لا يعد القاص السعودي عبد الله ناصر في مجموعته «فنّ التخلّي» (دار التنوير) بأي نتائج مسبقة. من الواضح أنّ هذه النصوص هي نتاج ورشة عمل ذاتية؛ دأب من خلالها القاص على الجمع بين السرد والشعر. كما لعب التخيّل دوراً بارزاً في هذه النصوص مما جعل التجوّل خلالها أشبه بالبانوراما التي تجمع بين أماكن، وشخصيات، وتواريخ مختلفة. رغم أن المجموعة هي الأولى له، إلا أن الحرفية تبدو جليّة على مفردات النصّ المكتوب وتراكيبه كأنه مهندس حاول أن يضع كل حجر في مكانه المناسب من دون الحاجة إلى مطّ الحدث أو زخرفته بمحسنات بديعية. قراءة هذه المجموعة تشبه السفر عبر الزمن، احتساء القهوة التركية، الاستماع إلى موسيقى الدانوب الأزرق، والتفاوض مع همنغواي.
لقطات خاطفة تشبه الومضة الشعرية
يتعامل ناصر مع نصوص هذه المجموعة بما يشبه المخرج السينمائي. يقوم بتسريع اللقطات في مواضع بعينها ثم يهدأ من فورانها في مواضع أخرى. إنها محاولة تأريخ الموت لكن على الوجه المعكوس، كأن يقول في قصة «تاريخ آخر»: «ارتدت الرصاصة التي تزن عشرين غراماً وتبلغ سرعتها خمسين ميلاً في الدقيقة بشكل مباغت إلى صدر القاتل. واستدارت الدبابات النازية من طراز ليوبارد زاحفة عن عمد لتطبق حصارها على مدينتها الأم برلين. وعادت القنابل الذرية أدراجها في رحلة شاقة من هيروشيما وناجازاكي لتقصف واشنطن ونيويورك. والتفّ المنجنيق يرشق بسهامه المشتعلة دون هوادة جحافل الجيش المغولي ثم سقطت الصخرة الكبيرة، التي يحملها قابيل، لتشج رأسه بدلاً من أخيه الغارق في النوم». ومن موضع إلى آخر، يطرح القاص فلسفته الخاصة حول الإنسان الأول والخطيئة على الأرض. تحيلنا هذه النصوص إلى مفهوم القصة القصيرة جداً، خصوصاً التي تنتزع أنسجتها من القالب الشعري. هناك مجموعة من النصوص التي تتحوّل إلى لقطات خاطفة تشبه الومضة الشعرية كما في قصة «أحزان ثقيلة» حيث نقرأ: «تلك الحدبة على ظهره هي كل تبقّى من الجبل». في أحد مشاهد الفيلم الإسباني «البحر بداخلي»، يتخيّل البطل نفسه أمام نافذة مشرعة. وبمجرد أن يغلق عينيه، يتخيّل حاله محلقاً في الهواء في سطح البحر. إن قوة التخيّل هي صاحبة تلك القدرة العجيبة على تجاوز كل ما هو نمطي مألوف، وهذا ما حاول القاص استثماره في هذه النصوص. الفتاة تقف أمام النافذة فتبتل أصابعها بماء البحر الذي يبعد كيلومترات عنها، أو مراهق يتخيّل حاله محطماً جمجمة أودري هيبورن في سريره، وكذلك قيام أحدهم بملء المقعد الشاغر بجوار إحدى آنسات إدوارد هوبر.
يزاول «ناصر» الترجمة بشكل فردي على مدوّنته الخاصة، وهذا يفسر بشكل أو بآخر هذا المخزون الثقافي والبصري بين صفحات المجموعة. إن هذه المجموعة تعيد الألق إلى فن القصة القصيرة بين الأجناس الأدبية الأخرى. كما يجب التنويه إلى التنوّع البصري واللوني داخل المجموعة من خلال تسليط الضوء على مفردات الفن التشكيلي وأدواته. في قصة «عربة تسوق»، يقول ناصر: «يبيعونه الحقائب فارغة من السفر، والشبابيك مفتوحة بلا ابنة الجيران، والكمان مجوّفاً من عروض الباليه، والشموع مضيئة بلا أعياد ميلاد، والكعك خالياً من البهجة، والبنادق محشوّةً بلا أمجاد، واللون الأحمر منقوصاً مارلين مونرو».
ينبغي الإشارة إلى أن تيمة الأب حاضرة في هذه المجموعة من خلال تنويعات مختلفة كما في قصتي «مفاتيح الأب»؛ حيث كان الأب ينسى مفتاحه كل مرة في أرجاء المنزل، وكذا في قصة «في يوم الأب العالمي»؛ حيث كان الأب يترك هاتفه الخليوي مغلقاً طوال الوقت. إنها محاولة استعادة روح الأب الغائب عبر تقاطيع النصّ المكتوب فالأب هنا رمز للأمان والتكاتف المفقودان. تذكر هذه النصوص بالمجموعة القصصية «قصص بحجم راحة اليد» لكواباتا من حيث القدرة على التكثيف والتقاط مفردات البيئة المحيطة. لكن يبقى السر في هذه المجموعة هو الإنسان بكل ما يكتنفه من أمور عادية قد تبدو تافهة للآخرين لكن إعادة النظر فيها يجعل منها محطات فارقة. هذه المجموعة تصلح كوجبة فطور سهلة الهضم لكنّ عصارتها الفكرية تعتمل في الفم لفترة طويلة حتى يستمتع بكل عنصر فيها على حدة.