خلال مسيرة أدبية امتدت لأكثر من نصف قرن، تمكّن الكاتب النمساوي بيتر هاندكه (73 عاماً) من أن يصبح واحداً من أبرز الأصوات التي تكتب باللغة الألمانية في خريطة الأب العالمي. تنوّعت إبداعات هاندكه بين كتابة الشعر، والرواية، والمسرحيات، والقصص القصيرة، والمقالات. ومع روايته الأولى «الزنابير» تمّكن بشكلٍ فعلي من تطبيق فلسفة فتغنشتاين في اللغة والأدب، ليفتح الباب على مصراعيه نحو العديد من التجارب الطليعية التي تمزج بين الأدب والفن. لعبت صداقته مع المخرج الألماني الكبير فيم فيندرز دوراً كبيراً في تحويل مجموعة من رواياته المرموقة إلى أفلام نذكر منها: «خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء»، و«المرأة العسراء»، و«أجنحة الرغبة». لم تكن طريقه في البداية ممهدة، فقد تعرّض للعديد من المآسي والمشكلات التي أثرّت في كتاباته الأدبية. انتحرت والدته في عام 1971 وقد تناول هذا الانتحار في كتابه «حزن وراء الأحلام» بالإضافة إلى زوج والدته مدمن الكحول الذي كان يعنّفه بشكل مستمر، مما جعله كارهاً للقيود الأسرية. حاول هاندكه خلال كتاباته الأدبية – بقدر المستطاع – أن ينسج حالة من التجانس والتكامل بين الفنون والآداب، فالموسيقى والسينما تلعبان دوراً محورياً في نصوصه. استطاع أن يؤسس مكانة خاصة في عالم الكتابة المسرحية من خلال التفاعل مع الجمهور؛ إذ اعتبره النقاد خليفة برتولد بريخت. لكن هاندكه المشاغب يعدّ واحداً من أكثر الكتّاب في العالم إثارة للجدل؛ خصوصاً بعد موقفه الداعم للنظام الصربي خلال الحرب اليوغسلافية. ومنذ أن نشر مقاله بعنوان «الرحلة إلى الأنهار: العدالة لصربيا»، لم تتوقف أقلام النقاد عن مهاجمته واعتبار تصرفه عنصرياً ينم عن أنانية شخصية، ولم يكن هذا حال النقاد أيضاً بل أفراد شعوب المنطقة كذلك.
رواية عن طبيعة المجتمع الأميركي في السبعينيات
حصد هاندكه العديد من الجوائز الأدبية المرموقة منها: «غيورغ بوشنر – 1973»، و«فرانز كافكا – 2009»، و«إبسن الدولية – 2014». إن القارئ لأعماله يدرك هذا الثراء البصري واللغوي الذي حاول بشكلٍ متواصل التأكيد عليه خلال مسيرته الأدبية والفكرية.
في روايته «رسالة قصيرة للوداع الطويل» (1972) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «منشورات الجمل» (ترجمة نيفين فائق)، يسطر هاندكه أحداث روايته بأسلوب سردي بطيء يُشبه سياسة النفس الطويل. من خلال هذا الأسلوب، يفسح المجال لشخوصه كي يحتلّوا أماكنهم المناسبة في اللعبة السردية. تدور الرواية حول رجل ذي أصول نمساوية يتلقى رسالة من زوجته «يوديث» بأنها راحلة، فيبدأ بالبحث عنها. رحلته الطويلة عبر الولايات المتحدة، تتحوّل إلى محاولة إلى اكتشاف الذات من جديد. لا يفصح الراوي عن طبيعة الخلاف الفعلي مع زوجته لكنه يُسرب لنا من مقطع لآخر بعض الخلافات التي كانت تشتد بينهم. رحلة طويلة امتدت من «بروفيدنس» إلى «فيلادلفيا» إلى «شارع لويس» إلى «أوريغون» وصولاً إلى «لوس أنجيلس» حيث تنتهي الحكاية بلقاء أحد أساطير السينما الأميركية. يقول الراوي: «نعم – قلت – إنني كنت من ناحية خجولاً، ومن ناحية أخرى – فيما يخص مشاعري تجاه يوديث – جانباً. لقد كنت دائماً أتحرج من أن أتخطى ذاتي إليها. يتضح لي أكثر فأكثر، أن طبيعتي الخجولة – التي كنت دائماً أعتمد عليها، لظني أنها لن تسمح لي بتقبل كل شيء – لم تكن سوى نوع من الجبن حين تتحول إلى معيار لمدى حبي. لقد كان غاتسبي العظيم خجولاً فقط فيما يتعلق بأشكال تعامله مع حبه، الذي كان مأخوذاً به. كان مهذباً. أود أن أصير هكذا مهذباً وغير عابئ مثله، إن لم يكن أوان ذلك قد فات».
تتناوب وتيرة هذه الرواية بين الحلم والواقع، فأحياناً نشعر بأن زوجته ليست على قيد الحياة بل مجرد حلم عابر. يقول في أحد المقاطع: «صحيح أننا كنا لا نزال نعيش معاً، لكن كان حالنا يرثى له، بحيث كان كل منا – حين نذهب إلى السباحة على الشاطئ على سبيل المثال – يدهن ظهره بكريم الوقاية من الشمس بنفسه. أقصى ما كنا لا نزال نتحمله، هو أن نسير متجاورين. ومع ذلك لم يعد أحدنا يكاد يترك الآخر وشأنه. بعد تلك المشاهدات كان أحدنا يخرج إلى الشرفة على أقصى تقدير، ثم يخطو باتجاه الآخر في الغرفة مرة أخرى. كان كل منا لا يزال يخاف على الآخر، وحين قمت ذات مرة بضربها في الظلام، بحثت عنها لاحقاً بعد مرور وقت قصير، عانقتها وسألتها إن كانت لا تزال على قيد الحياة». إن هذه الرواية يُمكن اعتبارها احتفاءً بالحياة الأميركية بكل ما لها وعليها من مشاهد، وطقوس، وبشر، وأفلام، ولهجات، ومناظر طبيعية، وأنهار، ومدن، وقرى، وشوارع.
تنهض مشهديات الرواية على مستوياتٍ وصفية عدّة خصوصاً فيما يتعلّق بتفاعل الحواس الخمسة مع الروائح والمشاهد والنطاقات الجغرافية التي عرضتها الكاتب خلال روايته. وعندما نصل إلى الجزء الأخير من الرواية ندرك أن الراوي أعاد عقد صفقته مع الحياة مجدداً من خلال رؤية أخيه النجّار في إحدى المناطق الثلجية الباردة، والذهاب إلى منزل المخرج الأميركي الكبير جون فورد الذي يحدّثه عن السعادة والرضى عن الذات.
تكمن أهمية هذه الرواية في طبيعة تعاملها مع البيئة الأميركية، ومع شكل المجتمع على أنه لوحة ضخمة مليئة بالتفاصيل والأحداث. من يقرأ رواية هاندكه اليوم عن طبيعة المجتمع الأميركي في السبعينيات، يدرك دقته البالغة في التصوير والتناول المعلوماتي. ويُمكننا ملاحظة أن معظم الأشخاص الذين شغلوا مساحة واسعة من السرد على مدار أحداث الرواية؛ يتحولون في النهاية إلى مجرد هوامش زائلة بلا تأثير. وحدها، يوديث تبقى لغز الرواية القابع حتى مع موعد نهايتها كأنّ الفانتازيا والواقع يتداخلان معاً لإعطاء الحلم مساحة أخرى للحضور.