شاعر الخسارات بامتياز! لم يغادر منجم الألم منذ بداياته إلى اليوم. اختبر نزيه أبو عفش (1946) ببسالة درجات هشاشة الكائن البشري في عزلته وفزعه وهذيانه أمام أهوال الجحيم، من دون أن يقع على منطقة الغفران أو الندم أو الطمأنينة. لكنه، في المقابل، لم يتوقف عن العمل على تطوير قصيدته من الداخل وحراستها بعناية من الأعشاب الضارة، بما تبقى من أوكسيجين.
لم يخفت هتافه، إنما ذهب إلى هلاكٍ آخر أكثر خشونة وقسوة وضراعة. صاحبُ وشمٍ صريح في معجم الشعر السوري، كما أنه أحد الآباء الأساسيين لجيل الثمانينيات وما تلاه في اكتشاف مزايا مختلفة لقصيدة النثر بانخراطها في اليومي والبسيط والعادي، وخصوصاً إثر صدور ديوانه «أيها الزمان الضيّق، أيتها الأرض الواسعة»، ثم «بين هلاكين». وستذهب قصيدته، في عتبة شعرية أخرى، نحو الهتاف المحمول على غضب ورفض وإدانة، قبل أن يلتفت في تجاربه الأخيرة إلى عزلة الفرد ومكابداته الدنيوية والروحية، كما في «أهل التابوت»، و«إنجيل الأعمى»، و«ذاكرة العناصر». في كتابه الأخير «تصديق الهذيان»، يكمل مراثيه الذاتية لعالم يزداد شراسةً ووحشة وخراباً، مؤكداً اكتمال نوبة الخذلان، وأختام الدم، وحواشي الموت. باشتعال النار السورية، سيجد نفسه مرغماً، في مهبّ الحريق، فيلجأ إلى كتابة يومياته عن الحرب في «ومضى الربيع كله»، في حمّى لم تنته بعد. الشاعر السوداوي والمحزون والقلق، اختار أن يستقر في قريته «مرمريتا» ليكمل جنّازه الطويل وآلام صلبه وهذياناته الروحية، في مواجهة «حائكو الظلمات».ملحق «كلمات» زاره في ملاذه الأخير، وأجرى معه الحوار الآتي:



■ كنت تقطن كراجاً في مدخل بناية، ثم انتقلت إلى بيتٍ واسع، وها أنت تستعيد في أحد نصوصك الأخيرة، رحابة ذلك المكان الضيّق، بنوعٍ من الأسى والفقدان؟
ـــ كان ذلك الكراج أرحم الأمكنة التي عشت فيها جزءاً من حياتي. كنّا مخلوقات تعيش في أمكنة ضيّقة، ولكن بأكبر قدر من الآدمية والرحمة، والقدرة على الدفاع عن أنفسنا. وما إن خرجنا من المكان الضيّق الذي بلا هواء، إلى البيوت الأرحب، والأنظمة التي أصبحت أرحب، لأننا صرنا شريرين أكثر في مواجهتها، وقعنا في ضائقة الرحابة، وقد حُرمنا من كل التفاصيل، بعدما اخترعوا ــ في الثمانينيات وما بعدها ــ زمناً مختلفاً وصعباً، وبات عصيّاً علينا أن نفك الشيفرة: زمن أقل بطشاً لكنه أضيق رحابةً، ووقعنا في كمين الاتساع بالبيت. أحسستُ أنه بلا معنى، فكل سنتمتر في الجُحر القديم، كان له مدلول ووظيفة. هذا الفرق بين الرحابة والضيق والمعنى المختلف أتى من الخارج وليس من نقص القدرة على الدفاع. أمراضي هي هي لم تتغيّر، لقد ربّيت هذه الأمراض التي هي مادة عملي بنفسي، ولكني لا أعرف ماذا حصل لاحقاً، ومن أين أتت هذه العلل؟ ما أعرفه أنني لست مؤهلاً للاعتياد على زمن ما بعد الثمانينيات. الذين كنت أعرفهم، كانوا يتمتعون بـ«روح الخادم»، أقصد أولئك الذين يلبّون ما تحتاج إليه من دون أن تطلب منهم ذلك، ببساطة لأنهم «بني آدم» وحسب، فلا أحد يجرؤ اليوم أن يتمتع بروح الخادم.

■ ولكنك كتبت معظم نصوصك الأولى المهمة في ذلك المكان الضيّق؟
ـــ شغلي الحقيقي كتبته في ذلك المكان الذي كان أرحب من يسوع، ففي ذلك الجُحر الآدمي عثرت على ما أمكن من سعادة، واخترعتُ جميع حياتي. يوم أقفلت بابه للمرّة الأخيرة، انقفلت حياتي، ودفنتُ تحت عتبته آخر قطعةٍ من ثياب الرّب، ثم صنعت ملكوتاً ضيقاً في المكان الرحب. الآن أنا متهم أمام ستة مليارات من البشر بأنني أعيش الرحابة القصوى، لكنني في الواقع أعيش في أقذر المضائق، فكل الكائنات التي تحيط بي مشغولة بالحديث عن العقارات، وكم ثمن المتر المربع، فماذا أفعل بهذا الأوكسيجين الملوّث؟ لقد مضت أسابيع لم أخرج من هذه الغرفة (حرّاء مرمريتا)، وحين فتحت الباب نحو الضوء شعرت بدوخة، قلتُ لنفسي: ألهذه الدرجة نسيت نفسي، وغفلت عن تعاقب الدهور وانعدام الوقت؟ نبهتني الشمس الواقعة على الحديقة إلى ذلك، حتى إن رأسي علق في خيوط العنكبوت، وكأنني خارج من كهف لفرط عزلتي.

■ حين نشرت عملك الشعري الأول «الوجه الذي لا يغيب» (1968)، كنت تقيم في حمص، ما تأثير شعراء تلك الحقبة على خطواتك الأولى، وإلى أي ضفاف ذهبت تجربتك اللاحقة؟
ـــ ينبغي أن أذكر، بتبجيلٍ خاص، موريس قبق أولاً، فقد أثّر هذا الشاعر في جيلٍ كامل عبر ديوانٍ يتيم هو «الحب واللاهوت» الذي أحدث زلزالاً لديّ، وهو أكثر من قدّم لعظامي نسبة كالسيوم، رغم أنه عبر مثل شهابٍ خاطف. لو لم ألتقِ به لكنت شاعراً آخر. أفهم أن كل شاعر لديه 10 سنوات، أو 15 سنة من الخصب الشعري، وما بعد ذلك هو فائض، يعيد ويكرّ ويغزل، ثم ينسج ما سبق وكرّه. أجرؤ على الاعتراف بأنني تورطت بتجاوز الفترة التي هي أواسط الثلاثينيات، زمن التوهج. شخصياً دخلت في الضائقة الشعرية، مثلما يدخل رافع الأثقال، والرسّام، ولاعب كرة القدم، وآمل ألا يطلب القرّاء مني أن أقدّم اعتذاراً. سعادتي بأني مُنحت حق البقاء 40 سنة إضافية، ولكن لديّ رجاء من القارئ ومن نفسي: اقبلوني كمتقاعد في نزهة، وانظروا إلى سنوات خدمته في سلاح الشعر، عندما كان ضابط أركان، وهل خدم جيداً أو لا، وألا تهددوه بأن الزمن سبقك، وألا تسألوه أن يسابق الزمن، فقد أديت السباق وعليّ أن أذهب إلى مقاعد المتفرجين. أشفقوا على بيليه لأنه لا يستطيع اللعب مثل مارادونا، كما أن مارادونا لا يستطيع اللعب اليوم مثل ميسي مثلاً. أكرموهم بوردة، ليس تكرّماً بل لأنه حقنا. يسوع نفسه متورط، ويصعب عليه أن يضع تعديلات على دينه، ممكن أن يغيّر اللهجة فقط، وإذا كانت ديانته قائمة على الصلب، فإن ديانتي قائمة على ما اشتغلته في الثلاثينيات من عمري، لكنني استمررت بتعديل لهجة صلاتي، فلدى كل مبدع جملة واحدة يكرّرها طوال حياته بتنويعات مختلفة. علينا أن ننتبه إلى تلك النبرة المتبدّلة ونسبة الشجن في نصوص الشاعر بين شبابه وشيخوخته. أنا أكثر شاعر استعمل كلمة الإنسان، وكلمة الله، أكثر من أحمد الأسير، وبطريرك الروم الأرثوذكس، لكنني استعملتها بمعنى مختلف. في لحظةٍ ما، أشفق على الإنسان وأحبه، وفي لحظةٍ أخرى أتمنى فناءه.

كنّا حين نقول السكين أو السيف
أو الرصاصة نصنع مجازات وحسب،
أما الآن فالسكين تعني السكين، والرقبة موجودة
الشاعر الذي لا يتقن عمله، وإيذاء نفسه، ووضع نفسه في مرمى الخطر، هو غير صالح للمهنة، وأطلب له حق الرحمة. عمل الشاعر أن يُؤذى، وأن يكون مثل ذلك الكاهن في قصة لتشيخوف، يؤمن إلى درجة بأنه عندما يذهب إلى الحقل في وقت الجفاف ليسأل الله مطراً، يأخذ معه مظلّة ومعطفاً جلدياً لكي لا يبلله المطر في طريق العودة.

■ سعيت باكراً إلى أن توفّق بين كارل ماركس ويسوع في مدوّنة حياتية واحدة، إلى أن بقي الأخير يُلهم نصوصك وحيداً؟
ـــ لم أتخلّ عن ماركس على الإطلاق، ولا أزال أظنُّ بأنه هو المنقذ بكل بساطة. لا أحد سواه يستطيع إنقاذ هذا الكوكب من دماره، لذلك اتفق زعماء العالم على إعدامه. كان صاحب أول مغامرة في صناعة العدالة، لكن البشرية ضيّعت هذه الفرصة متعمدةً، فالبشرية الحاكمة تعمل في صناعة الحروب وتسويقها، وإذا قبلت بنظرية ماركس ستتحوّل هذه الطغمة إلى فئة العاطلين من العمل. أنا شيوعي، ومنذ فترة عدت إلى قراءة البيان الشيوعي ولم يتزحزح إيماني به بوصةً واحدة. في المقابل، أنا أكثر من تحدّث عن المسيح في نصوصي، ولديّ اقتناع بأن عدد سكان دولة المسيح شخص واحد هو أنا، وأموات كثيرون. المسيح من أحلى ألعاب الشعراء، وسيزيف ألبير كامو هو بضاعة الشعراء.

■ في نصوصك على وجه العموم، أنت كائن خائف ومذعور ومضطرب على الدوام، ما مرجعية هذا الخوف؟
ـــ صُنعتُ خائفاً، هناك ورشة كاملة من الآباء صنعوا مني هذا الكائن الخائف، أما ما سبب هذا الذعر الذي تجده في نصوصي بغزارة، فهذا ما لا أريد أن أتكلم عنه الآن، سأتحدث عنه تفصيلاً، في مذكراتي. اعترف بأنني عانيت من الخوف أكثر من الدول التي خاضت الحرب العالمية الثانية، والمشكلة أن الذي أخافني هو الوحيد من أستطيع أن أغفر له. حاولت أن أدافع عن نفسي، أن أعترض، وأن أكون شجاعاً، كي أحب مادة الكائن الخائف التي أعمل عليها. كنّا حين نقول السكين أو السيف أو الرصاصة نصنع مجازات وحسب، أما الآن فالسكين تعني السكين، والرقبة موجودة. إنني أرتعش من قدميّ، عندما أسمع كلمة «ذبحوه» في نشرة الأخبار. هناك إذاً، من رأى السكين والعنق، وهذا سبب كافٍ، لو حصل لمرةٍ واحدة، لإلغاء الجنس البشري. تسألني عن الخوف؟ هذه الكلمة وحدها، تصيب المرء بارتجاف البدن، فأنا من عرف الخوف عن كثب ولن أغفر له يوماً. تحضرني أيضاً كلمة «يا للهول»، حين تكون السكين على الرقبة تماماً، في الـ 15 ثانية الأخيرة من حياةٍ ما، أو أن تجلس مع الموت أكثر من يوم، وأنت تعلم بأنك ستموت.

■ أين تجد نفسك وسط اللحظة السورية الراهنة، ماذا فعل بك هذا الجحيم، وكيف تعايشت مع سنوات الحرب؟
ـــ كل ما أفكّر فيه هو هؤلاء الموتى. وكم كنّا ندّعي الشجاعة، ونرغب في تحقيق هذه الفكرة، ونحلم بزوال سرطان ما، ونبغض هذا أو ذاك. الآن، وأنا على المشارف الأخيرة، أكتشف فجأة قائمة طويلة من الموتى. كائنات حيّة لم تمت بحروب بعيدة، أحباء قُتلوا هنا، على هذه الأرض، وليس في أرضٍ أخرى. كنّا نقرأ عن القتل والمذابح في الكتب التاريخية، وكنّا نبصق، ثم نضع أيدينا على الخدّ. أما الآن، «عندما نقول دم فنحن نعني دم، والموت موت». كيف لي ألا أشعر بالعار، حينما تُقتل شابة، كانت في نزهة مسائية، على بعد كيلومتر من هنا، من دون سبب، ثم يصفها أحدهم بأنها مجرد «فطيسة»؟ أريد ثمن هذه العبارة، وعلى ميشيل كيلو أو سواه، أن يدفع لي الثمن. لن أسامحه، ولن أعزيه بأحفاده لاحقاً، لأنه لم يعتذر حتى الآن. هذا حقي. أنا شرّير، وهذا حقي في الشّر. لديّ أعداء من القرن التاسع عشر، ولكنك يا ميشيل كنت رفيقي في الكتيبة، ولم توضّح، ولم تعتذر، ولم يجبني أحد عن سؤال: لماذا حصل هذا؟ نحن لا نتحدث عن أزمة قلبية لأحدهم، بل عن أنواع من الميتات، كل واحدة منها تستحق أن تسقط بسببها سماوات. نعم نحن شهدنا الألم العظيم، وآمل ألا أدخل في التجربة. رأيت امرأة تعوي بعد مقتل ابنها، ماذا نفعل لها؟

■ أنت أحد الذين تعرضوا لاتهامات بالتخوين، وتهديدات جديّة، إثر مواقفك من «الربيع العربي»، وكتاباتك المضادة، كيف أمضيت تلك الفترة؟
ـــ في الأيام الأولى أحسست بالرعب، وخصوصاً بعدما وصلتني رسالة تطالبني بأن أنتبه لنفسي، وأنا خارج من بيتي، وأن ألتفت يميناً ويساراً. وفعلاً صرت أتلفّت إلى يمين الباب ويساره، كلما خرجت أو دخلت، والأمر نفسه حين أصعد سيارة، أو رصيفاً. هكذا دخلت في كابوس جحيمي حقاً، وخوّفني الخوف، ثم استسلمت، ثم اعتدت الأمر. الآن لا أخاف، وأتمنى ألا يكون هناك ما يستحق الخوف. اكتفيت بالدفاع عن نفسي شفوياً، فأنا لست عميلاً للنظام، كما وصفني بعضهم، ولم يعد يعنيني الطرفان، فقد تكيّفت مع خوفي.

■ ما تأثير هذه التهديدات على «يومياتك الناقصة» التي تنشرها «الأخبار»؟
ـــ اضطررت إلى حذف كلمات، وندمت لاحقاً على حذفها، بعدما تكيّفت مع التخويف، وعملت كل حسابات الخائف. كنت أراقب نفسي في كتابة مفردات بعينها. بتعاقب المحن، لم يعد يعنيني «الشرفاء الثوريون»، ولا النظام نفسه. أحسست بالاشمئزاز حين رأيت صورتي على أحد المواقع الإلكترونية باللباس العسكري، وأنا أؤدي التحية. هذا مثير للقرف، وأنتم مغفلون. فجأة اكتشفتم بأنني عميل للنظام؟ الأمر لا يتوقف هنا، حين اضطررت إلى العيش في بيروت، لم يتصل بي أحد من أصدقائي المثقفين هناك لمجرد الاطمئنان، وبمحض المصادفة، وجدتني وجهاً لوجه، أمام أحد هؤلاء الأصدقاء، خلال جولة في معرض الكتاب، قلت له «أنت خلعتني، أنا لا أخلع صديقاً». كلهم خلعوني صراحةً، وكلهم خوّنوني كتابةً، بمن فيهم مثقفون كبار. في نهاية الأمر، أنا لست جنرالاً. في الواقع ما حدث ويحدث لي ليس جديداً، فقبل سنوات، في حفل تأبين ممدوح عدوان، ألقيت كلمة شجاعة، فقال لي مثقف لبناني «أحيّي شجاعتك»، وحين ذهبنا إلى العشاء، اكتشفت أنني لست مدعواً، لأنني أغضبتهم بما حكيت فانسحبت من الصالة. عموماً، لا أقف في المكان نفسه، ولا أتخندق، حتى إنني كتبت مرثية عن أدونيس حين سرت شائعة عن موته، ودعوت فيها إلى قراءة منجزه بعينٍ أخرى، ومن دون ضغينة.

■ عدا الرسم، أنت مهووس بموسيقى باخ، ما سرّ هذا الشغف؟
ـــ أنا مهووس بباخ فعلاً. أستطيع تخيّل العالم بدون أرخميدس، بدون أينشتاين، لكني أعجز دائماً عن تخيّل الصورة التي كان من الممكن أن يكون عليها العالم بدون باخ. منذ نحو 10 سنوات أو أكثر، كنت أضع سبورة في ركن من المطبخ، تحتوي قصاصات، وكنت أنصت إلى باخ على الدوام، فكتبت «باخ يحوّل الجمال إلى دموع». لم أخترع الجملة لأن هذا ما فعله حقاً. لاحقاً سيقارنني أحدهم بإميل سيوران الذي لم أكن أعرفه قبلاً، ولكنني حين قرأت كتابه «المياه كلها بلون الغرق» أدهشني أنه مغرم بباخ أيضاً، وسأقع على عبارة تشبه ما كتبته على سبورتي «هذه الموسيقى ليست مصنوعة من النغمات بل من الدموع»، فشعرت بالتشابه بيننا، وتأكد لي أن هناك «وحدة الأمراض»، بمعنى أن تقرأ نفسك بما كتبه آخر، وبإمكاني إضافة فرناندو بيسوا أيضاً، إلى خانة وحدة الأمراض، والعمل في المنطقة نفسها. بالطبع لا أقصد المقارنة، كي لا أُحرج أمام نفسي، لكنني عملياً، أجد نفسي في منطقة اللاطمأنينة. واللافت لدى أمثال هؤلاء المبدعين أنهم ليسوا بشخصية واحدة، فهم يسندون لكل شخصية وظيفة، أو عقيدة فنية، أو عقلية، وإلا ستكون مهددة بالتناقض، إذ تجد أكثر من بيسوا: الحداثي والكلاسيكي والمؤمن والملحد. ربما كان عليّ أن أنجز كتاباً يحتوي نقائضي، كي أنتهي من تهمة التناقض.

■ ما تأثير باخ على شغلك المباشر في الكتابة؟
ـــ ما نتوهمه أن باخ اشتغل على جملة واحدة، يكررها على الدوام. ما يحصل هو أننا لا نحسن قراءة الجملة، ونظن أنها الجملة نفسها، ولكننا بانتباهة ما، سنكتشف أن هناك لمسة أُضيفت في السطر التالي، ولمسة تمّ محوها، وهذا أصعب ما في موسيقى باخ. الاستماع إلى موسيقاه رياضة خاصة، فهو تولستوي الرواية في الموسيقى، رغم أنه معفى من الأمراض. لقد نبهني إلى حسنة إعادة الجملة والغزل عليها. نعم اكتشفت الفضيلة الدينية للتكرار، وديانتي في الكتابة هي إعادة الترتيلة مرّة ثانية وثالثة. أحياناً أستمع إليه بشكل متواصل حتى وأنا نائم، أسطوانة تدور وتدور من دون ملل، وكأنني استمع إليه للمرّة الأولى بالسحر نفسه، مثله مثل نوبات الألم القوية. هذه فضيلة باخ عليّ، أن تحوّل الجمال إلى ديانة، وأن تصدّره إلى الآخر.

■ وماذا بخصوص الموسيقى الشرقية، كيف تقوّم علاقتك بها؟
ـــ أحب غناء النّوََر، وأطالب بأن يُعلّم في المعاهد الموسيقية. الارتجال هو العمود الأساسي في الموسيقى الشرقية، وعلينا أن نخضع لدورة لدى هؤلاء القوم الجوّالين. كما أنني أضع محمد عبد الكريم، عازف البزق الفريد الذي ينتمي بأصوله إلى النَّوَر في مقام باغنيني وموزارت وباخ، فهو من السلالة العبقرية نفسها.

■ في حديقة منزلك في مرمريتا، صنعت تمثالاً من بقايا الحجارة لـ«الأمير الصغير»، إلى هذا الحدّ أثّر بك كتاب أنطوان أكزوبري؟
ـــ هذا هوس آخر. لو لم أقرأ «الأمير الصغير» لكنت شخصاً مختلفاً. هناك أشخاص رمموا حياتي، مثل باخ، وأكزوبري، وصورة المسيح، وألبير كامو، ولولا هؤلاء، لانحدرت حياتي نحو الأسوأ، فقد ساعدوني ببسالة على قراءة هوسي، وأن اقرأ هوسي على نحوٍ أفضل. ما يصدمني أن يستخفَّ أحد ما بكتاب «الأمير الصغير» بوصفه مجرد حكاية للأطفال. هذا كتاب يصلح لدورة آلهة، ومن يجده عكس ذلك يحتاج إلى مصحة، وربما إلى محاكمة، لأن جهاز القراءة لديه معطّل بالتأكيد. شخصياً، كثيراً ما أفتّش عن ذريعة لإمرار جملة من هذا الكتاب في نصوصي، وأسعى دائماً لاستعادته.

■ أخيراً، تقول «لا أبصر إلا الرماد، سأكتفي بكتابة اليأس والأحلام»، ألم يتغيّر المشهد بالنسبة إليك؟
ـــ أنا أكتب عطبي، والكتابة بالنسبة إليّ علاج، بوصفي كائناً لاسَوِيّاً.