لن نجد أي حبكات بوليسية في مذكرات آغاثا كريستي (1890 ـــ1976)، كما كنّا نتوقع. هنا تذهب أشهر روائية بوليسية إلى حقلٍ آخر مختلف. زواجها من عالم الآثار ماكس مالوان وضع قدميها فوق تلال الشرق وكنوزه المخبوءة في رحلات تنقيب متتابعة ما بين العراق وسوريا. في «تعال قل لي كيف تعيش» (دار المدى ـــ ترجمة أكرم الحمصي) الذي صدر عام 1946، تستعيد صاحبة «جريمة بين النهرين» يومياتها في الجزيرة السورية، إحدى أكثر الجغرافيات ثراءً بالآثار القديمة، وبذلك تستكمل ما كتبته عن العراق في «كيف أحببت كثيراً هذا الجزء من العالم». في ثلاثينيات القرن المنصرم، غادرت آغاثا كريستي لندن بصحبة زوجها إلى سوريا، في رحلة طويلة عبر خلالها القطار اسطنبول إلى حلب ثم إلى بيروت. هناك تبدأ القافلة تجهيزاتها استعداداً للذهاب إلى الجزيرة السورية، إذ يرقد على كتف نهر الخابور نحو أكثر من مئة تل أثري لم تُكتشف بعد. تعبر سيارة الستروين المتهالكة مدينة بعلبك إلى حمص مروراً بتدمر إلى دير الزور وانتهاء بالحسكة. ستسمع من زوجها للمرة الأولى اسم «تل حلف» الذي يلتف نهر الخابور حوله «في زيارتنا إلى تل حلف شيء من وقار الحج إلى مقام ديني». (كان البارون الألماني ماكس فون أوبنهايم قد اكتشف هذا الموقع خلال عمله لبناء سكة حديد بغداد (1899)، وقد عثر على لقى أثرية فريدة نقلها معه إلى برلين).
ستألف الكاتبة البوليسية العيش بالقرب من القرى الطينية وخيام البدو
ستألف الكاتبة البوليسية العيش في الخيام بالقرب من القرى الطينية وخيام البدو الجوّالين، وستكتشف عالماً سحرياً وغرائبياً يخص طبائع هؤلاء البشر الذين ينتسبون إلى إثنيات مختلفة. في القامشلي، سيرحّب بهم صاحب الفندق بقوله «إنه فندق من الطراز الأول، فضلاً عن كونه مزوّداً بالأسرّة». صعوبة العيش في هذه المنطقة الحارة، لم تمنع الكاتبة من متعة امتصاص جماليات ثقافة الطين وسؤال التاريخ القديم عن كنوزه المدفونة منذ ستة آلاف عام. هكذا تتناوب جمالية وعاء خزفي تمّ اكتشافه في «تل شاغر» مع ليالٍ شاقة في غرفة طينية في عامودا مليئة بالحشرات والفئران، كما ستختلط مع نساء كرديات وبدويات جئن من أجل أن تعالجهن «خاتون» من أمراضٍ شتى، وستضطر إلى اختراع أدوية مرتجلة بوصفها طبيبة رغماً عنها. رحلة وراء أخرى بين التلال، تنخرط آغاثا بمفردات التنقيب وأنواع المكتشفات، وخصوصية هذه الحقبة من تلك، وقبل ذلك كله، كيفية عيش هؤلاء البشر في أرض الرمل والطين. تستنجد امرأة بماكس مالاوان كي تستعيد ابنها الذي يقبع في السجن. وحين يسألها عن سبب سجنه، تجيبه بأنه لم يفعل شيئاً يستحق السجن، فقط قتلَ رجلاً. تحفل هذه اليوميات بوقائع مشابهة عن السائق الأرمني، وعامل الحفر الإيزيدي، وسائس الخيل الشركسي، والبدوي الذي يغيب عن عمله في الحفر بمجرد أن ينال أجره في نهاية أسبوع عملٍ شاق، وعن الشجارات اليومية بين عمّال الحفر التي تنتهي غالباً بإسالة الدماء، من دون أن تفهم أسباب العراك لعدم معرفتها اللغة العربية، عدا كلمات بسيطة.
في موسم تنقيب آخر، يستغرب شيخ إحدى العشائر أنّ «خاتون» تقرأ وتكتب أيضاً. وبناء على ذلك، يطرح على ماكس سؤالاً إضافياً «هل تصف العقاقير للنساء؟ إن كانت كذلك، فسوف تأتي زوجاتي إليها ذات مساء كي يشرحن لها آلامهن». المفارقة أن معظم بدو المنطقة لا يعلمون من يحكم البلاد، ولم يسمعوا بالحرب. يكتفي أحدهم بالقول مستفسراً «هل أصبحت البلاد تابعة للإنكليز الآن؟ لا أستطيع أن أتذكّر. أعرف أنها لم تعد تابعة للأتراك».
ينتهي موسم التنقيب في «تل شاغر» عن مكتشفات مثيرة، كان على بعثة ماكس مالوان، أن تتقاسمها مع ممثلي حكومة الانتداب الفرنسي، لكن حصيلته من التماثيل والفخاريات والتمائم لا تقل أهمية عن تلك التي خسرها. تتجه البعثة إلى الرقة وتتوه في الدروب الترابية المتعرّجة، قبل وصولها إلى حلب. في فندق «بارون»، سيُطلق لاحقاً اسم آغاثا كريستي على الغرفة التي سكنتها، وكتبت فيها فصولاً من إحدى رواياتها البوليسية. في موسمٍ أخير، ستودّع البعثة «تل براك» بعدما دُفن تحت التراب ثلاثة رجال إثر انهيار التراب فوقهم خلال الحفر، من دون أن يحزن على غيابهم أحد من العمّال الآخرين. ستغادر آغاثا المنطقة من بيروت في سفينة مبحرة إلى باريس. في نهاية الحرب العالمية الثانية، عادت صاحبة «جريمة في قطار الشرق السريع» إلى استكمال يومياتها في لندن، وتدوين عشقها إلى تلك «البلاد الجميلة والخصبة وأناسها البسطاء الذين لا يمثّل الموت بالنسبة إليهم حدثاً جللاً».
نستعيد اليوم تلك التلال الأثرية التي أرّخت آثارها حضارات مهمة، من دون أن تغيب عن أعيننا أفعال البرابرة الجدد الذين استباحوا كنوز المنطقة ونهبوها وشرّدوا أهلها. وسوف ننتظر من سيخاطب هذا التل أو ذاك «تعال قل لي كيف تعيش»