تكتسب قضايا الهجرة ــ غالباً من الجنوب الكوني باتجاه الشمال ــ أهمية خاصة لدى ما يعرف بالرأي العام العربي، في ضوء موجات النازحين من سوريا والعراق عبر تركيا. لذلك، اخترنا هذا المؤلف، الثري بالمعلومات، لكن باختصار علمي مكثف أغناه الكاتب بمجموعة من الإحصاءات والجداول، والصادر في طبعته الثانية ضمن فترة وجيزة. اخترناه للعرض لأنّ القسم الأكبر من مئات الآلاف هم من المهاجرين العرب، خصوصاً من سورياً، وأيضاً لأن بعض البلاد العربية تقع ضمن دائرة الدولـ «المستوردة» للمهاجرين.الكاتب الذي هو بروفسور التاريخ الحديث وعضو مجلس إدارة معهد بحوث الهجرة والدراسات الثقافية في «جامعة أنسبرُك» الألمانية، يبدأ عمله بفصل عن الهجرة التي تعرف بأنها تحرك فرد أو مجموعة من البشر ضمن حيز مكاني. يستثنى من ذلك طبعاً التحرك السياحي. الهجرة، بالتالي، تعني الحركة بين أقاليم على نحو يؤثر في حياة المهاجر وانتمائه الاجتماعي. يشدد الكاتب على أنّ موجات الهجرة يمكن أن تكون داخلية من إقليم إلى آخر، وهذا كثيراً ما نراه في بلادنا وفي غيرها من الدول النامية، أي الهجرة من الريف إلى المدينة بسبب التباين في مستوى المعيشة بين الإقليمين، أو عابرة للحدود، والهجرة يمكن أن تكون قسرية أو طوعية، أو طوعية-اضطرارية، لكن الهدف يبقى الإقامة الدائمة في المهجر.
أما دوافع الهجرة، وفق الكاتب، فمختلفة ومنها، على سبيل الذكر، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والشخصية.
الهجرة عملية لم تتوقف في العصور والقرون الماضية، وهو موضوع الفصل الأول. هنا نتعرف إلى مختلف أشكال الهجرة التي بدأت في أوروبا منذ بداية التوسع الأوروبي في القرن الخامس عشر. عندها، ظهرت عوامل ساهمت في ذلك ومنها تطور صناعة السفن والأسلحة وتنظيم التجارة والجيوش بحسب المؤلف. فقط عندما توافرت هذه الوسائط، بدأت عملية الهجرة على مستوى يضم مختلف أنحاء الكرة الأرضية حيث بدأت في القرن السادس عشر عملية استعمار أوروبا لبقاع في مناطق بعيدة، مما وصفه الكاتب بأنه عولمة. فأعداد المهاجرين داخل القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، بلغ بين 55 مليوناً و60 مليون نسمة.
كتاب ثري بالمعلومات وبمجموعة من الإحصاءات والجداول

الفصل الثاني، يتعامل مع الهجرة عبر القارات منذ القرن السادس عشر، وينتقل بعدها للحديث في الفصل الثالث في شكلين للهجرة في العصور الحديثة أولهما الهجرة الناتجة عن توسع الاستعمار الأوروبي، ومن ثم في الفصل الرابع الحديث في الهجرات الناتجة من حروب القرن العشرين، والمقصود هنا الحربان العالميتان. الفصل الخامس والأخير خصصه الكاتب للحديث عن مختلف أشكال الهجرة في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ونماذجها.
لذلك، فإن الاختلافات بين أنماط الهجرة العديدة قد تكون واسعة من منظور المهاجر. فالمهاجرون من بيئة حضارية «محافظة» إلى أخرى ليبرالية أو حداثية، سمّها ما شئت، في مختلف المجالات، ستكون لها آثار لا يمكن الاستهانة بها في المهاجرين وفي البيئة التي هاجروا إليها. وهي يمكن أن تكون إيجابية، مثل أن يستفيد المهاجر من التقدم العلمي في «الوطن» الجديد، أو العكس حيث يشعر المهاجر بتغرب يقوده إلى الانزواء ومن ثم إلى التطرف و«الانصهار» في ما يعرف في أوروبا بالمجتمعات الموازية. يذكِّر الكاتب القرّاء بأنّ 94% من المهاجرين الألمان إلى القارة الأميركية في عام 1900 توجهوا بداية للإقامة بالقرب من أقاربهم ومعارفهم، ما أدى في نهاية المطاف إلى ظهور بؤر قومية - اجتماعية وتطورها عددياً في الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
إحصاء آخر ذكره الكاتب ذو مغزى هو أن كافة مطاعم الوجبة السريعة الإنكليزية، المسماة «سمك وبطاطا مقلية» Fish-and-Chips في جمهورية إيرلنده، أدارها في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، أفراد من قرية كازلاتِّيكو الإيطالية أو من القرى المجاورة لها في محيط 10 كلم. السبب أن أول من افتتح تلك المطاعم، عام 1904، كان من تلك القرية. هذا قاد في نهاية المطاف إلى أن ثلاثة أرباع المهاجرين الإيطاليين إلى إيرلنده هم من القرية ذاتها! أما مزارعو الخضروات، فمعظمهم جاء في ثلاثينيات القرن الماضي من بلغاريا. وهناك إحصاءات عن مزارعين وتجار فرنسيين انتقلوا، مع بضاعتهم وفنونهم إلى الصين واليابان، كما حضر من الإقليميين آنفي الذكر إلى أوروبا، زملاء لهم في المهن ذات الطبيعة المحلية. أما في الولايات المتحدة، فيعيش نحو 50000 هندي من إقليم غجارات يمتكلون نحو 18000 فندق صغير (Motel) يقام على الطرقات السريعة.
الكاتب يثري المؤلف بمجموعة من الإحصاءات المهمة عن ألمانيا «قبلة» معظم المهاجرين، ولإفهام الذين يعانون رهاب الأجانب التي تصيب المجتمعات الغربية. هو يلفت الانتباه إلى أن عدد المهاجرين الأجانب إلى ألمانيا بين عامي 1950 و1973، بلغ 14 مليون مهاجر، عاد 80% منهم، أي نحو أحد عشر مليون إلى بلادهم. أولئك كانوا مهاجرين استقدمتهم الحكومات الألمانية للمساعدة في إعادة إعمار البلاد المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية. كما أقام الألمان والإنكليز توطنات لهم في جنوبي إسبانيا وفي جزيرة ميُرقة الإسبانية، تضم بنية تحتية شبه متكاملة، أي أطباء وحلاقين وتجار وغير ذلك.
يولي الكاتب مسألة الهجرة المستقبلية أيضاً أهمية، فيحدد السبب الرئيس على أنه الاحتباس الحراري وارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات واستحالة مناطق واسعة من العالم إلى صحارى قافرة (التقديرات أن «الشرق الأوسط» سيخلو من السكان بحلول منتصف القرن الحالي). هذا يعني ازدياداً مطرداً في أعداد المهاجرين، ورغبة دول الشمال في استقبال أيد عاملة تحتاج إليها بسبب تزايد أعدد مواطنيها المسنين غير القادرين على العمل.
يوضح المؤلف للقارئ أن مسألة الهجرة أمر طبيعي في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي وجب عدم تحويلها إلى قضية رهاب. لكنه مع ضرورة وضع خطة متكاملة، إنسانية الجوهر والشكل، لاستيعاب المهاجرين إلى مختلف بقاع الأرض.