوروبية، مع أنهم متأثرون بمحيطهم الفسيفسائي المتكون من ثقافات عربية وسريانية، إلا إن هذا الوضع انتهى تقريباً مع متغيرات العصر الالكتروني، وتداخلت الأحيال فيما بينها من دون تمييز إلا في حدود الصراعات العنيفة مؤخراً.
الشعراء الذين سنطلع على تجاربهم (ريهام الشمساني، جااف، زيدان خلف، سرمد سليم، سعد شفان) لم يأخذوا مرجعياتهم من الشعر العربي القديم وليس فيها تعقيد لفظي أو تصنع مبالغ به، غير أن صورة الحرب والشعور العميق بمأساة السبي والاغتصاب الذي مارسه داعش في مناطقهم ستظل لحظة سوداء في ذاكرة التاريخ، لذلك لا بد من رؤية المزيد من تداعيات الحرب والمكان داخل النصوص، من أجل التعرف إلى الهوية الذاتية بلغة مركبة لكنها عميقة وتتسع كلما توغلنا معها.
يتميز الشاعر جااف بصوت متفرد على مستوى الشعرية الأخاذة ومزج الثقافي بالموضوع. يكرس فكرة الموت وينطلق من تقنيات الحوار نحو تركيب شعري وجودي لتفسير الحدث. أما الشاعران سعد شفان وسرمد سليم، فهما مشغولان بالحدث اليومي ومتابعة المأساة التي قدمتها الحرب بصيغة المفارقات الشعرية في خضم الألم الجسيم المحيط بظاهرة العنف والتهجير، والتركيز على جبل شنكال بصفته الحاضنة والهوية والمكان لتفاصيل الجحيم العراقي. في الجانب الآخر، نجد الشاعرة ريهام تقدم لنا خلاصات ثقافية مهمة، انطلاقاً من وجهة نظر نسوية أولاً ومن ثم إثنية تعتني بتداخلات الذاتي مع المرجعيات الثقافية للحاضنة الايزيدية لبناء موقف مضاد ومواجهة أزمة الإبادة التي مارستها داعش ضد الإنسانية، كواحدة من أعتى صور الوحشية في عالما المعاصر.
هنا قصائد مختارة للشعراء الخمسة:



*جثة تمشي على رصيف الأفق


*جااف
الجثةُ هذه لفتاةٍ سمراء، كانت تبلغ من العمر إبادتين حسب التقويم الفرماني. كانت تلعب اللعبة الشعبية "بيلكو*" مع جارنا المشاكس، وحين رمت الحجر الشبه دائري إلى المستطيل المرسوم على الأرض، فجأة تمسّك بها بالون من النار وطار بها إلى السماء.
في يدها اليمنى
قشرة الأمس،
وفي يدها اليسرى
ساعد التأريخ،
على جبينها عصور من غمام،
وبين عينيها الناعستين قطعة من قبلة أمها
- المحطة الأولى
رأت إلهاً بعين واحدة جالساً على صخرة من ضوء
يدخن السديم
ويقضم كويكباً صغيراً،
سألتهُ عن سبب دعوتها
فأجاب: لا أعرف
أنا حارس القدر لا أكثر.

- المحطة الثانية
كان هناك إله يعد أصابع قدميه
1, 2, 3, 4, 5, 6 لا 6, 5
ثم يلكم رأسه ويعد من جديد
1, 2, 3, مم 4, 5, مممم نسيت مرة أخرى
فنادته: أيها العليم، أيمكنك أن تخبرني، لِم أنا هنا؟
توجَّه نحوها الإله وهو يتكئ على عكازٍ من دم وأجاب:
أعتذر منك يا طفلتي، فأنا أعمل محاسباً هنا لا أكثر.


- المحطة الثالثة
ابتسمت حين رأت امرأة، قالت في سرها:
كم تبدو السماء جميلة مع هذه المساواة التي لم تنعم بها الأرض.
يا أماه، قولي ما الذي سأفعله هنا؟
يا طفلتي، لا سلطة لي هنا منذ سقوط بابل
وظيفتي هنا، تنظيف الأفق من بقع الدم التي تمطر علينا من الأرض.

- المحطة الأخيرة – مقر القيادة
مساحة منعزلة، غرفٌ ضبابية.
تقدمت ودخلت القاعة الكبيرة. في زاوية منها جماجم على كفي ميزان وفي زاوية أخرى امرأة في قفص، وفي الوسط ثلاثة رجال على كراسٍ من أوراق الزيتون.
ذهبت إليهم وقالت أيها الكرام الأزليون الأبديون، لِمَ لم تتركوني أكمل اللعبة؟
فقال الأصلع الشاحب الوجه: نريد منك أن تخبرينا عن رأيك في الموت؟
أجابت وشفتاها ترتعشان: انه طيوب، جميل ومرح. والحيادي الوحيد، يلعب مع الجميع دون استثناء، يذهب كثيراً إلى غزة، سنجار، حلب، آمد، بغداد ويزور الأطفال بكثرة، حتى أولئك الذين لا مأوى لهم. حقاً إنه العادل الوحيد، كما أنّه يحترم المرأة جداً. قبل أن ينطق الأصلع بكلمته، صاحت: دقيقة، دقيقة، لقد أخبرنا نيتشه بأن الموت استضاف الله أيضاً.

* جااف (جعفر جوقي سمو)، مواليد عام 1994 في بلدة شنكال (سنجار) التابعة لمحافظة موصل ومنذ أغسطس عام 2014 إلى كتابة هذه الأسطر نازح بمحافظة دهوك. يدرس علم النفس في جامعة دهوك. يكتب الشعر باللغتين العربية والكردية كما أنه يترجم بين اللغتين ولديه كتاب مطبوع في مجال الترجمة ومجموعة شعرية تحت الطبع.

** لعبة شعبية تتم برسم مستطيل من ستة أو ثمانية مربعات على الأرض ثم رمي حجر دائري الشكل في المربع الأول ثم الثاني والثالث وهكذا دواليك والقفز من مربع لآخر على ساقٍ واحدة، وإذا ما حدث ولامست قدم أحدهم الأرض يعتبر خاسراً.


* يُتْمٌ من جهة الكينونة

* زيدان خلف

أُحاولُ أن أكون...
أحبلُ بي، وألدُني كائناً - أيامهُ لا تُجيد الحبوَ -
لا يتقبَّلهُ أيّ من حقول التقويم المُرقّمةِ بصفرٍ وأعلى،
إذ كل الأيامِ عواصفُ تنقضُّ على شمعي،
أدندنُ لي في سريري الذي يُبلّلهُ أنا،
أخشخشُ في رأسي المثقلِ بالشائعات والأسطر التي لا تخلو من الموت،
أدسُّ في فمي لهايةً ولا أكفُّ عن البكاء،
أستفزُّني بلساني ولا أضحك،
أضعُ خنصري بين فكيَّ اللذين لم يحصدا أسناناً بعد، وأطلب مني أن أعضّني كي أشعرَ أكثر، سوى أني تمثالٌ ناقص
أُعلمُني الخطى؛ أُشلُّ،
أطفئ الأنوار ولكنني لا أبقى مُضاءً،
أُغطيني نائماً بأحلامٍ هانئةٍ عشرات المراتِ في الليل الذي يرتشفُ نصفهُ الفارغ، غير أنني كابوسٌ مرعبٌ لي!
أُعلمُني النطق وأُخلِّفني مُطرباً أبكمَ،
أنظّفُ النصائحَ بقطعة قماشٍ وأُمررها لي، لا أستقبل!
ألمسُني بموسيقى لأحنَّ، لكنني أقذفُني بألفاظٍ تليق بي وحدي،
حتى وإن كان بشكلٍ سيئ أو محترق، فأنني أطبخ،
أنحتُ طاولةً من ظل في ذاكرة الضوء، صحوناً من خزعبلات، معالقَ وأشواكاً من ضحِك وكُرسياً مني لأُجلسُني عليَّ،
أطعمُني لقماً بحجمِ حبةَ التوتِ، أستفرغُ قبلَ أن تصِل!
أجلي الصحونَ وإن كنتُ أرتكبُ بحقها المجازِرَ، فإنني أجلي،
أخبزُ في التنورَ الطيني تحت المطرِ، فأشتعلُ غارقاً،
أهندسُ الأثاث والغُرف ثم ألتفتُ نحوَها مُتبعثرةً،
أنوّمُني بأحضاني، غير أن صوتَ القصفِ هذا يُخيفُني، يُخيفُني جداً ولا تكفُّ رُكبتاي عن الاصطكاك،
أستمعُ لهذا القلبَ الضئيل متطلعاً لقضمةٍ من أغنيةٍ شعبيةٍ ما، أعودُ بأخبارٍ عاجلةٍ عن قتل الكثير مني.
أحمّمُني بصراخي، إذ لم أتعلّمُ الحزنَ لأذرفهُ من عيني اللتين لا تنتجانِ دموعاً بعد،
أُلبِسني ثيابي بوضعٍ عكسي،
أُرضِعُني من قارورةَ الحليبِ فأغدو أصغرَ، كلما تراجعَ بي السِن وأُفطم،
وأثِبُ إلى رحمي جنيناً، فأُجهض،
ومثل كل مرةٍ أفشلُ أن أكونَ أماً لي!
أفشلُ أن أكونَ أماً لي!

* زيدان خلف (كوالا)، شاعر ومترجم من مواليد سنجار/ نينوى 1995 (نازح حالياً)، طالب في كلية الآداب قسم الترجمة (من وإلى اللغات العربية والكردية والإنكليزية) في جامعة دهوك.


*تساؤلات


*سرمد سليم
شنكال
من سرق القمر
من سمائك المضاءة؟
من قتل ضحكات الأطفال
في شوارعك الغارقة بالغبار؟
من سرق قمحك الأشقر؟
وترك العصافير تموت جوعاً في الحقول؟
من سرق أغنية "غريبو" وأنشودة "شرفدين"
من حنجرة خضر فقير؟
من الذي محا القصائد على جدرانك
وراح يكتب عليها الكراهية بالسكاكين؟!
من الذي أتى ليلا
وأطلق الرصاص على ظهرك؟
من الذي سبى البنات اللواتي لم يزلن في ساحات اللعب؟
من الذي أخذ قلبك
إلى الوجع
وجسدك الصغير إلى القبر؟
ومن ذاك الذي غافلك؟
من؟


* ثلاث قصائد

1

بائع الحطب
يركض إلى النار
الآن
يريد للغابة أن تنجو من الاحتراق.
2
في المنزل البعيد
المنزل الصغير الضيق
الآن نافذة واحدة فقط
كان الأب يحاول أن يعيد ابنه إلى البيت
فذهب إلى استديوهات المدينة
طبع صورته
وعلقها على حائط غرفة الأطفال
ثم قام بسد جميع النوافذ بالحجارة والطين
كيلا يذهب إلى الحرب
مجدداً.
3
لم أستطع أن أتزوجك
كنت أعرف أن الحرب ستبدأ
شعرت بالخوف من أن تنهضي ذات صباح
وتكوني أرملة
من أن تذهب الابتسامة من وجهك
ولا تعود أبداً.

*سرمد سليم خلف: مواليد سنجار 1993، حاصل على شهادة البكالوريوس في التربية وعلم النفس من جامعة دهوك. ترجمت نصوصه إلى الانكليزية والكردية.
نشرت له قصائد في ديوان "أيقظت رصاصتك قلبي" لمجموعة شعراء 2016.



*هذه الجمجمة تبكي بغزارة


*سعد شفان

سأعد المقابر مرة أخرى
وأحصى المجازر بكلتا اليدين
لقد توهم الله أسماء القتلى
صالح، قاسم، حسن،......،
حروف الأبجدية مختلفة
كما أن المقبرة التي خرجتُ منها
لم يمرّ عليها أحد
ليجمعَ عظامي المبعثرة
وجمجمتي الحزينة.

■ ■ ■

لي خيمةٌ أعانقها
حتى تعصر أحزاناً من ثيابنا
هذا الوطن مخيف، مخيف جداً
لم يركضْ إلى صدري
دون أن يحمل سكيناً
لم يقرأ شعراً
إلا وقد شنق الكلماتِ بأطرافِ الشجرة
سأركبُ أولَ حافلةٍ تخرجُ من هذه البلاد
وأتركُ حقائبي وقمصاني
ووجه أمي
لئلاّ يجدني أحد هنا.
صورة الحرب والشعور العميق بمأساة السبي والاغتصاب الذي مارسه «داعش» في مناطقهم ستظل لحظة سوداء في ذاكرة التاريخ


■ ■ ■

الطفل الذي صادفتُه في المخيم
كان يلعبُ بيدٍ واحدةٍ
أما الأخرى فكانت مقطوعة
ألوان، ابتسامات،
يجيدها بكلّ سذاجةٍ
يرسمُ نصفَ قريته
غير أنها لا تكتمل إلا بكلتا اليدين
خلفتْ له الحرب
قريةً بعيدةً
لا يصل إليها أبداً.

■ ■ ■

وزعوا الرؤوسَ حسبَ أجسادها
هذا من الجنوب
والآخر أيضاً
هذا من الشمال
والآخر رأس جاره
وهذا الصغير لمن يعود...؟
لم نجد له جسداً.


*أحمل الله على ظهري وأمشي

أنا ابن بائع
قُتل قبل سنوات.
في حانوتٍ صغير
زرعتُ يداً لي للكتابة
وقدمين للمشي
خرجتُ من رحم الورق
كي أبكي على الموتى بكلمات
وألعب بين السطور
كطفل قروي كثير الأحلام

■ ■ ■

أنا ابن بائع
تعرفني القرية كلها
والمقابر التي جلبت لها الحلوى يوم العيد
منذ أن كنت صغيراً
سكين الوحدة يصل إلى عنقي
إلا أنني أنجو كل مرة
كي أموت أكثر.... وأكثر
لم أر طفولتي بوضوح
لهذا ولدت شاباً في العشرين
أثناء الحرب
فلم يعرفني أحد من نساء القرية
رغم وسامتي ووجهي الحزين

■ ■ ■

أنا ابن بائع
لم يدعني أحد من أطفال شارعنا
لألعب معه
كان يجب أن أحمل أكياساً على ظهري وأصرخ بحنجرتي الضعيفة
تحت شمس الظهيرة
عن بضاعتي أمام حانوتنا الصغير
بينما الجميع يغرقون في النوم
أما أنا.. كان الله يحملني على ظهره ويبكي.


* سعد شفان: الاسم الكامل: سعد شمو ميرزا شفان، ولد سنة 1995 في مجمع خانصور تابع لقضاء سنجار في محافظة نينوى. فقد أباه سنة 2008.





*لستُ شرفاً ولست عاراً

* ريهام الشمساني
وجاءني ملتحياً..
يبزغ من جبينه نسر الإيمان
جاءني مسربلاً بسناء النبوءة
مشيراً إليّ بقضيبِ اتهام
نابذاً نسبي
راجماً طاووسي
جاء يحاكم
بسُنّته التليدة
شاهراً عضوه الذكري
في جسد العفة
فكل أنثى كُفِرتْ مثلي
تُنكح أربعين مرة
ليُنال بها الثواب
كل أنثى ثائرة مثلي
تنكح علناً..أمام الملأ
ليخبو نارها تحت وطأة الآلام
كل أنثى انتعلت الشريعة مثلي
تنكح.. لتُذل تحت مداس الأحكام
كل أنثى شهقت حلماً مثلي
تنكح.. لتُجثم أنفاسها في كوابيس الظلام
كل أنثى سَمَت بجناحها مثلي
تنكح.. لتُجزَّ حريتها بمُدية الإذعان
كل أنثى عشقت مثلي
تنكح.. ليُدفن فؤادها في مقبرة الأحقاد
أنا بقايا جثمان منكوحة
نُكح قدري
نُكح زمني
نُكح كبريائي
ونُكحت كرامتي
لا تهتفوا باسم جسدي المردوم
فرفاتي المهمشة..
ليست لوحاً.. لتطبيل الشعرات
لا تمرروا الصفقات
وتعقدوا العهود.. فوق جثتي المنخورة
فبقاياي ليست منصة لزعق الترهات
جسدي المستباح ليس شرفاً وليس عاراً
جسدي المنتهك ليس عفافاً وليس بغاءً
وبكارتي..
ليست نيشان طهر ولا وصمة عهر
أنا أنثى مغتصبة الحياء
إنسانة مسلوبة الإرادة
ضاجعها الألم
ضاجعها الحزن
ضاجعها الفجور
ضاجعها الجوع
ضاجعها الذل
ضاجعها نبي
ضاجعها اله
فلا تطبلوا وتهللوا... أو حتى تنعوا
باسم أوجاعي
قولكم أضخم من فعلكم
ودهركم ملّ خطابكم
فلا تجلجلوا باسم شرفي
وافهموا أني:
إنسان.. إنسان.. إنسان.