كان الروائي الجزائري سمير قسيمي (1974)، في منتصف عقده الثاني إبان عشرية الدم، أو العشرية السوداء بحسب تعبير الجزائريين عن تلك الموجات الارهابية التي ضربت البلاد، إلا أنه لم يتّخذ منها مرتكزاً رئيسياً لمشروعه السردي. لا يحب الروائي الجزائري الخوض في «القضايا الكبرى»، بقدر انشغاله بسؤال الإنسان، وحياة المهمّشين، أولئك الذين يعالج مصائرهم بقدر كبير من الفانتازيا، وبارتفاعات كبيرة عن سطح الواقع، ليغزل عوالم تمزج بين التخييل، وتقتفي من الواقع آثار ما يصلح لنص روائي. الكاتب الذي سبق لروايته «يوم رائع للموت» أن وصلت إلى القائمة الطويلة من «الجائزة العالمية للرواية العربية» (البوكر)، أصدر أخيراً عن «دار المدى» العراقية روايته السابعة «كتاب الماشاء... هلابيل النسخة الأخيرة»، بإحالة واضحة إلى روايته الثالثة «هلابيل» (2010). وفي «كتاب الماشاء» يخوض قسيمي مغامرة في مسيرته الرواية، عبر إعادة كتابة تلك الرواية، وتغيير زوايا الحكي، وسد فجواته. تحكي «كتاب الماشاء» عبر تقنية سردية مركبة، تاريخ النبي المجهول الوافد بن عباد، الذي تتكشّف حكايته عن طريق الكثير من الوثائق والرحلات المكوكية إلى الصحراء الجزائرية أو حتى بين المدن الفرنسية. وبحبكة بوليسية يجر لغز الوافد بن عباد العديد من الألغاز والحكايات والشخصيات: المستشرق سيبستيان دي لاكروا، نوى شيرازي، قدور فرّاش، السايح.. بعيداً عن ذلك، فإن الكاتب الجزائري عُرِف بصِدَاميّته، حيث تثار معه بين الحين والآخر اشتباكات نقدية وغير نقدية، مع الكثير من الكُتّاب، بخلاف اشتباكاته الدائمة مع المؤسسة الثقافية في الجزائر، منذ عُهدة خليدة تومي، ووصولاً إلى عهدة عز الدين ميهوبي. كان قسيمي ولا يزال شخصية مثيرة للجدل، سواء عبر تلك الصدامات، أو عبر اعترافه بالالتحاق المؤقّت بمن يسميهم (المنبطحين)، قبل أن يتدارك موقفه ويقود حملة تطالب بإلغاء وزارة الثقافة في الجزائر كليّاً. هنا نص حوار معه:


■ عملتَ بنّاءً، وتاجراً، وفي المصالحِ الحكومية... كيف تحوّلت إلى الكتابة؟ من أين تنبع الكتابة؟
ـــ توجهي إلى الكتابة لم يكن قراراً. لو كنت أؤمن بالصدفة لقلت إنها مجرد صدفة لا غير، فالحياة التي عشتها لم تهيّئني لأكون كاتباً، على الأقل بالنحو الذي يعتقده الناس. ولكنني حين أتأمل حياتي، تحضرني والدتي وشغفها بالقصص. تحضرني الأحياء الشعبية بلغوها وثرثرتها وإشاعاتها، وكل ما فيها من خيال ينسب بالصدق والكذب. تحضرني أيضا كل الأحلام التي داخلت حياتي ولم أحققها أو تلك التي لم أحلم حتى بتحقيقها. حين يحضرني ذلك، أجد تراكماً نفسياً تمكنت بطريقة ما من تحويل مجراه، وإعادة تشكيله بالكلمات. لطالما اعترفت بأنني بسبب تنشئتي وتكويني العلمي الصرف وقلة مطالعاتي إلى سن معينة، أملك قاموساً لغوياً متواضعاً جداً، ولكنني بالمقابل أملك قدرة ترهبني حتى أنا في استثمار هذا القاموس بنحو يستعصي حتى على اللغويين.
الكتابة بالنسبة إلي هي القدرة اللامتناهية على التخيل. لحسن حظي أملك من الخيال ما يجعلني أناظر من شئت لأحكي لك القصة نفسها بأكثر من طريقة من غير أن تمل أو حتى أن تشعر بأنها القصة نفسها. لقد قلت مرة إن في رأسي عشرات القصص التي تتزاحم وتتصادم وتتسابق لأكتبها. لأول مرة سأعترف بأنني صرحت كذباً، فالحقيقة التي استحيت من ذكرها، أن في رأسي عدداً لا متناهيا من القصص، وهو ما يجعلني أشعر بالعجز عن تحريرها وصياغتها كروايات.

■ «كتاب الماشاء» هي النسخة الأخيرة من روايتك الأسبق «هلابيل»، ما الذي دفعك لإعادة كتابة فكرة سبق لك أن نشرتها؟
ـــ أولاً لأنها روايتي، وثانياً لأنني أستطيع ذلك. سأعترف لك بأمر. حين صدرت روايتي «هلابيل» (2010) لم أشعر بأن القارئ العربي استساغها لسببين: الأول وهو نسبة الفانتازيا فيها، والثاني خياراتي التقنية، لهذا لم تحظ بما يليق بها من ترحيب نقدي، وهي الرواية المؤثثة بنحو استثنائي.
مع الوقت، يكتسب الكاتب ثقة وقدرة خاصة على الكتابة. هي حالة يسميها النقاد الاحتراف وأسميها أنا الاعتراف بالعجز أمام النص، فأنا بعد سبع روايات أجدني أخيراً في المرتبة الراقية للكاتب المبتدئ، وهي مرتبة تسمح لي بالكتابة بكل ما أملك من تهور وانفلات من القارئ المحتمل. مرتبة تسمح لي بالاعتراف بأخطائي لا بخجل كما كنت أفعل، بل باحترام وحب للنص الذي أعجزني وبالرغم من ذلك صغته في شكل الرواية.
أعتقد أنني في «كتاب الماشاء» وضعت نصاً يتموقع بجلال بين الحقيقي واللاحقيقي. تماماً كما تصورته أول ما شرعت في كتابة «هلابيل» قبل ست سنوات.
اعتبار الحبكة البوليسية
درجة ثانية يدل على
تخلف سردي واضح

■ عكست المعادلة، ووقفت مكان الآخر الفرنسي سبستيان دي لاكروا، لتكتب عن نفسك، عن الجزائر... هل وجدت صعوبة في تبديل الأدوار؟
ـــ كان الأمر شاقا، ولكنه بلا شك ممتع جدا. المتعة في الكتابة هي أساس نجاح أي عمل، وأنا آخذ الرواية على محمل الجد، لهذا يشعر القارئ بأنني أتماهى مع الرواية إلى حد تختلط عليه إن كانت حقيقية أم لا. أتماهى مع شخصياتي أيضا وأتعامل مع القارئ لا بصفته متلقياً أقل مني موهبة، بل بصفته شخصا أذكى مني، لهذا لا أستسهل التعاطي مع النص ولا مع الشخصيات.
في «كتاب المشاء» أتحدث بلسان سيباستيان دي لاكروا، وحين أفعل ذلك أتقمص شخصية المترجم والمستشرق، تجد ملامح هذا التقمص في لغته وحتى مفرداته وأسلوب جمله. أفعل الشيء نفسه مع ميشال دوبري وجيل مانسيرون، ولكنني حين أنطق بلسانيهما أضع في حسباني أنهما من القرن الحادي والعشرين، لهذا تجد لغتهما مختلفة عن لغة سيباستيان.
إنها لعبة تفاصيل، والتفاصيل هي ما تجعل عملا ما أفضل من عمل آخر.

■ قلت في واحد من حواراتك الصحافية: «حتى الله يصطفي أنبياءه من الهامش»... هل لذلك اخترت أن تكتب عن سلالة هلابيل جدّ المهمشين؟
ـــ هلابيل ابن غير شرعي لآدم.. جيل مانسرون ابن غير شرعي لسيباستيان.. قدور والسايح حفيدان غير شرعيين أيضا وهكذا. حاولت أن أقارب بين الهامشي واللاشرعي، وهي المقاربة المعتمدة رسميا شئنا ذلك أم أبينا. لكنني في الوقت نفسه أردت أن أرسم الخارطة الحقيقية للهامش، وهي التي في الواقع أكبر مساحة وأكثر شساعة من المتن. الهامش هو الفضاء الذي تنمو فيه الديانات وتتطور، وفيه أيضا تجد الحضارات قوتها رغم جحودها المستمر لدور الهامش فيها.

■ ترسم تواريخ موازية في روايتك «كتاب الماشاء»، وتختلق واقعاً لم يكن، إلا أنه رواية أخرى عمّا جرى.. . لماذا اخترت هذه الصيغة لكتابة الرواية... والروايات بطبيعة الحال تقوم على التخييل... ما الذي أردت أن تمرره للقارئ عبر دراما النص؟
ـــ إنها طريقتي لأقول ان الحقيقة ليست مطلقة، وليس ثمة من يملك الحقيقة فعلا. المسألة دائما تتعلق بالروايات، على العقل أن يتفتح على الاحتمالات وعلى اللايقين كمنهج يقود إلى الحقيقة، من غير أن يعتقد بقدرته على الوصول إليها ومن ثمة امتلاكها. أعتقد أن الدين هو أهم دليل يؤكد ما حاولت الوصول إليه، فالدين بالرغم من أهميته وضرورته أيضا في التاريخ البشري، كثيرا ما كان سببا في تعاسة الإنسان بسبب رغبتنا المستميتة في الادعاء أننا أصحاب السبق أو الأفضلية أو أننا ملاك الحقيقة في ما يتعلق بالله. هذه الرغبة هي السبب الوجيه لأي تحريف وإن كان تأمليا بسيطا. لهذا لم أجد حرجا ولا أعتقد أنني تحرجت حين اخترت أن يكون موضوعَ روايتي نبيٌ جديد أو دين جديد، فأنا لم أخترع شيئاً لم يخترعه السابقون.

■ البعض في العالم العربي يصنّف الحبكات البوليسية على أنها درجة ثانية.. كيف ترى ذلك في ظل الحبكة البوليسية التشويقية في «الماشاء»؟
ـــ اعتبار الحبكة البوليسية درجة ثانية يدل على تخلف سردي واضح. مجرد التعليق على ذلك يمنح صدقية لهذا التصنيف.

■ في كتاب الماشاء نص داخل نص، وفي روايتك «الحالم» نص داخل نص أيضاً... هل صارت هذه التقنية ملمحاً رئيسياً في مشروعك السردي؟
ـــ ليس هناك أي نوع من الشبه، «كتاب الماشاء» وإن بدت رواية داخل رواية إلا أنها كانت تستند إلى التوثيق، وهي في ذلك مختلفة عن «الحالم»، لأن هذه الأخيرة كتبت بتقنية رواية برواية، أي إنها تكوّنت من ثلاث روايات غير متضمنة بعضها في بعض، يمكن قراءتها مستقلة، وستملك مواضيع مستقلة ولكنها إذا قرئت بالترتيب المتفق عليه فستملك موضوعا آخر. على حد علمي لم يكتب في ما كتب في الرواية العربية ما يشبه رواية «الحالم». لا أقول ذلك من باب النرجسية والغرور وإنما من باب علمي بما كُتب لحد الآن.

■ رغم العديد من الأسماء الشابة، إلا أن المشهد السردي في الجزائر يبدو بطيئاً نسبياً... ولا تزال أسماء مكرسة في الصدارة... واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي... ما رأيك؟
ـــ لهذا على الأسماء الشابة كما وصفتها أن تجد لنفسها مخرجاً، ولكن ألا تعتقد أيضا أن الخلل ربما يكون في نصوص هذه الأسماء؟ سأكون صريحا، ماذا يمكنك أن تنتظر من كاتب يظهر إلى الساحة وهو موقن أنه أقل مستوى من أحلام وواسيني ويصرح بذلك أو يسعى بأي طريقة للحصول على شهادتهما فيه. آخر ما قرأته مثلا، غلاف كتاب روائي وضع جملة نسبها لأحلام مستغانمي تقول فيها إنه كاتب شاب واعد. هل تعتقد مثلا أن هذا يؤمن بنفسه ويمكنه المنافسة؟

■ ما حقيقة صداماتك الكثيرة مع الكتّاب وحتى المسؤولين الجزائريين؟
ـــ تمنيت أن أقول لك إن خلافاتي مع هؤلاء سببها فكري أو إيديولوجي، أو هي في سياق منافسة ما. تمنيت ذلك حقا، ولكن الأمر لا علاقة له بالفكر أو المنافسة أو حتى الإيديولوجيا. أعتقد أن صداماتي في جميع تمظهراتها هي ترجمة بدائية للصراع الأبدي بين الجيد والرديء، بين الكاتب ومدعي الكتابة. صراع يصور الهوة بين ما هو حاصل وما يجب أن يكون.
للأسف، بسبب تراكم الرداءة في الأدب الجزائري، وخاصة في الرواية، وانحسار دور المثقف النقدي في الواقع الثقافي في الجزائر، أصبحت السلطة في الجزائر تيسّر جميع السبل لكل من يعبّر عن انبطاحه ولا مبالاته، سواء كان جيدا أو رديئاً. مع الوقت، مُنح امتياز خاص لأي رديء يعبر عن سعادته ورغبته في استمرار الوضع على ما هو عليه. هكذا وجدت الساحة الثقافية في الجزائر نفسها رهينة لهؤلاء، وخاصة أنّ المثقف النقدي أو الحقيقي كما أصفه بسبب الإقصاء المستمر اختار أحد سبيلين: الصمت والحيادية أو الانبطاح بكل ما يعنيه من ذلك قبوله لريادة الرديء. في كل فترة، تقدم السلطة واجهة ثقافية وأدبية تخدم هذا التوجه، وهي واجهة تصدر للخارج تبييضاً للوجه، في فترة ما كان الطاهر وطار واجهتها، ثم أصبح رشيد بوجدرة ولاحقا أحلام مستغانمي وأخيرا واسيني الأعرج. جميع هؤلاء شكلوا واجهة بقدر ما تبدو فخمة وفاخرة وبهية، بقدر ما تخفي خلفها ما لا أستطيع وصفه، رغم ادعائي اتساع الخيال.
صداماتي سببها رفضي لهذا الواقع المُتصوّر للثقافة: «أسكت لتغنم»، فيقيني أنه واقع متعفن نتن يفرض حتى على الأبكم الكلام. واقع سبق أن صوّرته كالرجل الميت الذي يرتدي بدلة، لك أن تقول إنه وسيم وجميل ولكن ليس من حقك أن تمنعني من رؤية حقيقة أنه ميت ونتن.

■ طالبتَ أخيراً بإلغاء وزارة الثقافة في الجزائر... لماذا ؟ وإلى أين وصل صوتك؟
ـــ الطبيعة واضحة جدا، الكائن الذي لا يؤدي وظيفة محددة مطالب بالاندثار والانقراض، والعضو الذي لا يعمل يضمر ويزول. وزارة الثقافة الجزائرية من أيام محي الدين عميمور إلى يومنا هذا مرورا بخليدة تومي ووصولاً إلى عز الدين ميهوبي لا تؤدي أي دور يذكر، بل إن انبطاح الوزراء، وعدم امتلاكهم لأي تصور أو مشروع ثقافي، زادا الأمور تعقيدا. لم نملك وزيراً واحداً امتلك القدرة على فرض أي تصور على ارض الواقع. لا أحد طرح سياسة ثقافية واضحة، ولا أحد ساهم ولو بقدر ضئيل في بعث الثقافة والساحة الثقافية.
أعتقد أن وزارة لا يملك وزيرها القدرة على التفاوض مع الحكومة بخصوص ميزانيتها التي عوض أن تبلغ على الأقل واحدا بالمئة من الميزانية العامة، ويقبل باستكانة أن تخفض على هذا الشكل، وزير لن يملك القدرة على فرض تصور ما للثقافة، بمعنى أن الواقع الثقافي سيزداد سوءاً على سوء، كل هذا وأكثر يدفعني للدعوة إلى إلغاء هذه الوزارة التي لا نفع منها على الإطلاق.
منذ عهدة محيي الدين عميمور ونحن نصرخ بضرورة وضع أرضية ينبثق منها الفعل الثقافي، وأهم ما في هذه الأرضية الاتفاق على تعريف محدد للثقافة. تصور، نكاد نكون الدولة الوحيدة التي لا تملك في كل قوانينها تعريفا واضحا للثقافة. كان الأمر مفهوما حين كانت السلطة تعمد إلى عدم الاعتراف بالهوية الأمازيغية للشعب الجزائري، على الأقل كان ثمة سبب سياسي يمنع من تعريف الثقافة ولكنه أمر غير مقبول الآن، وخاصة أن الاستمرار في ذلك من شأنه إطالة عمر المأساة الثقافية.
إنه واقع عفن... بائس وكئيب. أدى فيما أدى إليه إلى خلق واقع من الجبن الثقافي، ومجتمع ثقافي متواضع المستوى، ضعيف الشخصية، منعدم الطموح في ما يتعلق بكل ما هو ثقافي. واقع يتسم بنفاق أصبح يستحسن حتى من المسؤولين، تجد مثلا الواحد يجاهر بدعمه للمؤسسة الرسمية ولكنه يسر إليك بعكس ما جاهر به. حتى المواقف أصبحت تقدر بأسعار، والصمت أيضا يشترى.
تطهيرا لنفسي، أعترف لك صديقي أنني انصعت في الأشهر السابقة. إنني وبكل أسف فضلت الصمت طمعاً في وعود قطعها لي الوزير. أدرك عز الدين ميهوبي حاجتي الماسة للاستقرار الوظيفي، وحاجتي إلى عمل مستقر فوعدني بأكثر من منصب. خلت لوهلة أنها خدمة صديق لصديق يملك من المؤهلات العلمية والتجربة والوزن الأدبي ما يسمح له بخدمته بلا حرج أو مقابل، لكنني مع الوقت أدركت أنها لم تكن إلا طريقة لوضعي على الهامش، فالمنطق يقول أنه كلما زاد عمر طمعي كلما زاد عمر صمتي. ما لم يدركه الوزير أن كاتبا مثلي لا يمكن وضعه في قمقم، وهو أمر سرعان ما أدركه حين شرعت في مشروع «موعد مع الرواية» الذي كان السبب المباشر في سلبيته معي في فشله.
الآن عدت إلى نقطة الصفر: كاتب بلا دخل ثابت، ولكن بضمير مرتاح جدا. أعترف بهذا، احتراماً لنفسي واعتذاراً لها أولاً وأخيراً.