وديع سعادة


ذاكرتي باتت ضعيفة، وأعتقد أن عليّ أن أشكر الطبيعة على هذا الضعف، لأن النسيان أجمل من الذكريات... أما ما بقي في ملمح ذاكرتي من نصوصي الأولى فهو نص بثلاث كلمات: «ليس للمساء إخوة».
كتبتُ هذه الكلمات كقصيدة كاملة. ولا أعرف لماذا بعد ذلك حوّلتها إلى عنوان لمجموعتي الشعرية الأولى، التي خطّطتها باليد، وبعتها باليد في شوارع بيروت.
لم أكن قد بلغت العشرين من عمري حين كتبتُ هذه الكلمات الثلاث. قبل ذلك كتبت كلمات أخرى ومزّقتها، واعتبرتُ أن هذه هي قصيدتي الأولى. لماذا اعتبرتها قصيدتي الأولى، لا أعرف. ولماذا «المساء بلا إخوة» حينذاك وأنا في عزّ فتوّتي وشبابي، لا أعرف. هل لأني كنت «أتدرّج من الشيخوخة إلى الطفولة وليس العكس»، كما كتب بعد ذلك الشاعر والناقد عصام محفوظ في صحيفة «النهار» اللبنانية عن مجموعتي هذه؟ لا أعرف. لكن المساء كان فعلاً بلا إخوة، وكانت تلك الكلمات الثلاث طالعة من عمق أعماق المساء، كانت طالعة من عمق أعماقي.
لا أظن أن موت أبي احتراقاً كان السبب الوحيد الذي أتى بهذا المساء وجعله بلا إخوة. ثمة أسباب كثيرة أخرى بلا شك، لا يمكن اختصارها بحدث معيّن أو بكلمات. أحداث كثيرة، تحدث كل يوم، وفي كل مكان، وكل واحد منها يجلب عتمة كي ينسج هذا المساء.
«ليس للمساء إخوة»، إذاً، لم تكن في البدء عنواناً لكتاب. كانت هذه الجملة قصيدتي النثرية الأولى قبل أن أجعلها عنواناً لكتابي الأول. كتبتُ في البدء بضع قصائد عمودية، لكن ما لبثتُ أن مزّقتها. أنا من قرية صغيرة في الشمال اللبناني اسمها شبطين، لم تكن تصل إليها أية كتب حديثة، ولا سيما في الشعر، وبقيتُ في هذه القرية حتى العشرين من عمري من دون أن أقرأ أو أسمع بتسمية «قصيدة نثر». لكني ذات نهار قررتُ أن أمزّق قصائدي العمودية وأكتب شعراً غير مقيّد بوزن ولا بقافية، مأخوذاً بحرية الكتابة غير المقيدة بأي قيد، مثلها مثل الإنسان الحر غير المقيد. ثم إن الشعر العمودي مقيد بأوزان وقوافٍ وبحور وغير ذلك من قيود، تقوقع الشعر العربي فيها لقرون وكأنه قابع في سجن وحان الوقت للخروج منه إلى حرية الكتابة... هكذا فكرتُ في ذلك الوقت وأردت أن أمزق قصائدي العمودية وأكتب بحرية. بقيتُ في ذاك النهار أتمشى لساعات على سطيحة بيتنا في شبطين ذهاباً وإياباً مفكراً ومتوجساً: كيف سيتلقى القارئ هذا النوع من الشعر، وهل أمزق قصائدي العمودية أم لا؟ وقررت أخيراً أن أمزق هذه القصائد وبدأتُ كتابة أولى قصائدي النثرية التي كانت بثلاث كلمات فقط: «ليس للمساء إخوة». ثم جعلتُ هذه الكلمات عنواناً لكتابي الأول.
مجموعاتي الشعرية التي تلت «ليس للمساء إخوة» هي سلسلة موصولة بكتابي الأول وامتداد له

كان ذلك في بداية عام 1968 قبل أن أنتقل إلى بيروت، وقبل أن أعرف أن هناك مجلة اسمها مجلة «شعر». وحين، في بيروت، تصفحتُ لأول مرة مجلة «شعر» تبدّد توجسي وشعرت باطمئنان أنّ خياري، وأنا في تلك القرية شبطين، كان خياراً صحيحاً.
«ليس للمساء إخوة» كتبتُه في زمنين: وأنا في قريتي شبطين عام 1968، وبين عامي 1968 و1980 وأنا بين بيروت وفرنسا وأوستراليا. ففي عام 1971، كما أذكر، سافرت إلى فرنسا مغامراً، بمالٍ قليل وحقيبة كبيرة حَشَتْها أمي بكل ما طاولت يداها. وفي باريس، لضيق أحوالي المادية، نمتُ في مأوى للعجزة وعلى ضفة نهر السين مع ورق الشجر على المقاعد، ثم حملت الحقيبة رامياً أغراضها قطعة بعد قطعة وأنا أجول في فرنسا بالأوتوستوب، وأنام أكثر الليالي تحت مواقف الباصات في ثلج كانون الثاني، حتى وصلت إلى الحدود الإسبانية ولم يكن معي عشرون «بيزيتا» رسمَ دخول إلى إسبانيا، فقفلتُ عائداً إلى باريس، وبالأوتوستوب أيضاً، إلى أن أنقذني أخي ببطاقة سفر إلى بيروت... وفي عام 1973 هاجرت إلى أوستراليا، وهناك عملت في المصانع، أستيقظ في الرابعة صباحاً لانتظار الباص والذهاب إلى العمل، وأعود في المساء كي أبيت منهكاً، ثم ما لبثت أن عدت بعد تسعة أشهر إلى بيروت، فور أن صار معي ثمن بطاقة السفر.
في هذه الفترة إذاً، ما بين عامي 1968 و1980، كتبت كتابي الأول «ليس للمساء إخوة». أي إن هذا الكتاب الذي يحوي 52 قصيدة فقط استغرقت كتابته 12 عاماً. ما يعني أني لم أكن أكتب القصيدة إلا إذا اندلقت هي وحدها على الورق، تولد ولادة طبيعية، لا قيصرية، ولا أكون بالنسبة إليها سوى مثل أم تستقبل مولودها بعد مخاض طويل.
في بيروت كنت أسكن في فرن الشبّاك عند أخي. وقبل سفري إلى أوستراليا عام 1973 خططتُ بيدي ما كنت كتبته من قصائد «ليس للمساء إخوة» وذهبت إلى شارع الحمراء، وإلى أمام كلية الآداب في بيروت وبعتها بيدي للمارة، بليرتين لبنانيتين للنسخة، ومجاناً لمن لا يدفع. لماذا فعلتُ ذلك؟ كي أختبر كيف ينظر الناس إلى الشاعر وإلى الشعر. كان هذا اختباراً جميلاً، فقد تعرّفتُ إلى شعراء شباب هم اليوم شعراء مكرّسون.
لماذا شارع الحمراء وكلية الآداب؟ الأول لأنه كان ملتقى المثقفين، من لبنان والعالم العربي، ويعجّ بالناس في حركة لا تهدأ ليلاً ونهاراً، وكانت القضايا والأحلام تنصهر فيه. وكلية الآداب حيث يمكن أن تعاين الجيل الأدبي الجديد عن كثب.
وفوجئتُ، أنا المبتدئ في الشعر، بأن عصام محفوظ يكتب في صحيفة «النهار» اللبنانية كلمة عن كتابي هذا، عنوانها: «انفتح باب الشعر لوديع سعادة»، ومما قال فيها: «وبينما كثيرون يتلمسون آثار الطريق الصحيحة، وضع وديع سعادة يده على مقبض باب الشعر فانفتح ...». كانت هذه الكلمة حافزاً إضافياً لي كي أذهب إلى صحيفة «النهار» وأتعرف إلى عصام محفوظ وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهم، وكي أسهر ليلياً في مقهى «الهورس شو» في شارع الحمراء حتى الصباح مع الذين صنعوا الحداثة في الشعر العربي وفي الفن العربي وفي الفكر العربي، لبنانيين وعرباً، ثم أعود مع الفجر إلى بيت أخي في فرن الشباك، بسيارة «سرفيس» بربع ليرة لبنانية.
استُقبلتْ مجموعتي الأولى هذه بترحاب. وكتب عنها النقاد ما لا أستحقه. هل لأنها كانت بنت الفطرة ولا ترتكز على نظريات ومدارس أدبية، وخارج جدلية الشكل والمضمون التي كانت مثار جدل في تلك الفترة؟ لا أعرف، فأنا أعترف بأني فاشل في التنظير الأدبي ولا أجيد حتى الكلام عن شعري، وجلّ ما أراه في التنظير الأدبي أن النص هو الذي يخلق النظرية وليس العكس.
مجموعاتي الشعرية التي تلت «ليس للمساء إخوة» كذلك لم ترتكز على نظريات ومدارس أدبية، كذلك فإن معظمها كُتب في فترات متباعدة. إنها، كما أرى، سلسلة موصولة بكتابي الأول وامتداد له. فأنا أعتقد أن الشاعر، مهما كتبَ من كُتب، فهو لا يكتب إلا كتاباً واحداً.
هل هذه كل قصة كتابي الأول؟ هذا ما أتذكره فقط وما ظهر لي فقط. ففي الحديث عن الكتابة يبقى دائماً ما لا يظهر وما لا يمكن تذكره. وربما هذا الذي لا يظهر ولا يمكن تذكره يبقى الأهم.