إن كان ثمة كلمة تصف «علاقتي» بديليلو، فستكون «المفارقة». وصلني عرض ترجمة روايته أثناء حديث عابر مع «دار التنوير». سأترجم أهم رواية تناولت النزعة الاستهلاكيّة على ضوء الليد LED، وهو إحدى «نِعَم» السوق السورية في الحرب كي ترحمنا أثناء انقطاع الكهرباء. لكن على الأقل فإنّ حظّها أفضل من حظ كتب أخرى ترجمتها على الشمعة أو مصباح الكاز. سأترجم رواية صدرت سنة ولادتي. انتهت المفارقات وبدأت العقبات. لعل أهم ما يميّز ديليلو هو نثره المتفرّد وأسلوبه المعتمد كلياً على موسيقى الأحرف الإنكليزيّة. من المعروف عنه ولعه بالإيقاع، وتتالي الأصوات وتعاقب الألفاظ. وكذلك، محور رواياته هو الحياة الأميركية، بل إن رواياته أميركيّة صرفة. كيف سأنقل روح اللغة وجوّ الرواية بأفضل نسبة رضى ممكنة؟ بل ماذا عن العنوان أساساً؟ بقيت أياماً كاملة أقلّب بين «صخب» و«ضجّة»، لأستقر أخيراً على «ضوضاء» الأكثر انتشاراً برغم عدم تفضيلي لها. الترجمة عملية مساومة أولاً وأخيراً. لا أظن أنّ نسبة رضى المترجم عن عمله تتجاوز 75% في أفضل الأحوال. مع ديليلو، ستنخفض النسبة تلقائياً إلى 50، بخاصة مع إيماني بوجوب نقل العمل كما هو من دون تعديل أو تبسيط، أو حواشٍ إيضاحية إلا في أضيق الحدود (لم أضع إلا حاشيتين أو ثلاث). نحن أمام رواية في نهاية المطاف، وهذا كان محور نقاش مع الناشر، مع اختلاف وجهات النظر بشأن الترجمة. يمكن للمترجم إدراج ما شاء من حواشٍ، أو تكسير الجملة الطويلة وتغيير علامات الترقيم في حال كان يترجم عملاً غير أدبي، ولكنّ العمل الأدبي مقدّس من هذه الناحية. لا يجب على المترجم تبسيط المفردات أو تغيير ترتيب الجمل أو إضافة أو حذف علامات ترقيم بهدف «إيصاله إلى القارئ»، أو فرض أسلوبه بحيث تنتهي صلة الكاتب بعمله، فنجد أنفسنا أمام عمل كتبه المترجم (أو الناشر) عملياً. وفي الوقت ذاته، ينبغي للقارئ العربيّ التخلّي عن كسله كي يصله العمل كما كُتب. ولكن، مع معرفتي المسبقة بأنّ القارئ الذي احتفى برواية رديئة مثل «الطلياني» أو «مصائر» لن يستمتع برواية مثل «ضوضاء بيضاء» لأنها مختلفة عمّا اعتاده، تضاءلت آمالي.
ليس مطلوباً من القارئ إدراك صعوبة الترجمة ومتاهة عمليّة النشر، أو مدى رضى الكاتب أو المترجم عن الصيغة النهائية. المطلوب هو قليل من الصبر والهمّة. كانت ترجمة ديليلو تجربة ممتعة للغاية. في هذه الرواية ستجد تشريحاً بارعاً لأميركا الثمانينيات، ولكن لن يكون الفارق الزمني عائقاً، فراهنيّة المواضيع المتشعّبة التي تناولها في الرواية، من بؤس الحياة الأكاديمية، والنفاق، ومعنى العائلة وعلاقات الأفراد، وغزو التكنولوجيا، والتأملات في الموت، وتخدير التلفزيون والإعلانات، ستنقل لنا الوطأة الثقيلة ذاتها كما كُتبت عام 1985. لن يبقى القارئ بعد نهاية الرواية كما كان عليه قبلها. ستختلف طريقة تعامله مع أدوات العصر الحالي كلياً، بل ستختلف وجهات نظره حيال مسائل كثيرة، وسيتغيّر فهمه للحياة ومعنى أن تكون إنساناً في عصر التكنولوجيا، إنساناً يحتفي بهشاشته ولحظات ضعفه قبل أن يتحوّل إلى آلة أخرى ضمن جيش الآلات التي تحكم جميع تفاصيل حياتنا.
ديليلو ضيف آخر على القارئ العربي، وأتمنى أن لا يكون ضيفاً عابراً. رهافته وبراعته وسخريته اللاذعة ستصل إلى القارئ حتى مع وجود حاجز اللغة. هذا كاتب يحترم القارئ، ويُدرك معنى وأهمية الكتابة في عصر الديجيتال. وهذه الرواية إحدى أهم روايات العقود القليلة الماضية بلا مبالغة. أقل ما ينبغي فعله هو قراءتها كما تستحق.