ما معنى الكتابة عن دون ديليلو (1936) في زمن ثقافة «البيست سيلر»؟ وما معنى إفراد ملف له في جريدة عربيّة فيما لم يُترجَم من أعماله غير روايتين هما «فنانة الجسد» (دار المدى ـــ ترجمة أسامة منزلجي ـ 2012 ـــ ونسخة أخرى عن «دار إشراقات» ـ ترجمة محمد عيد إبراهيم ــ 2006) وأخيراً «ضوضاء بيضاء» (دار التنوير ــ ترجمة يزن الحاج ـ 2016)؟ ولو دمجنا السؤالين معاً، ما أهمية دون ديليلو عربياً؟ ربما كان من حسن حظنا تأخر ترجمة ديليلو لأنّ أهم سمات أعماله هي الكتابة عن «حاضرٍ مستقبلي»، أي الكتابة عن الحاضر مع إسباغ سمات غير موجودة فيه. سمات مستقبلية تخيّليّة، أو الإفراط في المبالغة في التوصيف بحيث يبدو الحاضر السردي لديه بمثابة صورة سوداوية للحاضر الفعلي. والأهم أنّ هذه الصورة السوداوية ستتحقق لا محالة، لا بمعنى النبوئيّة، التي يتجنّب توصيف أعماله بها، بل بمعنى دقة الرؤية وجموح الرؤيا، بحيث يمكن قراءة أي عمل له بعد عقود كأنه كُتب بالأمس. وأهميته عربياً تنطلق من النقطة السابقة تحديداً: لا بأس من هذا الكسل العربي في الترجمة، فأعمال ديليلو ستبقى طازجة لعقود. أما المشكلة الملتصقة بتلك الأهمية، فهي أنّ ترجمة ديليلو وحدها لا تكفي من دون ترجمة أعمال مَنْ تأثّر بهم. أين أعمال روبرت كوفر، ووليم غاديس، وفلانري أوكونور وتوماس بنتشن؟ بل ينسحب الأمر حتى على مَنْ تُرجمت أعمالهم (بهذه الدرجة أو تلك من الجودة)، كوليم فولكنر، وكافكا، وجيمس جويس ونورمن مايلر.
اكتفى بخمس روايات خلال 20 عاماً، صدرت آخرها «زيرو كيه» قبل أشهر

ينقسم نقّاد ديليلو، كما يشير بيتر بوكسول في كتابه «دون ديليلو: إمكانيّة التخييل»، إلى جماعتين. ترى الأولى أنّ ديليلو ولد من رحم ما - بعد الحداثة، وهو أحد فرسانها الكبار في الأدب الأميركي بل العالمي، فيما ترى الثانية أنّه رافض لتيار ما - بعد الحداثة، أو متردد حياله في أفضل الأحوال. وتفترق جماعة صغيرة من النقّاد عن الجماعتين السابقتين، لتشير إلى أنّ ديليلو ليس حداثياً أو ما-بعد حداثي. ينقسم هؤلاء بدورهم فيطرحون آراء متعددة، ومتباينة أحياناً. يؤكد بول جيايمو في كتابه الإشكالي «تثمين دون ديليلو: القوة الأخلاقيّة لعمل كاتب» أنّ ديليلو أقرب إلى تيار «النيو-واقعية» رغم إحالاته الغزيرة إلى ما-بعد الحداثة، فيما يعترض هارولد بلوم على الجميع ليشير إلى أنّ ديليلو «رومانتيكي عالٍ في عصر الواقع الافتراضي واللاواقعيات المترابطة». سيزداد الأمر تعقيداً حين يشير أبرز كتّاب الأجيال اللاحقة إلى أنّ ديليلو خيارهم الأول في لائحة من تأثروا بهم، رغم تباين أساليبهم الكتابية وتوجهاتهم من الواقعية الاجتماعية عند جوناثن فرانزن، وجيفري يوجينيدس وصولاً إلى ما-بعد الحداثيين كديفيد فوستر والاس، وزادي سميث. يمكن أن نفسّر الأمر بالتنوّع المذهل لموضوعات روايات ديليلو التي تناولت التكنولوجيا، ووسائل الاتصال، والكوارث، والإرهاب، والعائلة، وهموم الفرد، وعالم الاستخبارات، والرياضة، وعالم المال، والحياة الأكاديمية، والنزعة الاستهلاكيّة، بحيث أنّ كلّ كاتب ينتقي ما هو أقرب إليه من أشجار غابة ديليلو. وليس ثمة مبالغة في القول إنّ تأثيره امتدّ على جميع الكتّاب باللغة الإنكليزيّة منذ الثمانينيات، حتى لدى مجايليه كبول أوستر ومارتن أميس. بمعزل عن كل هذه الفوضى، يشير هو ببساطة إلى أنه روائي فحسب، روائي أميركي ابن «خط الحداثيين الطويل الممتد من جويس مروراً بفولكنر».
لم يكترث النيويوركي ابن عائلة المهاجرين الإيطاليين بأفرادها الـ 11 لكل هذه التصنيفات، بل لم يكن يظن أو يطمح لأن يكون كاتباً. الكتابة هي التي طرقت بابه في منتصف الستينيات بعدما استقال من عمله في وكالة إعلانات، ليبدأ العمل على روايته الأولى «أميريكانا» (1971) عام 1966.
منتصف التسعينيات شهد تحوّلاً كبيراً في أسلوبه ولغته، وبدأ وصفته السحرية في «تشييد الجمل»
حتى القراءة كانت نشاطاً مؤجلاً، إذ لم يبدأ القراءة الجدية إلا بعد نيله شهادته الجامعيّة في فنون الاتصال عام 1958، ليغرق بعدها في أعمال همنغواي، وفولكنر، وجويس، وبيكيت ويدرك أن ثمة عالماً آخر تشيّده الكلمات. بدأ التفرغ لمغامرته الكتابية المدهشة التي أثمرت سبع روايات في تسع سنوات (إحداها «أمازونات» (1980) التي كتبها باسم مستعار كليو بيردوِلْ، ورفض إعادة طباعتها)، ويُنهي عقد السبعينيات، وقد وصل إلى نهاية المرحلة الأولى من تجاهل القراء له واقتصار ورود اسمه في دائرة أكاديمية ضيقة. هنا، كان لا بد من التغيير، لا لجذب شريحة أكبر من القراء فحسب، بل لتغيير ماهية الكتابة بحد ذاتها، لتبدأ حينها حقبة الثمانينيات وصولاً إلى منتصف التسعينيات التي شهدت تحوّلاً كبيراً في أسلوبه ولغته، ويبدأ وصفته السحرية في «تشييد الجمل» وإطلاق إحساسه المرهف بموسيقى اللغة وتكريس طريقته الخاصة في إفراد صفحة بأكملها لكل مقطع في المسوّدات، بحيث يصبح لكل مقطع استقلاليته التامة دون أن يكون ناشزاً عن جسد الرواية. أثمرت هذه المرحلة أربعاً من أهم رواياته: «الأسماء» (1982)، «ضوضاء بيضاء» (1985)، «ليبرا» (1988)، «ماو» (1991)، فانتشر اسمه كواحد من أهم الكتّاب الأميركيين بعد رحيل عمالقة النصف الأول من القرن، وتزايد حضوره ضمن القراء بعد نيله جائزة الكتاب الوطني عن روايته «ضوضاء بيضاء». مع تزايد الحضور، توجّبَ على عاشق العزلة الانغماس أكثر في عزلته ليتأمل في مسيرته السابقة، ويصمّم على انطلاقة جديدة، أو على الأقل إنهاء المسيرة بروايته الأهم. بعد ست سنوات من الصمت شبه التام، تخللته حوارات صحافيّة نادرة، صدرت رائعته «العالم السفلي» (1997) التي رسّخت حضوره وثبّتت اسمه كأحد الأعمدة الأربعة في الأدب الأميركيّ بعد الحرب، إلى جانب كورمك مكارثي، وفيليب روث، وتوماس بنتشن، وصاحب أسلوب نثريّ متفرّد في الأدب المكتوب بالإنكليزية. ومع بداية الألفيّة، هدأ الزخم وبات ميّالاً إلى الروايات القصيرة، مؤكداً أنّ «العالم السفلي» بصفحاتها الثمانمئة وعوالمها المتشابكة، أمست من الماضي. أما المرحلة الحالية، فهي للصمت وروايات النّفَس القصير. اكتفى بخمس روايات خلال 20 عاماً، صدرت آخرها «زيرو كيه» قبل أشهر بحيث يحتفي بعيد ميلاده الثمانين في تشرين الثاني (نوفمبر)، متأملاً صورة بورخيس المعلقة في مكتبه، ومستعرضاً مسيرة كتابية غنية ضمت 17 رواية وخمس مسرحيات ومجموعة قصصية وسيناريو سينمائيّاً، وأكثر من 20 جائزة لم تُتوّج للأسف بـ «نوبل» في ظل تجاهل الأكاديمية السويدية للأدب الأميركي منذ 22 عاماً، مفكّراً في قارئٍ «غريبٍ لا أحد حوله ليتحدث إليه عن الكتب والكتابة – وربما هو كاتب موعود أو شخص وحيد يعوّل على نمط كتابةٍ ما ليستمد منه الراحة في هذا العالم».