لا يبدو الاشتغال على إشكالية «المثقف والسياسة» فكرةً مستجدّة في تفكير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، تفرّغ لها من أجل إنجاز كتابه الجديد «الثقافة كسياسة ـــ المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).من خلال حِرص صاحب «بالخلاص يا شباب» على تدوين تاريخ نشره لكل فصل من فصول هذا الإصدار، إنما هو يؤكد أن تلك الإشكالية كانت تشغله منذ سنوات، ساعياً إلى إثارتها على نحو دائم من أجل توضيح أهمية وضرورة أن يتدخل أهل الثقافة في الشأن السياسي في كل وقت. دعوة طرحها منذ وقت طويل، وليست ناتجة ممّا يجري في سوريا منذ خمس سنوات.
هكذا نقرأ فصولاً في الكتاب، وقد جاء في خاتمة كل واحد منها تدوين يشير إلى التاريخ الذي نُشرت فيه. فصول كان الانتهاء منها بداية عام 2006 أيّام كان صاحب «أساطير الآخرين» مقيماً في سوريا، ثم في الأعوام 2008 و2009، وصولاً إلى فصول انتُهيَ منها بداية عام 2011، وأخرى أنجزها في عامنا الحالي. من هنا، يتأكد انشغال هذا الكاتب الذي تعرّض للاعتقال في عام 1980 حين كان طالباً للطب في «جامعة حلب»، لا يتعدى العشرين من عمره.
تكوّنت لدى المثقف «نزعة الصعود الطبقي والانفصال عن العامّة»
يتأكد أيضاً انشغاله بفكرة التنديد بالدعوات التي ما فتئت تضع كتلاً إسمنتية بين المثقف والعمل في الشأن السياسي بهدف الفصل بينهما، وإظهار صورة المثقف ووضعه في المجتمع على أنه «مثقف فحسب». حالة ستضعه «في دائرة النخبة الاجتماعية التي تحظى بقدر من الحصانة والامتياز مقابل قدر من الولاء للنظام، أو التبرير المُداوِر، أو التجنّب والصمت».
وحين يعيد «الدكتور» الحاج صالح تعريف علاقة المثقف والسياسة، إنما يعمل على تكثيف الضوء عليهما لتبيان الخلل القائم جرّاء المحاولات المتعمدة والمستمرة للفصل بينهما، فـ «الثقافة قوة سياسية بما هي ثقافة، بما هي شكل من أشكال العمل العام له شخصيته الخاصة وكرامته الذاتية». وعليه سيكون من واجب المثقفين «أن يتدخلوا في السياسة في كل وقت، في أوقاتنا الدموية اليوم خاصة، وأن يقولوا كلاماً واضحاً عن السلطة وعن السجن والتعذيب والعنف والتمييز والقتل والمنفى والكراهية والتحقير والتعصب والعنصرية».
وعلى الرغم من قِدم فترة الإعداد لتكوين هذا الإصدار لدى العضو القديم في الحزب الشيوعي السوري، إذ استغرقه 16 عاماً قضاها متنقلاً بين سجن «المسلمّية» في حلب و«عدرا» في دمشق قبل بلوغه سجن «تدمر»، إلا أنه ــ بحسب قوله ــ تطوّر لديه «تشكك عميق بمفهوم المثقف ذاته» في «ذكرى مرور خمسة أعوام على الثورة السورية». إذ ظهر ذلك المثقف وبداخله «نزعة الصعود الطبقي والانفصال عن العامّة»، وما يلي هذا من العيش في مناطق معزولة بعيدة عن مجموع العامّة «المقموعين من الدولة والمحرومين من السياسة والحقوق». وقد لا تُجدي هنا محاولات الاختباء خلف تلك المزاعم التي يطلقها المثقفون وتلك الشعارات المتوارية وراء قولهم «إن السياسة تلوّث المثقف» أو «إن الاشتغال السياسي يؤذي مجالي الفكر والفن»، على اعتبار أن ذلك المثقف إنما يحسب «الفكر والفن» مجال شغله الحيوي ولا شيء غيرهما. وهنا يشير الحاج صالح إلى أن تلك «المزاعم» إنما يجري إطلاقها وإشاعتها لمجرد هدف واحد فقط، هو تسهيل ذهاب ذلك «المثقف» إلى منطقة آمنة تعمل على مساعدته من أجل الاستمرار حيّاً ومتمتعاً بداخل مساحة الحصانة والامتياز بالقرب من النظام وعطاياه.
والحال هذه يؤكد «حكيم الثورة السورية» ــ كما يسمّى ــ الذي نجح في الخروج من سجنه بعد 16 سنة من دون أن ينكسر جسدياً أو نفسياً، أن تلك «المزاعم» التي يوردها المثقف، لا يمكن أن تستقيم في أزمنة فائتة، فكيف الحال في مثل هذا الوقت الحالي وشروطه الراهنة حيث «يُقتل الناس بكل طريقة، حين يُذلّون ويُهانون، ويُحاصرون ويُجَوّعون»؟ وعليه، لا تبدو مزاعم المثقف وإصراره على تعاليه عن السياسة سوى تشديد على أنّه «فاقد للإحساس وللإنسانيّة ذاتها، ويغلب أن يكون هذا التعالي قناعاً للانحياز إلى الأوضاع القائمة، وهو يجرّد نفسه من القدرة على إدانة قتلة آخرين إدانتهم واجبة: داعش وأخواتها».
وفيما عمل الحاج صالح في كتابيه السابقين «أساطير الآخرين» و«بالخلاص يا شباب» على تحويل كل من الدين والسياسة إلى «موضوعين ثقافيين، وإدراجهما في جدول النقاش العام»، فإنه في هذا الإصدار يُبدي حرصاً على «إظهار ما هو سياسي في الثقافة» عبر كشف سلوكيات سياسية في اهتمامات وأعمال جماعة من أهل الثقافة (سوريين أساساً)، وهي تُعطي صورة عن التجرد عن السياسة والهروب من العمل السياسي. وكي لا يبدو الأمر ترفاً، يشير صالح إلى أنّ الثقافة والسياسة منطقتان تسمحان لحالة من العمل المشترك تقدران على إعطاء من يشتغل في مساحتهما «سلطات ورساميل رمزية متفاوتة، ويتعيّن أن يتحملوا في المقابل مسؤوليات اجتماعية لا وجه عادلاً للتنصل منها».
وإذا كانت أدوات الثقافة مختلفة عن أدوات السياسة حيث تختص الثقافة بـ «الكلمات وتراكيبها» فيما تعمل السياسة في «القوة وموازينها»، إلا أنّ هذا لا يعني انفصال الثقافة نفسها عن أدوات القوة وصراعات السلطة ولا ابتعاد السياسة عن عملية إنتاج «معارف وخطابات» تُنتج من طريق المشتغلين فيها. وعليه، لا يمكن أن نعثر على سياسي متفرغ للعمل السياسي فقط أو مثقف متفرغ تماماً لـ «يلهو في ملعب الكلمات البريئة». وهنا، يشير صالح إلى أن لا وجود للكلمات البريئة من الأساس. لكن رغم أن تلك الكلمات لا تقتل، إلا أنها «قد تُستخدم لتبرير القتل أو التحريض عليه أو السكوت عنه أو حجبه أو تبديل اسمه».